موقف الفقه من أثر مجموعة العقود على نطاق اتفاق التحكيم
ذهب بعض الفقهاء إلى القول بأن العقود التي تبرم متتابعة كسلسلة واحدة أو متزامنة في آن واحد بهدف تحقيق هدف واحد هو تنفيذ عملية عقدية واحدة ترتبط فيما بينها برباط واحد يجعلها متحدة في مصيرها.
كما ذهب البعض إلى أن السلسلة العقدية، شأنها في ذلك شأن المجموع العقدى تدور حول مصلحة اقتصادية واحدة، الأمر الذي من شأنه أن يجعل من كل طرف فى أى من هذه العقود طرفاً في العقود الأخرى.
وعلى ذلك فإن من يدخل فى تجمع مجموعة عقدية يكون قد ارتضى ضمناً كل النتائج المترتبة على كل ما أبرم من عقود، فيعتبر من ثم كما لو كان طرفاً فيها في حدود ما يلتزم به فى مواجهة الآخرين، وما يستفيد منه بشأنها ، فينعكس ما يلحق بالعقد الأصلى من بطلان أو فسخ أو غير ذلك على باقى عقود المجموعة العقدية.
كذلك ذهب البعض في نفس الاتجاه إلى القول بأن من أبرم عقداً من العقود التبعية يأخذ مركزاً مماثلاً للمستفيد من حوالة العقد الأصلي.
وفى الحقيقة فإننا لا نعترض على هذه الأقوال، بل إننا نتفق معها، وذلك في علاقة هذا العقد أو ذاك من عقود المجموعة ببقية العقود الأخرى، ولكننا إذا كنا نسلم بهذا الارتباط بين العقود من ناحية كافة شروطها وبنودها، فإننا نستثنى من هذه الشروط شرط التحكيم، وذلك لكون هذا الشرط يرتب بالنسبة للأطراف آثاراً أخطر بكثير من بقية شروط العقد الأخرى إذ يأخذ الأطراف من أحضان قضائهم الوطنى ليزج بهم أمام قضاء التحكيم.
وبالتالي فإن الوحدة الاقتصادية بين مجموعة العقود إذا كانت مؤثرة على الرابطة الاقتصادية بين كافة شروط هذه العقود ، فإن الأمر ينبغي أن يكون على خلاف ذلك بالنسبة لتأثير هذه الوحدة الاقتصادية على الجانب القانوني المتمثل في الاستقلال القانونى لكل عقد من هذه العقود، ومن ثم فحتى تعود الأمور لنصابها فإنه ينبغي أن نحصر الأمر فى شرط التحكيم كعقد مستقل داخل العقد الذي يحتويه، ثم نبحث عن الشروط الموضوعية الواجب توافرها لصحة شرط التحكيم وأولها شرط الرضا الواضح والصريح بهذا العقد.
ولعل إرجاع الأمر بهذا الخصوص إلى إرادة أطراف العقد هو الواضح من استعراض أحكام القوانين التحكيمية، والمعاهدات ذات الصلة، والقضاء الوطني والتحكيمي، حيث اتضح من هذه الأحكام أن إرجاع الحل إلى إرادة الأطراف كان أيسر فيما يخص مجموعة العقود عن مجموعة الشركات، أو بمعنى آخر نحن ندرك تماماً أن فكرة مجموعة الشركات هي جزء من فكرة مجموعة العقود، ولا تختلف عنها إلا في أن مجموعة الشركات تنطوي على تعدد في الأطراف مع وحدة العقد، في حين تنطوى مجموعة العقود على تعدد في الأطراف مع تعدد في العقود.
وفي الحقيقة فإننا نود القول بأن التردد القضائي بين الاتجاه الرافض لفكرة اتساع شرط التحكيم، والاتجاه المؤيد لهذا الاتساع لم يحدث عند البحث في أثر مجموعة العقود على نطاق اتفاق التحكيم إلا بشأن مجموعة الشركات باعتبارها جزءاً من مجموعة العقود، أما وقد فصلنا مجموعة الشركات عن مجموعة العقود، فإنه يمكننا القول بأن الاختيار بين الاتساع والضيق في نطاق اتفاق التحكيم كان سهلاً بالنسبة لمجموعة العقود من مجموعة الشركات، حيث رأينا شبه اتفاق فى القوانين والمعاهدات والأحكام القضائية والتحكيمية على الاعتداد بمعيار الإرادة والابتعاد عن فكرة الوحدة الاقتصادية لمجموعة العقود ، بمعنى رفض اتساع نطاق شرط التحكيم إلا وفق إرادة الأطراف.
