اتفاق التحكيم كأي عقد آخر وليد إرادة أطرافه ، وعليه فإنه يحكمه ما يحكم العقود جميعا ولاسيما مبدأ القوة الملزمة للعقود النابعة من ( العقد شريعة المتعاقدين ).
لذا فإن مقتضى القوة الملزمة لاتفاق التحكيم هو التزام الأطراف بضرورة قيام كل منهم بالمساهمة في اتخاذ إجراءات التحكيم ، والامتناع عن عرض نزاعه علي قضاء الدولة.
ليس هذا فحسب ، بل لا يستطيع أحد طرفي التحكيم التنصل من إجراءات التحكيم بإرادته المنفردة ، كما لا يجوز له أن ينقضه أو يعد له. وإن حاول ذلك كان في مكنة الطرف الآخر إجباره علي تنفيذ التزاماته عينية. (۱) فإذا رفض
أحد الأطراف أو امتنع عن المشاركة في التحكيم أو في أي مرحلة من مراحله .
أولا : القوانين الدولية المقارنة :
ففي مصر عالج المشرع المصري جزاء الإخلال بالقوة الملزمة لاتفاق التحكيم بالمادة 17 من قانون التحكيم المصري رقم ۲۷ لسنة 1994 الذي جاء نصها ( لطرفي التحكيم الاتفاق علي اختيار المحكمين وعلي كيفية ووقت اختيارهم فإذا لم يتفقا اتبع ما يلي ..... ). ويلاحظ من النص السالف أن المشرع المصري سد الطريق أمام الطرف الذي يحاول إهدار قيمة اتفاق التحكيم ، بتنصله من بدء الإجراءات أو مساهمته في تعيين هيئة التحكيم ، فإن القانون جعل المحكمة المختصة أصلا بنظر النزاع - بالنسبة للتحكيم الوطني ، أو محكمة استئناف القاهرة بالنسبة للتحكيم التجاري الدولي أو لأية محكمة استئناف أخرى يتفق عليها الخصوم - مهمة تعيين المحكم بناء على طلب الطرف الآخر.
وكذلك الحال إذا خالف أحد الطرفين إجراءات اختيار المحكمين التي اتفقا عليها ، أو لم يتفق المحكمان المعينان علي أمر مما يلزم اتفاقهما عليه تولت المحكمة المشار إليها القيام بالإجراءات أو العمل المطلوب. وفضلا عن ذلك فإن المشرع المصري حرص أيضا علي النص بالمادة ۱۳| الفقرة الثانية علي أنه لا يحول رفع الدعوى المشار إليها في الفقرة السابقة دون البدء في إجراءات التحكيم أو الاستمرار فيها أو إصدار حكم تحكيم) وهذا يدل علي أن المشرع المصري أغلق الباب علي من يحاول عرقلة سير التحكيم بعد الاتفاق عليه برفع دعوى أمام المحكمة بشأن نزاع متفق علي التحكيم بشأنه ، وذلك بجعل هذه الدعوى لا تؤثر علي الاستمرار في التحكيم والحكم فيه. وهذا السبب أيضا جعل المشرع المصري ينص بالمادة ۳/۱۹ على أنه لا يترتب علي تقديم طلب الرد وقف إجراءات التحكيم........ .
ونص المشرع الكويتي بالمادة ۱۷5 من قانون المرافعات الكويتي علي أنه ( إذا وقع النزاع ولم يكن الخصوم قد اتفقوا على المحكمين أو امتنع واحد أو أكثر من المحكمين المتفق عليهم عن العمل أو اعتزله أو عزل عنه أو حكم برده أو قام مانع من مباشرته له ولم يكن هناك اتفاق في هذا الشأن بين الخصوم عينت المحكمة المختصة أصلا بنظر النزاع من يلزم من المحكمين .......) بل إن المشرع الكويتي حصن القضاء الصادر من هذه المحكمة بالنص على عدم جواز الطعن في الحكم الصادر بتعيين المحكم بأي طريق من طرق الطعن.
