بدأت محكمة النقض الفرنسية فيما يتعلق بالتحكيم التجاري الدولي بالاعتراف بمبدأ استقلالية اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي ، وذلك من خلال حكمها الصادر في القضية المعروفة باسم قضية Gosset والصادر بتاريخ ١٩٦٣/٥/٧ حيث أقرت مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم ، أو سلطان اتفاق التحكيم . فلقد ذهبت المحكمة إلي أنه في إطار التحكيم التجاري الدولي ، فإن اتفاق التحكيم سواء تم هذا الاتفاق علي نحو منفصل ومستقل عن التصرف القانوني الأصلي أو تم إدراجه به فإنه يتمتع دائما ، إلا إذا ظهرت ظروف استثنائيه ، باستقلال قانوني كامل ، يستبعد معه أن يتأثر اتفاق التحكيم بأي بطلان محتمل يلحق بهذا التصرف " " ومما قالته المحكمة أيضا لتبرير هذا الاستقلال أن اتفاق التحكيم وإن أدرج في العقد فإنه يرد علي موضوع غير موضوع العقد .
والنزاع الذي أقرت فية محكمة النقض الفرنسية مبدأ الاستقلالية بحكمها المشار إليه كان متعلقا بقضية (Gosset عل Carapelli) بشأن تنفيذ حكم تحكيم صدر في إيطاليا بناءا علي شرط تحكيم وارد ضمن العقـــــد المبرم بين مستورد فرنسي ومصدر إيطالي وكان الحكم قد قضي بالتعويض للمصدر الإيطالي يسيب خطأ المستورد الفرنسي في تنفيذ التزاماته التعاقدية ، وكان المستورد الفرنسي قد دفع بعدم جواز تنفيذ حكم التحكيم لبطلان العقد الأصلي الذي تضمن شرط التحكيم ، وذلك لمخالفة ذلك العقد للقواعد الآمرة بشأن الاستيراد في القانون الفرنسي وبالتالي يعتبر باطلا بطلانا مطلقا لمخالفته للنظام العام الفرنسي ، الأمر الذي يستتبع بطلان شرط التحكيم بالتبعية لبطلان العقد الأصلي ومن ثم يبطل حكم التحكيم الصادر بناءا علي شرط تحكيم باطل ، إلا أن محكمة النقض الفرنسية رفضت ذلك إعمالا لمبدأ استقلالية اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي .
وعلي ذلك وللوقوف علي مدي إقرار مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم في التشريعات الوضعية لمختلف الدول وكذلك المعاهدات الدولية في هذا الشأن ولوائح التحكيم وما استقر عليه قضاء هيئات التحكيم الدولية ، فلابد من التعرف علي موقف كل منهم لبيان إلي أي مدي تم إقرار هذا المبدأ ، وأنه قد أصبح مبدأ من المبادئ العامة للتحكيم في العلاقات الدولية الخاصة ، أم ماذا ، حيث انه إذا ما انتهينا إلي أن هذا المبدأ قد أصبح من المبادئ العامة في التحكيم ، بات أيضا الأمر مستقرا علي انعقاد الاختصاص للمحكم أو هيئة التحكيم بشأن الفصل في صحة اتفاق التحكيم الذي يستمد منه المحكم أو هيئة التحكيم الاختصاص بنظر النزاع المتعلق به اتفاق التحكيم ، وهذه المسألة هي إختصاص المحكم بالفصل في اختصاصه ، هذا ناحية ، ومن ناحية أخري أضحي أيضا الأمر مستقرا استنادا لهذا المبدأ - الاستقلالية - علي اختصاص المحكم أو هيئة التحكيم بالفصل فيما يثار بشأن صحة أو بطلان العقد الأصلي المتضمن شرط التحكيم .
أولا : المعاهدات الدولية ومبدأ استقلالية اتفاق التحكيم :-
بمراجعة المعاهدات والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم وموضوعاته لم نجد أنه قد جاء نص صريح يقرر استقلالية شرط التحكيم العقد الأصلي الذي تضمنه ، حيث قد جاءت الإشارة إلي مبدأ الاستقلالية بطريقة غير مباشرة ، ويتضح ذلك كما يلي :-
اتفاقية واشنطن ١٩٦٥ : -
وبالنسبة لاتفاقية واشنطن التي أنشأت المركز الدولي لفض المنازعات الناشئة عن الاستثمار ، فقد أكدت علي أن محكمة التحكيم هي القاضي بالنسبة لمسألة اختصاصها ، وهي بذلك تكون أيضــا قد أقرت مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم بشكل ضمني ويستفاد ذلك من نص المادة ٤١ من نصوص الاتفاقية .
