وفي هذه الصورة يكون الاتفاق عليه كبند من بنود عقد معين، يكون مبرمًا بين الأطراف المتفقة على التحكيم، بشأن الفصل في نزاع محتمل، وغير محدد، ويمكن أن ينشأ في المستقيل عن تفسيره أو تنفيذه عن طريق هيئة تحكيم تتشكل من أفراد عاديين أو هيئات غير قضائية - دون المحكمة المختصة اصلًا بتحقيقه والفصل في موضوعه
فالاتفاق على التحكيم قد يرد في نفس العقد الأصلي مصدر الرابطة القانونية, سواء أكان عقدًا مدنيًا أم تجاريًا أم إداريًا، فاطراف العقد يتفقون على أن ما يمكن ان ينشأ بينهم في المستقبل من نزاعات بمناسبة تفسيرة أو تنفيذه ويتم الفصل فيها بواسطة هيئة التحكيم.
وهو ما أقرته القوانين محل الدراسة كما سبق استعراض نصوصها عند الكلام عن مشارطة التحكيم.
وفي حالات معينة قد لا يتفق الأطراف المحتكمون على التحكيم في العقد الأصلي مصدر الرابطة القانونية ولكن بعد النزاع بينهم، يبرمون اتفاقا خاصًا للفصل فيه عن طريق هيئة التحكيم.
ورغم ورود شرط التحكيم في العقد الأصلي المبرم بين أطرافه إلا أنه يعد عقدا مستقلًا عن هذا العقد، فهو تصرف قانوني مستقل وقائم بذاته، وإن تضمنه العقد مصدر الرابطة القانونية، ولهذا فإنه قد يتصدر صحة شرط التحكيم ورغم بطلان العقد الأصلي مصدر الرابطة القانونية والذي تضمن هذا الشرط، فطالما ان شرط التحكيم قد استكمل شروط صحته الخاصة به، فإنه يكون صحيحًا قانونًا وينتج كافة أثاره القانونية رغم كل ما أصاب العقد الأصلي المبرم بين أطرافه من عوارض.
وقد كرست المادة (16) من قانون التحكيم اليمني رقم (22) لسنة 1992م المعدل بالقانون رقم (۳۲) لسنة ١٩٩٧م، مبدا استقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي المبرم بين أطرافه- مصدر الراولة القانونية، والذي تضمنه، نصها على إنه: "يجوز أن يكون اتفاق التحكيم على شكل عقد مستقل (وثيقة التحكيم) أو على شكل بند في عقد (شرط التحكيم) باعتباره اتفاقًا مستقلًا عن شروط العقد الأخرى، وإذا حكم ببطلان العقد ذاته أو بفسخه فإنه لا يترتب على ذلك بطلان شرط التحكيم".
ورأى بعض فقهاء القانون الوضعي الفرنسي في نص المادة (1466) من مجموعة المرافعات الفرنسية ما يؤدي إلى تمرير مبدأ استقلالية شرط التحكيم عن العقد الأصلي المبرم بين أطرافه مصدر الرابطة القانونية، والذي يتضمنه من الناحية العملية. إذ طالما أن لهيئة التحكيم المكلفة بالفصل في النزاع موضوع الاتفاق سلطة الفصل في بطلان أو صحة العقد الأصلي المبرم بين أطرافه، والذي تضمنه، فإن هذا يكفي أن شرط التحكيم بوصفه اتفاقًا على التحكيم، يكون من الممكن فصله عن العقد الأصلي المبرم بين أطرافه، ومن ثم يكون متمتعًا بالاستقلالية.
بينما رأى جانب آخر من فقهاء القانون الوضعي المقارن الربط بين مبدأ الاختصاص بالاختصاص، ومبدأ استقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي المبرم بين أطرافه والذي تضمنه. ومن ثم فالأكثر قبولًا عندئذ هو القول بأن مبدأ استقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي المبرم بين أطرافه، والذي تضمنه، يعد من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام التحكيم، سواء على الصعيد الوطني، أم على الصعيد الدولي في فرنسا، حيث إن القضاء الفرنسي قد كرس في قضايا التحكيم التجاري الدولي على نحو قاطع، وبشكل متواز، ما يصلح أساسًا للقول بوجوده أيضًا في التحكيم الداخلي الفرنسي، بدلا من محاولة التعسف في تفسير النصوص القانونية الوضعية الفرنسية، وتحميلها أكثر مما تحتمل وقد قضت محكمة الاستئناف بغرينوبل (الغرفة التجارية) بفرنسا في القضية التي باعت شركة
سور غوفروا (Sorhofroid)، صاحبة امتياز الشركة الأمريكية ثرمو كينغ (Therm king) إلى الشركة فرابا (Frappa) وحدة تبريد أعيد بيعها بعد ذلك إلى شركة النقل نوربیر دنتریسانغل (Norbert Dentressangle). وكانت هذه الشركة الأخيرة تشحن بضائع موجهة إلى الشركة سيستيم أو (Système U) التي رفضت هذه البضائع بسبب زوال تجمدها. وبعد أن تلقت محكمة الاستئناف من شركة ثيرمو
كينغ طلبا باستئناف حكم المحكمة التجارية التي وزعت المسؤولية عن الأضرار الناجمة عن زوال التجمد بين شركة ثرمو كينغ وشركة النقل نوربير دنتریسانقل، قبلت محكمة الاستئناف الدعوى المباشرة من المشترى الثاني ضد البائع الأصلي.