ونص المشرع التونسي بالفصل 18 من قانون التحكيم التونسي رقم 4۲ السنة ۱۹۹۳ وهو بصدد تنظيم التحكيم الداخلي على أنه (........ عند تعذر الاتفاق بين الأطراف أو بين المحكمين على تعيين المحكم فإن رئيس المحكمة الابتدائية التي يوجد بدائرتها مقر التحكيم يتولى - بناء على طلب أحد الأطراف - تعيين المحكم بقرار استعجالي ......... . و كما نص بالفصل 56 من ذات القانون وهو بصدد تنظيم التحكيم الدولي علي أنه (.......... إذا لم يتفق المحكمان علي المحكم الثالث خلال ثلاثين يوما من تعيينهما وجب أن يقوم بتعيينه بناء على طلب الأطراف الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بتونس بقرار استعجالي .......
الاتفاقية التي جاء نصها (۲- إذا لم يحضر أحد الطرفين أمام المحكمة أو فشل في تقديم دعواه خلال أية مرحلة من مراحل الإجراءات فإن من حق الطرف الآخر أن يطلب من المحكمة- هيئة التحكيم - اتخاذ قرار بشأن النزاع....... ). القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الذي أعدته لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي الصادر عام 1985 نص في العديد من مواده علي قواعد تؤكد القوة الملزمة لاتفاق التحكيم وتمنع من عرقلة السير في إجراءاته بما يكفل تحقيق اتفاق التحكيم وأهدافه ومن هذه المواد :
1- ما نصت عليه المادة ۱۱ الفقرة ۳ على أنه ( ....... إذا لم يستطع
الطرفان الاتفاق على المحكم وجب أن تقوم بتعيينه ، بناء على طلب أحد
الطرفين ، المحكمة أو السلطة المسماة في المادة 6).
۲- ما نصت عليه المادة ۱۳ بشأن رد المحكمين بالفقرة ۳ ( إذا لم يقبل طلب
الرد ........ جاز للطرف الذي قدم طلب الرد أن يطلب من المحكمة أو السلطة المسماة بالمادة 6 ........ أن تثبت في طلب الرد........ وريثما يتم الفصل في هذا الطلب يجوز لهيئة التحكيم ، بما في ذلك المحكم المطلوب رده أن تواصل إجراءات التحكيم وأن تصدر قرار تحكيم).
ويتضح من هذا النص أن القانون النموذجي قد فوت الفرصة علي من يحاول اتخاذ إجراءات رد المحكم كسبب لتعطيل الفصل في التحكيم ، فأجاز له اللجوء إلى المحكمة أو السلطة المختصة للبت في طلب الرد الذي قررت هيئة التحكيم عدم قبوله ، ومع ذلك لم يوقف إجراءات التحكيم وأجاز لهيئة التحكيم إصدار قرار التحكيم.
٣- ما نصت عليه المادة 16 بالفقرة الثالثة بشأن اختصاص هيئة التحكيم بالبت في اختصاصها حيث قررت ( 3- يجوز لهيئة التحكيم أن تفصل في.......
رأى الباحث :
بعد عرض هذه الآراء الفقهية واتجاه محكمة النقض المصرية فإننا نري أن الرأي القائل بأن اتفاق التحكيم ليس من شأنه قطع التقادم وأن التقادم ينقطع بالأسباب الواردة حصرة بالقانون المدني ، محل نظر ، وذلك لأن القانون المدني المصري بعد أن نص علي الأسباب التي تنقطع بها مدة التقادم كالمطالبة القضائية والتنبيه والحجز فقد جاء بنص عام وهو ( أو بأي عمل يقوم به الدائن للتمسك بحقه أثناء السير في إحدى الدعاوى ). فهذا النص يمكن أن نستخلص منه أن المشرع المصري أراد أن يقطع التقادم عندما يظهر الدائن أنه مازال متمسكا بحقه ولم يتنازل أو يتقاعس عن طلبه حتى يسقط بالتقادم.
