اتفاق التحكيم / الأثر السلبي - عدم اختصاص محاكم الدولة بالفصل في النزاع الذي تم بشأنه الاتفاق على التحكيم / الكتب / التحكيم في المنازعات البحرية / الاثر السلبي لاتفاق التحكيم البحرى
يتمثل الأثر السلبي لاتفاق التحكيم البحــرى فـي اســتــبـعــاد اختصاص المحاكم الوطنية بنظر النزاع أو المنازعات المتفق على حلها تحكيمياً، حيث لا ينبغي للمحاكم الوطنية النظر في النزاع محل اتفاق التحكيم احتراماً لهذا الاتفاق ولإرادة أطرافه، ورغبة في إتيانه لثماره.
أولاً : الاستبعاد في المعاهدات الدولية والقوانين الوطنية:
وأما الاتفاقية الأوروبية للتحكيم التجارى الدولي فقد أوردت الأمر مفصلاً في مادتها السادسة مقررة أنه إذا رفع أحد أطراف اتفاق التحكيم الدعوى أمام القضاء العادى ثم دفع المدعى عليه أمامها بعدم الاختصاص استناداً إلى وجود إتفاق تحكيم فإن الدفع يجب أن يقدم قبل البدء في المرافعة حول الموضوع أو عند البدء فى المرافعة تبعاً لما إذا كان قانون القاضي يعتبر الدفع بعدم الاختصاص من الدفوع الاجرائية أم من الدفوع الموضوعية ، فمعنى ذلك سلب اختصاص هيئة التحكيم فيمتنع عليها بعد ذلك مواصلة النظر في النزاع، وإذا كان حكم التحكيم قد صدر اعتبر كأن لم يكن، ثم أكدت المادة السادسة في فقرتها الرابعة أن وجود اتفاق التحكيم لا يحول دون التقدم للجهات القضائية المختصة بطلب إجراء وقتى أو تحفظي .
وهذا ما أكده القضاء الانجليزى في أحكام بحرية متتالية :
:فمما قرره اللورد "Wilberforce " في الحكم الصادر عن مجلس اللوردات البريطانى فى دعوى "Nova (Jersey) V. Kammgarn
في ديسمبر ١٩٧٦ أنه: «مما لاشك فيه أن اتفاق التحكيم محل الدعوى المنظورة ليس اتفاق تحكيم محلى، ولهذا فإنه منذ الوهلة الأولى كان يجب علي المحكمة تطبيق المادة الأولى من قانون التحكيم ١٩٧٥، وكان وقف الدعوى القضائية أمراً إجبارياً وملزماً».
إن التحكيم في التجارة الدولية سيعاق لو كانت المحاكم الوطنية حرة في رفض الاعتراف باتفاقات التحكيم والأحكام الصادرة بموجبها ، وعقدت الاختصاص لنفسها بالموضوعات محل الاتفاقات التحكيمية.
(ثانيا ) : طبيعة الاستبعاد ، وحدوده :
المعاهدات الدولية لم تحدد المقصود بإحالة المحاكم الوطنية الأطراف للتحكيم، وبالتالي فإن الأمر يحسم بواسطة القوانين الوطنية والممارسات القضائية في الدول محل البحث :
كذلك سنرى ونحن بصدد بحث احتفاظ المحاكم الوطنية الأمريكية بإصدار الأوامر الوقتية أو التحفظية كيف أن المحاكم الأمريكية في حالة وجود حجز تحفظى لاتوقف الدعوى، ولا تأمر بالإحالة للتحكيم فقط ولكنها تحدد مواعيد محددة يجب علي الأطراف رفع دعواهم التحكيمية خلالها، وإلا أعادت المحكمة النظر فى الحجز التحفظي المأمور به.