ونرى أن التفرقة بين مجموعة الشركات ومجموعة العقود بهذا الصدد بين التردد والإقدام، هي تفرقة مفهومة، وذلك لأنه فيما يتعلق بمجمـوعـة الشركات كان الخلاف دائراً بين نظريتين كبيرتين هما : نظرية الشركات، ونظرية العقود، ومن ثم كان الانحياز لهذه النظرية يمثل ابتعاداً عن النظرية الأخرى، ولذا وجدنا اتجاهين أحدهما ينظر إلى قانون الشركات فيقضي باتساع نطاق التحكيم تبعاً للوحدة الاقتصادية، والآخر ينظر إلى قانون العقود تبعاً لإرادة الأطراف.
أما فيما يخص مجموعة العقود، فإن الأمر لم يخرج عن فكرة نظرية العقود أو الالتزامات، فعند البحث في العقد الأصلى يتعلق الأمر بقانون العقود، وعند البحث في اتفاق التحكيم يتعلق الأمر، أيضاً، بقانون العقود، ففي الحالتين ينطلق الحل من فكرة واحدة دون تشويش من أفكار أخرى يمكن أن تعادلها. ولذا لم نجد هنا التردد الذى وجدناه بشأن مجموعة الشركات، إذ قضى قانون العقود بوجوب احترام إرادة الأطراف فى الالتزام باتفاق التحكيم وذلك بالإحالة إلى هذا الشرط حتى نصل إلى اتساع نطاق شرط التحكيم الموجود في عقد ومده إلى عقد آخر لم يتضمنه.
وبعد أن انحصر الحل في معيار الإرادة تشعبت الآراء بشأن مفهوم هذه الإرادة، وإذا ما كان يلزم لاتساع نطاق شرط التحكيم الإرادة الصريحة المتمثلة في إحالة العقد الخالي من شرط التحكيم إحالة خاصة إلى شرط التحكيم في العقد الذي يحتويه، أم يمكن أن يتسع هذا النطاق بالإرادة الضمنية المتمثلة في إحالة العقد الخالي من شرط التحكيم إحالة عامة إلى العقد الذي يحتوى هذا الشرط في مجمله.
فذهب اتجاه قضائی مرجوح إلى الاكتفاء بالإرادة الضمنية لأطراف العقد الخالي من شرط التحكيم للالتزام بشرط التحكيم الوارد في العقد الآخر، والتي يستدل عليها من خلال الإحالة العامة لهذا العقد دون تخصيص لشرط التحكيم الوارد به.
في حين ذهب الرأي القضائي الراجح إلي عدم الاكتفاء بهذه الإحالة العامة إلى العقد الذي يتضمن شرط التحكيم، وضرورة أن تتوافر الإرادة الصريحة للالتزام بشرط التحكيم، وذلك عن طريق إحالة خاصة ومحددة لشرط التحكيم ذاته الموجود في العقد المحال إليه، حيث تنهض هذه الإحالة الخاصة دليلاً على العلم الثابت والمؤكد بشرط التحكيم ومن ثم التزاماً أو إلزاماً به.
وإذا كنا قد فضلنا الاعتداد بالإرادة الصريحة للأطراف في حالة مجموعة الشركات للقول باتساع نطاق شرط التحكيم، وذلك على أساس أن الإرادة الضمنية سوف تعرض حكم التحكيم الصادر بعد ذلك لخطر عدم الاعتراف أو التنفيذ في الدول التي تتطلب الشكلية لإبرام اتفاق التحكيم، وإذا كنا نفضل الاعتداد بالإرادة الصريحة للأطراف هنا أيضاً، أى في حالة مجموعة العقود ، للقول باتساع نطاق شرط التحكيم، وذلك من خلال الإحالة الخاصة والمحددة لشرط التحكيم، فإننا لا نرى أن الاعتداد بالإرادة الضمنية هنا سيترتب عليها نفس الخطر المترتب على الاعتداد بها في حالة مجموعة الشركات، وذلك لأن القوانين التحكيمية والمعاهدات ذات الصلة لم تحسم الأمر تماماً بشأن المفاضلة بين الإرادة الصريحة أو الضمنية.