موقف المعاهدات الدولية الرئيسية المتعلقة بالتحكيم حيث اتضح أنها لم تشر بشكل صريح إلي قبول مبدأ الاستقلالية ، وإن كان يمكن استخلاصه بصورة ضمنية استنادا لإقرار تلك المعاهدات للنتائج المترتبة علي مبدأ الاستقلالية بما يعني ضمنيا اعترافها بهذا المبدأ وإن كان ليس صريحا .
ثانيا :- - التشريعات الوضعية الوطنية ومبدأ الاستقلالية :-
بمراجعة التشريعات الحديثة الصادرة في مختلف الدول نجد أن معظم هذه التشريعات قد نصت صراحة علي مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم . فقد أكد المشرع المصري علي مبدأ الاستقلالية في قانون التحكيم الجديد رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤ ، حيث نصت المادة ٢٣ مـن هـذا القانون علي أن (( يعتبر شرط التحكيم اتفاقا مستقلا عن شروط العقم الأخرى . ولا يترتب علـــــي بطلان العقد أو فسخه أو إنهائه أي أثر علي شرط التحكيم الذي يتضمنه ، إذا كان هذا الشرط صحيحا في ذاته )) . استقلالية اتفاق التحكيم مع ما يترتب علي هذا المبدأ من نتائج من أهمـــها مــدي اختصاص المحكم أو هيئة التحكيم بالفصل في مسألة الاختصاص ، وقد حسم المشرع المصري أيضـا تلك المسألة المادة ۲۲ فقرة أولي الذي جاء بأن (( تفصل هيئة التحكيم في الدفوع اختصاصها بما في ذلك الدفوع المبنية علي عدم وجود اتفاق تحكيم أو سقوطه أو بطلانه أو عدم شموله . الموضوع النزاع )).
هذا وإذا كان مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم قد قررته مختلف التشريعات علي النحو السابق ، فإن الأمر في بعض الدول لم يتم إقراره بموجب نصوص قانونية بل جاء من خلال أحكام القضاء وعلي سبيل المثال الوضع الذي سبق وإن أوضحناه في القانون الفرنسي من إقرار محكمة النقض الفرنسية وتابعتها في ذلك محاكم الاستئناف الفرنسية من اعترافهم بمبدأ استقلالية اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي بصورة مستقرة ومتواترة .
قضاء التحكيم الدولى ومبدأ الاستقلالية
ومـــــن الأحكام التي قامت فيها محاكم التحكيم بأعمال مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم ، وإن اتفاق التحكيم يظل قائما علي الرغم من إنهاء العقد الأصلي، ما جاءت به الأحكام الصادرة في التحكيمات الثلاثة الصادرة في المنازعات بين الحكومة الليبية والشركات الأجنبية من أعمالها لمبدأ استقلالية اتفاق التحكيم وتأكيدها علي أن اتفاق التحكيم يظل قائما علي الرغم من إنهاء عقد الامتياز الذي قامت به الحكومة الليبية وأن هذا الاتفاق يعتبر أساسا لاختصاص محكمة التحكيم . وكان أول هذه الأحكام الصادرة بتاريخ ١٠ أكتوبر ۱۹۷۳ الذي أصدره المحكم المنفرد M. lagergren في قضية .B P ضد ليبيا حيث يستفاد ضمنيا أعمال المحكم لمبدأ استقلالية اتفاق التحكيم ، من خلال الرد الذي أورده علي تمسك شركة B.P من أن التأميم والإجراءات اللاحقة عليه لا أثر لها في إنهاء عقـــــد الامتياز والذي يظل صحيحا وقابلا للتطبيق : حيث ذهب المحكم إلي أن القانون الصادر بالتأميم قــــد أني عقد الامتياز الممنوح إلي شركة B. P باستثناء أثر عقد الامتياز الذي يعد أساسا لاختصـــــاص هذه المحكمة ويعد أيضا أساسا لحق الشرطة الطالبة في المطالبة بالتعويضات قبل المدعي عليــــه أمــام محكمة التحكيم والحكم الثاني في قضية تكساكو ضد الحكومة الليبية وقد انتهي فيها الأستاذ Dupuy بصورة أكثر صراحة من الحكم السابق إعمالا لمبدأ الاستقلالية ، حيث قرر في حكمـــــة التمهيدي بتاريخ ١٩٧٥/١١/٢٧ بشأن الفصل في مسألة اختصاصه ، رفضه لما تمسكت به الحكومة الليبية من أن التأميم قد أنهي عقود الامتياز وإن هذا الأثر يتعين أن يمتد إلى شرط التحكيم المدرج بها ، مستندا في ذلك إلي مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم . وفي الحكم الثالث الذي أصدره المحكم المنفرد ( M. Sobhi Mahmassani في قضية ليامكو ضد الحكومة الليبية Libye ضد Liamco والصادر بتاريخ ١٩٧٧/٤/١٢ ، وقد انتهي فيه المحكم إلي أنه من المتفق عليه ( أو من المقبول ) بصفة عامة سواء في الممارسات العمليه أو في القانون الدولي بقاء شرط التحكيم بعد قيام الدولة بإلغاء العقد بإرادتها المنفردة ، والذي يظل ساري المفعول حتى بعـــد هــذا الإنهاء .