ولذا فإننا نرجح الرأي القائل بأن اتفاق التحكيم يقطع التقادم وذلك لأن الاتفاق علي التحكيم دليل مباشر على أن الدائن ما زال متمسكا بحقه ولم يتنازل عنه - ولاسيما أن الاتفاق على التحكيم سيحدد موضوع النزاع وسيبين منه انه مازال متمسكة بهذا الحق.
ثانيا : إبرام اتفاق التحكيم بعد رفع الدعوى :
لا خلاف في هذه الحالة أن التقادم علي أصل الحق ينقطع بالمطالبة القضائية ، فالتقادم في مثل هذه الحالة لا ينقطع بإبرام اتفاق التحكيم ، وإنما برفع الدعوى أمام القضاء. ويظل هذا الأثر ما دامت الخصومة قائمة ، ويبقي أصل الحق في مأمن من أي سقوط أساسه مضي المدة.
وإذا حدث انقطاع كأثر لإبرام اتفاق التحكيم فإن مدة سقوط جديدة للحق تبدأ بعد الانقطاع الذي حدث كأثر للمطالبة بالحق أمام المحكم. ويبدأ حساب مدة السقوط بعد انقضاء الخصومة أمام المحكم دون صدور حكم في الموضوع سواء بانتهاء المهلة المحددة اتفاقأ أو قانونا لإصدار حكم التحكيم .
وإذا حدد القانون میعادة يتعين رفع الدعوى خلاله وإلا انقضى الحق في إقامة الدعوى ، فإن إبرام اتفاق التحكيم - حول الحق الذي ترفع الدعوى لاقتضائه - يقطع مدة التقادم فلا يسقط الحق في إقامة الدعوى وتبدأ مدة سقوط جديدة للخصومة تحسب كما ذكرنا سلفا.
ومن الجدير بالذكر أن قيام القوة القاهرة ليس من شأنه إهدار اتفاق التحكيم وإنما كل ما يترتب عليه هو وقف سريان الميعاد المحدد لعرض النزاع على التحكيم إن كان له میعاد محدد. وذلك لأن أثر القوة القاهرة علي المواعيد أصل من أصول التقاضي سواء تم ذلك أمام القاضي أو المحكم. وهذا الرأي أخذت به محكمة النقض المصرية في حكمها الصادر بجلسة ۱۹۹۵/۹/۱۹
الأثر الإيجابي لاتفاق التحكيم
ومقتضى ثبوت سلطة الفصل في النزاع لقضاء التحكيم ، أن يبدأ الأطراف المحتكمون في اتخاذ إجراءات التحكيم ، التي تبدأ من اليوم الذي يتسلم فيه المدعي عليه إخطار أو طلب التحكيم من المدعي ، ثم قيامهم بتشكيل هيئة التحكيم، والاتفاق على الإجراءات اللازمة لتيسير المهمة التحكيمة ، وانتهاء بالتزام بالتنفيذ الاختياري للحكم الصادر في النزاع والاعتداد به ، واعتباره كأنه قد صدر من المحكمة المختصة أصلا بنظر النزاع .
ويترتب على الأثر الإيجابي لاتفاق التحكيم أن سلطة هيئة التحكيم تتحدد
وتنحصر في إطار المنازعات المتفق بشأنها على التحكيم دون سواها من المنازعات التي قد تنشأ بين الأطراف ولا يوجد بشأنها اتفاق تحكيم. بل تتحدد أيضا باطراف اتفاق التحكيم ، فلا يمكن الاحتجاج به علي من لم يكن طرفا فيه ولا يمكن للغير أيضا أن يتمسك به في مواجهة من هم أطراف فيه ، وهو ما يطلق عليه مبدا نسبية آثار اتفاق التحكيم من حيث الأطراف والموضوع . وهذا ما سنعرض له تفصيلا في الفصل الثاني من هذا الباب تحت عنوان نطاق تطبيق اتفاق التحكيم.