ما انتهي إليها قانون التحكيم المصرى ١٩٩٤ حين قرر في مادته الثالثة عشرة وجوب تقديم المدعي عليه للدفع قبل إبدائه أى طلب أو دفاع في الدعوى، وإن كنا لاندرى لماذا قرر القانون المصرى بعد ذلك أنه دفع بعدم القبول؟
الدفع بوجود اتفاق التحكيم هو دفع شكلي، فإننا نتساءل عن عدم اختصاص القضاء الوطني بالنزاع لوجود اتفاق تحكيم هو عدم اختصاص مطلق يجب علي المحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها، أم عدم اختصاص نسبى لابد أن يتمسك أحد به الخصوم ؟
إن هذا التطبيق المباشر للمادة (١٤٥٨) علي التحكيم الدولى - حتى عندما لا يكون خاضعاً للقانون الفرنسي مفروضاً لسببين:
( الأول ) : أن هذا النص يتعلق باختصاص المحاكم الوطنية الفرنسية، وبالتالي وبخصوص الاتفاقات الدولية، فإنها لا يمكنها تحديد اختصاصها أو عدم اختصاصها الداخلي أو الدولي إلا بتطبيق القانون الفرنسي الذى يحدد ولايتها ونطاق هذه الولاية.
(الثاني): أن مبدأ عدم اختصاص القضاء الوطني بالنسبة للنزاع موضوع اتفاق التحكيم الداخلي أو الدولي غير قابل للفصل عن طبيعة وهدف النظام فهو يضفى نتيجة لذلك - علي التحكيم الدولى طابع المبدأ الدولى والذى يجب أن يكون محترماً أياً كان القانون الوطني المطبق .
هذا ويترتب على الطبيعة النسبية لعدم اختصاص المحاكم العادية بنظر النزاع محل اتفاق التحكيم نتيجتين:
(الأولى): جواز نزول أطراف اتفاق التحكيم عن هذا الاتفاق بقبولهم اختصاص المحاكم الوطنية وعدم التمسك بالاتفاق التحكيمي .
(الثانية): أن استبعاد اختصاص المحاكم الوطنية من المجال التحكيمي ليس استبعاداً نهائياً حيث يبقي لها دور في العملية التحكيمية:
1- جواز نزول أطراف اتفاق التحكيم عن هذا الاتفاق:
ذكرنا أنه بإبرام اتفاق التحكيم يصير نهائياً ونافذاً في مواجهة أطرافه وبالتالي لا يجوز الرجوع فــيــه بالإرادة المنفردة لأحد هؤلاء الأطراف.
ومن المتفق عليه جواز النزول الصريح عن هذا الاتفاق التحكيمي بموافقة طرفية وذلك بإعرابهما أمام المحكمة القضائية التي رفع أمامها النزاع محل اتفاق التحكيم عن تنازلهما عن هذا الاتفاق، ورغبتهما في استمرار نظر الدعوى أمام المحكمة الوطنية.
وعملاً فإن عديداً من المنازعات سمح باستمرارها في المحكمة القضائية ولم يتم إحالتها للتحكيم عندما توافقت إرادة المدعى وأراد المدعي عليه عدم إحالتها للتحكيم .
هذا وجود فرق آخر يتمثل في جواز رجوع المدعي عن رفع الدعوى القضائية وطلب الإحالة للتحكيم .. فقانون التحكيم الفيدرالي الأمريكي في مادته الثالثة لم يفرق بين المدعى والمدعى عليه في طلب وقف الإجراءات، فالمدعى يملك الحق في التخلى عن الدعوى القضائية التي رفعها فى أى وقت طالما لم يصدر الحكم النهائي .
2- احتفاظ المحاكم الوطنية بالاختصاص فيما يتعلق بالإجراءات الوقتية والتحفظية .
إن استبعاد اختصاص المحاكم الوطنية من المجال التحكيمي، لیس استبعاداً نهائياً، ولكنه استبعاد محدود نطاقه بالمنازعات الموضوعية محل اتفاق التحكيم حيث يبقى للمحاكم الوطنية دور في العملية التحكيمية بداية من المساعدة في تعيين المحكمين حتى المساعدة في تنفيذ حكم التحكيم بعد ذلك، مروراً بالإشراف والرقابة على الإجراءات التحكيمية ، فضلاً عن إمكانية التقدم للمحاكم الوطنية لاتخاذ الإجراءات الوقتية أو التحفظية .
