المفهوم التقليدي لاستقلال شرط التحكيم "استقلال اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي"
حيث يختلف موضوع كلا العقدين، فاتفاق التحكيم عقد يرد على الإجراءات، ولا شأن له بموضوع العقد الأصلي، فينصب محله على الفصل في المنازعات الناشئة عن الشروط الموضوعية التي يتضمنها العقد الأصلي، وهو ما يترتب عليه كون اتفاق التحكيم لا يعد مجرد شرط وارد في العقد الأصلي، بل هو عبارة عن عقد آخر من طبيعة مختلفة. فعرف بعض الفقه استقلالية اتفاق التحكيم بكون اتفاق التحكيم الوارد في العقد عقدا قائما بذاته، رغم أنه ليس إلا جزءا من هذا العقد أو أحد بنوده.
وحول هذه النقطة، فإن السوابق القضائية الفرنسية، لا تعول على ما عدم إذا كان يتم طرح مسألة المشروعية كأمر رئيسي أو حادث. ورأت محكمة باريس La Cour de Paris" أن "بطلان الحل التوفيقي لا ينشأ عن حقيقة أن النزاع يتعلق بمسائل النظام العام، لمجرد انتهاك النظام العام". والسبب هو أنه إذا كان المحكم بإمكانه الحكم على المشروعية، فيجب السماح له بذلك ليس بصورة عرضية ولكن أيضا بشكل أساسي.
وفي تعريف رابع، شرط التحكيم مستقل قانوناً عن العقد الأصلي، مصدر الرابطة القانونية، فهو تصرف قانوني مستقل، وقائم بذاته، إن تضمنه العقد الأصلي؛ ومن ثم فقد يتصور صحة شرط التحكيم، رغم بطلان العقد الأصلي، والذي تضمنه هذا الشرط. إلا إذا كان سبب البطلان يشمل أيضا شرط التحكيم.
وفي تعريف خامس، المقصود باستقلالية اتفاق التحكيم هو ألا يتأثر ذلك الاتفاق سواء كان في صورة شرط تحكيم أو مشارطة، بصحة العقد المتعلق به، وهذا ما يترتب عليه استمرار اتفاق التحكيم رغم البطلان المحتمل للعقد الأصلي؛ والعكس أيضا صحيح أي أن بطلان اتفاق التحكيم لا يرتب بطلان العقد الأصلي.
وخلاصة هذه التعريفات أنها تبين عدم وجود علاقة تربط بين اتفاق التحكيم والعقد الأصلي الذي يتضمنه في حالة ما إذا أصاب العقد الأصلي عيب يؤدي إلى زواله. وعلى الرغم من وضوح هذه النظرية إلا أنها كانت محلاً للجدل والنقاش، إذ ظهرت الحاجة في العديد من الأنظمة القانونية إلى ضرورة بحث العلاقة التي تربط بين العقد الأصلي الذي يثار النزاع بمناسبته، وبين الاتفاق على التحكيم. وهناك تعريفات ذكرت بعض الحالات التي تثير هذه الاستقلالية مثل حالة بطلان أو فسخ العقد الأصلي حيث لا يؤثر ذلك على اتفاق التحكيم، فيبقى قائماً ومنتجاً لآثاره ما دام كان صحيحاً ولا يشوبه أي عیوب، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن مسألة العلاقة بين اتفاق التحكيم والعقد الأصلي، قد تثور في فرض معاكس، وهو أن يكون العقد الأصلي صحيحاً، ويكون الاتفاق الذي لحق به العارض القانوني هو اتفاق التحكيم ذاته.
وأياً كانت الصور العديدة التي تثور فيها مسألة العلاقة بين العقد الأصلي واتفاق التحكيم، فإن تقرير استقلالية اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي يؤدي إلى قبول إخضاع العقد الأصلي لنظام قانوني يختلف عن ذلك الذي يحكم اتفاق التحكيم. أما القول بعدم استقلالية اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي فيعني إخضاع كل من العقد الأصلي واتفاق التحكيم إلى ذات النظام القانوني.
وتجدر الإشارة إلى أن القضاء الفرنسي وإن جرى الأمر بداية على التمسك بمبدأ تبعية شرط التحكيم للعقد الأصلي، ورتب على ذلك حرمان المحكم من نظر المنازعات المتعلقة ببطلان العقد، إلا أن الأمر شهد تطوراً، حيث أصدر القضاء الفرنسي في السابع من مايو 1963، حكماً يقضي باستقلالية شرط التحكيم عن العقد الأصلي، مفرقاً في ذلك بين التحكيم في الداخلي والتحكيم التجاري الدولي، فأجاز مبدأ استقلال شرط التحكيم العلاقات الخارجية الدولية، ومانعاً ذلك في العلاقات الداخلية.
وتأسيساً على ذلك اعترف أغلب الفقه بأن القضاء الفرنسي هو من وضع حدا للجدل الذي كان قد ثار في الفقه حول استقلالية شرط التحكيم عن العقد الأصلي.
ويرى البعض أنه ليس أدل على انتفاء الطبيعة التعاقدية للتحكيم التجاري الدولي من هذا الاتجاه الذي أصبح مستقراً في القضاء باستقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي، إذ لا يتأثر شرط التحكيم باحتمال فسخ أو بطلان العقد الذي كان هذا الشرط أحد بنوده، ولقد كانت هذه المسألة محل تردد في القضاء الفرنسي يوم كانت الصبغة التعاقدية هي الغالبة على طبيعة التحكيم، حيث كانت ظلال هذا العقد الذي تنشأ المنازعة بسببه تمتد لتشمل شرط التحكيم وتربط مصيره بمصير هذه العلاقة التعاقدية، غير أنه بتطور التحكيم التجاري الدولي وتأكيده لأصالته واستقلاله كقضاء لحل المنازعات التي تثيرها في التجارة الدولية أصبح بالتالي شرط التحكيم يتمتع بهذه الاستقلالية والأصالة. وقد أصبح المبدأ المذكور من الأمور المسلم بها في التحكيم التجاري الدولي حتى وإن لم ينص عليها المشرع الفرنسي في قانونه.
وكما أشرنا سابقاً إلى أن المادة 1446 نصت على أنه إذا كان شرط التحكيم باطلاً فإنه يعتبر كأن لم يكن، وتظهر أهمية هذا النص بالنسبة للحالات التي يتفق فيها الأطراف على التحكيم ثم يتبين أن القانون يمنع التحكيم فيها أو أن اتفاق التحكيم باطل فما هو مصير العقد الأصلي؟ فإذا انصب التحكيم على إحدى المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم يكون التحكيم باطلاً بطلانا مطلقاً، ومع ذلك يبقى العقد الأصلي صحيحاً منتجاً لكافة آثاره القانونية ويفصل القضاء العادي في منازعاته والعكس صحيح.
ومما سبق كله نستخلص أنه أصبح من المسلم به أن الأمر يتعلق بمبدأ عام من مبادئ القانون التجاري الدولي، وأن مبدأ استقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي من المبادئ المستقرة سواء في القوانين الوطنية أو الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وكذلك في أنظمة ولوائح مراكز التحكيم الدائمة، كما أشارت إليها العديد من أحكام التحكيم، وهو ما يؤكد ويوضح اعتبار هذا المبدأ من المبادئ العامة المستقر عليها في القانون التجاري الدولي.