فاتفاقية هامبورج ۱۹۷۸ عندما تقرر لاتساع شرط التحكيم أن يتضمن سند الشحن إحالة تفيد أن هذا الشرط يلزم حامل السند، وذلك بواسطة «شرط واضح في السند، فإنها لم تفصل في مسألة الاختيار بين الإرادة الصريحة والإرادة الضمنية، أو بين الإحالة الخاصة والإحالة العامة، وذلك لأن كل اتجاه قضائی سیرى في معياره تحقيقاً لهذا الشرط الواضح الكافي لإلزام حامل السند بشرط تحكيم المشارطة.
وهكذا فإن الإرادة الضمنية فى حالة مجموعة العقود والتي تتمثل في الإحالة العامة للعقد المشتمل على شرط التحكيم، قد لا تشكل خطراً على حكم التحكيم بعد ذلك، كالذى تشكله الإرادة الضمنية في حالة مجموعة الشركات والتي تتمثل في اشتراك الشركة في المفاوضات أو في إبرام العقد أو تنفيذه، حيث إن الإحالة إلى العقد الذي يشتمل على شرط التحكيم موجودة في حالة مجموعة العقود، وفى شكل مكتوب في العقد الخالي من شرط التحكيم، ولكنها غير موجودة وبهذا الشكل فى حالة مجموعة الشركات وذلك بصرف النظر عن طبيعة هذه الإحالة التي مازال باب الخلاف حول ما إذا كانت إحالة عامة أو خاصة مفتوحاً.
بید أننا إذا كنا قد فضلنا حصر الحل في مسألة ة اتساع شرط التحكيم في حالة مجموعة العقود في قانون العقود أو الالتزامات فقط، وذلك من خلال التعويل على إرادة الأطراف، فإننا ومن منطلق مراعاة اعتبارات الضمان للحكم التحكيمي، الصادر بعد ذلك نرى أن مراعاة هذه الاعتبارات تقتضى التعويل على الإرادة الصريحة للأطراف للقول باتساع نطاق شرط التحكيم الموجود في عقد من عقود المجموعة وامتداده إلى عقد آخر من عقودها، وذلك عن طريق الإحالة الخاصة والمحددة لشرط التحكيم بالذات الوارد في العقد، أو عن طريق إرفاق نص العقد المشتمل على شرط التحكيم بالعقد الآخر الخالي من الشرط، أو عن طريق إبلاغ أطراف العقد الخالي بنصوص العقد المشتمل على شرط التحكيم بطريقة ثابته ومؤكدة لا تدع مجالاً للشك في أن أطراف العقد الخالي من شرط التحكيم قد علموا بهذا الشرط علماً تاماً نافياً للجهالة يشكل التزاماً منهم أو إلزاماً لهم بهذا الشرط.
فإذا تحققت هذه الإرادة اتسع شرط التحكيم الموجود في العقد وامتد إلى غيره من عقود المجموعة ليشكل أساساً تعاقدياً لتحكيم تجاري متعدد الأطراف يوفر الوقت والتكاليف، ويمنع تضارب الأحكام تحقيقاً لحسن أداء العدالة، أما إذا تخلفت هذه الإرادة في هذه المرحلة، فربما يمكن للمحكمين استثارتها في أطراف العقود المنفصلة عن طريق إقناعهم بإدخال هذا الطرف أو ذاك في خصومة التحكيم، أو بضم التحكيمات المتعددة في تحكيم واحد وفق احدى الصور المتعددة لهذا الضم في تحكيم تجارى متعدد الأطراف يحقق نفس المزايا ، فإن تخلفت هذه الإرادة في هذه المرحلة أيضاً فلا مناص من الخضوع لإرادة الأطراف في تحكيمات منفصلة حرصاً على الاعتراف بأحكام التحكيم الصادرة وتنفيذها.