إنه من الصعب في إطار التحكيم البحرى الدولى وضع تعريف موحد للإجراءات الوقتية أو التحفظية فى غياب فكرة عالمية مشتركة بين الأنظمة القضائية الوطنية المختلفة يمكن أن يحيل إليها القضاء الوطني أو القضاء التحكيمي في إطار إجراءات التحكيم البحرى الدولى، وبالتالي فإن القضاء الوطني إذا طلب منه اتخاذ إجراء وقتي أو تحفظى فإنه سيحدد ماهية هذا الإجراء وفقاً لقانونه الوطني بصفته قانون القاضي لمعرفة ما إذا كان الإجراء المطلوب يعد من قبيل الإجراءات الوقتية أو التحفظية او لا يعد كذلك .
إلا أن للمحاكم الوطنية الدور المؤثر في هذا المجال لأسباب لخصها الأستاذ Claude - Goldman فيما يلي :
1- لا توجد محكمة تحكيم دائمة، حيث إن كل نزاع يستأهل تشكيل محكمة تحكيم جديدة أو تعيين محكم وحيد، فإذا طبقنا مبدأ الأثر السلبي لاتفاق التحكيم بكل جوانبه وبما فيه من دقة فإن الأطراف سيجدون أنفسهم في مواجهة قضاء خال يمكن أن يظل هكذا شهوراً عدة بين نشوء النزاع وبين أن يلجأ إليه الأطراف طالبين أمراً وقتياً أو إجراء تحفظياً ، في حين أن هذه الفترة هي التي تنشأ فيها الغالبية العظمى من الحاجات التـحـفـظـيــة فـلا مناص من اللجوء للقضاء الوطني .
2- الإجراءات التحكيمية حضورية، فلا يوجد إجراء بناء على طلب ، لقة وبالتالي فإن أثر المفاجأة قد يؤثر أحياناً على فعالية الإجراءات المقررة.
3- وأخيراً فإن الطابع التعاقدى لاتفاق التحكيم يؤدى بنا إلي نتيجتين :
(أ) المحكم متجرد من أى اختصاص تجاه الغير .
(ب) المحكم متجرد من وسائل الإكراه.
وهكذا تقرر المعاهدة سلطة المحكمة القضائية في توقيع الحجز التحفظى علي السفن واستمرار هذا الحجز رغم الاتفاق علي التحكيم ورغم تحديدها لطرفي الاتفاق التحكيمي مــيـــعـــاداً لرفع الدعوى التحكيمية حول الموضوع حيث لا يتناقض هذا مع احتفاظ المحكمة القضائية بالكفالة أو الضمان المقدم لرفع الحجز لضمان تنفيذ الحكم التحكيمي المنتظر إصداره.
وفي فرنسا: فإن سلطة قاضي الأمور المستعجلة في اتخاذ التدابير الوقائية والتحفظية محاطة بسياج من إرادة الأطراف حيث يستطيع الأطراف الاتفاق علي التنازل عن اختصاص القاضي الفرنسي باتخاذ الإجراءات التحفظية.
وقد ذهب البعض تعليقاً على اتجاه محكمة النقض الفرنسية إلى أنه إذا كان إثبات توافر حالة الاستعجال سيكون أكثر صعوبة عندما تكون محكمة التحكيم قد انعقدت قبلاً، إلا أن اختصاص القاضي الفرنسي رغم ذلك لن يكون مستبعداً خصوصاً وأن حكم التحكيم حول الإجراء التحفظي المطلوب سيكون مجرداً عن الصفة التنفيذية على عكس أوامر قاضى الأمور المستعجلة النافذة مؤقتاً .
وفي قضية أخرى تقول المحكمة: إن المحكمة ترفض طلب المدعى عليه بإبطال أمر استيقاف سفينته الصادر لصالح المدعي قبل اللجوء للتحكيم حيث سمح قانون التحكيم الفيدرالى باستيقاف السفن السابق ، ولكن المحكمة نبهت إلي أنه سيعاد النظر في رفض للتحكيم .