وقضت المحكمة، فضلا عن ذلك، ألا يخضع سوى عقد الامتياز لقانون مينيسوتا الذي اختاره الطرفان وأن تستبعد من تطبيق هذا القانون المبيعات المنجزة تنفيذا لهذا العقد واعتبرت المحكمة الشرط المتعلق باختيار القانون الواجب التطبيق على العقد (قانون مينيسوتا) وشرط التحكيم، الواردين في العقد الأصلي بين شركتي ثرمو كينغ وسورغوفروا والذين تذرعت بهما شركة ثرمو كينغ، باطلي الأثر فيما يتعلق بالمشترى الثاني الذي لم يكن طرفا في العقد الأصلي.
وفضلا عن ذلك، أكدت المحكمة أن اتفاقية البيع واجبة التطبيق، ما لم يتفق على غير ذلك، على عمليات البيع المنجزة بعد 1 كانون الثاني يناير۱۹۸۸م بین بانع موجود في الولايات المتحدة ومشتر موجود في فرنسا. ورأت المحكمة أن المشترى الثاني يستطيع أن يستند إلى اتفاقية البيع في دعواه على البائع الأمريكي، حيث إن هذا الأخير قدم ضمانا تعاقديا لصالح المستخدم النهائي. وقضت المحكمة بانطباق المادتين (٢/٣٥- أ) و (٣٦) من اتفاقية البيع فيما يتعلق بعيوب وحدة التبريد.
فقد لاحظت فعلا أن هذه الوحدة تعطلت بعد فترة وجيزة من بداية استخدامها وأن على البائع، الذي يفترض أنه هو المسؤول، أن يثبت براءته من المسؤولية. وعلى الرغم من أي معرفة أدق بالعيب، فإن العطل المبكر يؤكد عدم المطابقة ومسؤولية شركة ثرمو كينغ الكاملة مثلما قضت بذلك المحكمة. أما في الإسلام فقد جعل مشارطة التحكيم أو شرط التحكيم عقدا إلزاميًا. فالآراء الفقهية الحديثة اعتبرت الاتفاق التحكيمي تشكل عقدًا إلزاميًا حيث إن "الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص أو قياس" جاء في قوله تعالى: "(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)" وما يؤكده العقل أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية، أي ليست من العبادات، والأصل فيها عدم التحريم فيجب عدم التحريم، حتى يدل دليل على التحريم ومن ذلك قوله تعالى (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) فإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة ولما كان الأصل في العقود رضاء المتعاقدين لقوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم).
فالفرق بين شرط التحكيم ومشارطة التحكيم إذا، هو أن الأول يتعلق بنزاع مستقبلي محتمل، في حين تتعلق المشارطة بنزاع أكيد وقع فعلا. ويفترض في الحالة الأخيرة أن يتضمن الاتفاق ماهية النزاع الذي سيعرض على هيئة التحكيم. ومن الناحية العملية، تبدأ مشارطة التحكيم بحيثيات تتعلق بالنزاع وطبيعته، ومن ثم الإشارة إلى اتفاق الطرفين على إحالته للتحكيم مع بيان أسماء المحكمين. ومشارطة التحكيم يمكن إبرامه قبل إثارة النزاع ولكن غالبًا ما تكون عند أو مع بدء النزاع وتبرز أهمية التفرقة بين شرط ومشارطة التحكيم في أن قوانين بعض الدول العربية تطلبت في المشارطة بيان ماهية المسائل التي يشملها التحكيم وإلا كان الاتفاق باطلًا.
ومن هذه القوانين القانون المصري والعماني. ومن جهة أخرى، يمكن التفرقة بين مشارطة التحكيم واتفاق التحكيم اللاحق على نشوء النزاع المستند أساسًا لشرط التحكيم. فقد يكون هناك شرط تحكيم، وبعد وقوع النزاع، يتفق الفريقان على أحكام أخرى تتعلق بتسوية النزاع تحكيما، مثل تحديد طبيعة النزاع وتشكيل هيئة التحكيم، ومدة التحكيم، وصلاحيات هيئة التحكيم وفي هذه الحالة، لا نكون أمام مشارطة التحكيم، وإنما أمام اتفاق تحكيم آخر لا يجبر الطرفان أصلا على إبرامه، بل كان يكفي شرط التحكيم لهذا الأمر. ويترتب على ذلك القول إن الاتفاق الجديد لا يشترط فيه ما يتوجب في المشارطة، من حيث ضرورة تحديد طبيعة النزاع على النحو المذكور سابقًا ومن وجهة نظرنا، عدم ضرورة بيان تفصيلات النزاع، وإنما يكفي ذكره بشكل إجمالي. بل ليس هناك ما يمنع من إعطاء الطرف الثاني في النزاع الحق في الاتفاق بأن يتقدم بدعوى متقابلة أو حتى أصلية ناشئة عن العقد.