لوائح التحكيم ومبدأ الاستقلالية : - ١- قواعد غرفة التجارة الدولية في هذا الشأن :-
القاعدة وفقا لنظام غرفة التجارة الدولية بباريس ، وفقا للفقرة الثالثة من المادة الثامنة ، إن أي نزاع حول وجود اتفاق التحكيم أو صحته يطرح ابتداء علي الهيئة الدائمة في غرفة التجارة الدولية بباريس ، وهي محكمة التحكيم (The court of Arbitration فإذا اتضح لهذه الهيئة عدم وجود اتفاق تحكيم أو أنه ظاهر البطلان استبعدت طلب التحكيم أما في غير تلك الحالات فتأمر باستمرار إجراءات التحكيم علي أساس أنها تترك للمحكم الذي يحال إليه التراع سلطة الفصل في الاعتراضات التي يمكن أن تثار في شأن اختصاصه . وتأكيدا لمبدأ الاستقلالية في أوسع مفهوم له ، فقد قررت الفقرة الرابعة من المادة الثامنة ، امتداد سلطة المحكم للنظر في أي إدعاء يثار أمامه حـــــول انعدام العقد الأصلي أو بطلانه ومدي تأثير ذلك علي اتفاق التحكيم ذاته وكافه الآثار المترتبة علــي ثبوت أي من تلك الادعاءات . حيث تنص اللائحة مادة ٤/٨ علي أنه طالما لم يوجد شرط مخالف فإنه لا يترتب علي التمسك ببطلان أو انعدام العقد المدعي به ، عدم اختصاص المحكم ، إذا استمسك هذا الأخير بصحة اتفاق التحكيم إذ يظل المحكم مختصا ، حتى في حالة انعدام أو بطلان العقد وذلك بغرض تحديد الحقوق المتبادلة للأطراف وللفصل في طلباتهم. ومؤدي ذلك أن الادعاء بانعدام العقد الأصلي أو بطلانه بطلانا مطلقا لا يحول دون اختصاص المحكم بالنظر في اتفاق التحكيم استقلالا . وأنه إذا ما اطمأن إلي وجود اتفاق تحكيم وصحته فإنه يستمر في نظر القضية ويكون لــــــه البحث في الاعتراضات التي تثور حول انعدام العقد الأصلي أو بطلانه بطلانا مطلقا ، ويكون له أن يحدد الحقوق المتبادلة للأطراف عند التأكد من وجود شئ من ذلك ويفصل في طلباتهم ومختلف منازعاتهم . وعلي ذلك نجد أن مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي بأوسع مفهوم له وما يستتبعه من حق المحكم في تقرير اختصاصه من الأمور التي أقرتها واعترفت بما قواعد تحكيــــم عـرفــــة التجارة الدولية ، والتي تكون هي الواجبة التطبيق متي تضمن اتفاق التحكيم الاشارة إلي أن التحكيم سيتم بالتطبيق لها .
قواعد لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولي ( UNCITRAL )
ونجد أيضا أن لائحة التحكيم التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في ٢٨ إبريل ١٩٧٦ والتي أعدتها لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري والتي أوصت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأعمـــال أحكامها علي حل المنازعات الناشئة عن علاقات التجارة الدولية قد تضمنت الإقرار والاعتراف بمبداً استقلالية اتفاق التحكيم واختصاص المحكم بالفصل في مسألة اختصاصه فقد جاء نص المادة ٢١ من اللائحة في فقرتها الأولي بأن (( تفصل هيئة التحكيم في الدفوع المثارة بشأن عدم اختصاصها ، بما في ذلك كل دفع يتعلق بوجود وصحة شرط التحكيم أو اتفاق التحكيم المستقل )). وجاءت الفقرة الثانية بأن (( لهيئة التحكيم الاختصاص بالفصل في وجود وصحة العقد الأصلي الذي يعد شرط التحكيم جزءا منه )) . وفي حكم المادة ۲۱ ، يعامل شرط التحكيم الذي يكون جزءا من والذي ينص علي التحكيم وفقا للائحة المذكورة بوصفه اتفاقا مستقلا عن شروط العقد الأخرى ، ولا يترتب علي تقرير هيئة التحكيم بطلان العقد الأصلي ، بطلان شرط التحكيم بقوة القانون .