وهكذا فإن وجود اتفاق التحكيم لا يعنى منع القضاء من سلطة إصدار الأوامر الوقتية والتحفيظية التي يراها مناسبة وفقاً لقواعد قانون المرافعات المعمول بها في دولة القاضي حيث لم يرد في اتفاقية نيويورك ما يحول دون استمرار العمل بذلك الأصل القانوني المستقر أو ينتقص من ولاية القضاء الوطنى فى ذلك المجال الذي يخرج عن دائرة الأمور المتفق على ترك الفصل فيها للتحكيم .
(ثالثاً) هل يشترط لجواز تمسك صاحب المصلحة بوقف الدعوى القضائية أن تكون الإجراءات التحكيمية قد بدأت بالفعل ؟ أم يجوز له التمسك بهذا الوقف لمجرد وجود اتفاق التحكيم حتى قبل عقد التحكيم ؟
ذهب غالبية الفقه إلى أنه لا يشترط لجواز تمسك صاحب المصلحة بوقف الدعوى القضائية أن تكون الإجراءات التحكيمية قد بدأت بالفعل :
فذهب البعض إلي وجوب أن تحكم المحكمة الوطنية بعدم اختصاصها بنظر النزاع محل اتفاق التحكيم سواء أكانت الإجراءات التحكيـمـيـة قد بدأت بالفعل أم لم تكن قد بدأت بـعـد. ففي الحالتين تحكم المحكمة الوطنية بوقف الإجراءات السارية أمامها. وإذا نوزع في اختصاص المحكم إذا كانت الإجراءات التحكيمية قد بدأت بالفعل.
(رابعاً) موانع استبعاد اختصاص المحاكم الوطنية بنظر النزاع محل اتفاق التحكيم
أجمعت المعاهدات الدولية المتعلقة بالتحكيم علي وجود بعض الموانع التي تحول دون تطبيق الأثر السلبي لاتفاق التحكيم باستبعاد ولاية المحاكم الوطنية بنظر النزاع محل اتفاق التحكيم.
ففى انجلترا: قررت المادة الأولى من قانون التحكيم ١٩٧٥ ما جاء في اتفاقية نيويورك ١٩٥٨ ، وزادت عليه، عندما قررت وجوب وقف الدعوى مالم تر المحكمة :
أ- أن اتفاق التحكيم باطل، من غير الممكن إعماله أو غير قابل للتطبيق، وزادت :
ب- إذا لم يكن هناك نزاع بين الأطراف بخصوص الموضوع المتفق على إحالته للتحكيم.
ومن التطبيقات القضائية الأمريكية ما قضى به من رفض المحكمة الدفع بوقف الإجراءات حيث كانت مشارطة الإيجار تنص علي أن: «أى نزاع ناشئ طبقاً للمشارطة يجب إحالته للتحكيم»، وحيث إن الدعوى المنظورة والمتعلقة بالتعويض عن موت ثلاثة من طاقم السفينة لم تنشأ ولم تتعلق بالمشارطة المذكورة .
وكذلك قضي برفض الدفع المقدم من المدعى الشاحن بوقف الإجراءات لوجود شرط يقضي بالتحكيم في نيوريورك .
وهكذا ينطبق هنا ماسبق أن قررناه بشأن الموقف الانجليزي حيث إن معظم الحالات المعروضة تتعلق باتفاقات التحكيم غير الممكن إعمالها أو غير القابلة للتطبيق في حين تقل المنازعات المتعلقة بإبطال اتفاق التحكيم لتخلف شروط صحته كما تحرص جميع التشريعات وأحكام القضاء الوطني في الدول محل البحث علي تضييق دائرة الموانع التي تحول دون استبعاد اختصاص القضاء الوطني بالمنازعات محل اتفاق التحكيم تشجيعاً للتحكيم في منازعات التجارة البحرية.