اتفاق التحكيم / امتداد اتفاق التحكيم الى الغير / الكتب / الاتجاهات الحديثة في ارتباط المنازعات في خصومة التحكيم / مفهوم وأبعاد فكرة الارتباط في خصومة التحكيم
المتتبع للواقع الاقتصادي خاصة على المستوى الدولي يلحظ أن المجموعات العقدية تكاد لا تترك مجالاً إلا امتدت إليه فنجدها في مجال التشييد والبناء والهندسة ونقل التكنولوجيا والنقل والتأمين وعقود التوريد.....
فالمشروعات الاقتصادية الكبرى أصبحت تمارس أنشطتها من خلال مجموعة متشابكة من العقود تختلف في أهميتها وطبيعتها بل وأطرافها، وغالباً ما يمتد العقد عبر الدول ويدخل في التعاقد ناقلين ووسطاء ومستوردين والمقاول بدوره يلجأ لمقاول من الباطن والمهندس يتعاقد مع مساعدين والمورد يتعاقد مع تجار جملة وهكذا.
فضلاً عما تتجه إليه الكيانات الاقتصادية الكبرى في الأونة الأخيرة من خلق كيانات تابعة لها في الدول المتعاقدة معها لمباشرة تنفيذ الالتزامات العقدية دون أن تكون طرفاً في هذا العقد ومع ذلك تكون مخاطبة ببعض أحكامه من خلال احتفاظ هذه الكيانات المتعاقدة بحقها في التنازل عن العقد أو جزءاً منه للغير، وهو شرط قد لا يتبين المتعاقد الآخر خطورته على تنفيذ الالتزام أو سلامة تنفيذه في هذه المرحلة المبكرة من التعاقد .
فقد لا ينتبه المتعاقد لأثر هذا التنازل على حقه في التمسك بالدفوع القانونية في مواجهة المدين الأصلي وقد لا يملك التمسك بها أيضاً في مواجهة هذه الكيانات التابعة وهذا ينطبق أيضاً على شرط التحكيم أو على الفرض العكسي يجد نفسه أمام شرطي تحكيم متعارضين يمحي بعضهما البعض، أو يوقعه في إجراءات تحكيم متداخلة أو متعارضة، وهذا يتعارض مع الطابع الإرادي لخصومة التحكيم فضلاً عن تعارضه مع إرادة الطرف ذاته وما اتجهت إليه عند التعاقد.
فالمجموعات العقدية التي انتشرت في الأونة الأخيرة ونكاد نصادفها في غالبية العقود الدولية وبصفة خاصة في عقود نقل التكنولوجيا تفترض وجود عقد رئيسي ينشئ التزاماً أو مجموعة متشابكة من الالتزامات لا تتركز غالباً في وثيقة عقدية واحدة، وإنما تمتد عبر مجموعة من العقود التي قد تأتي معاصرة للعقد الأساسي أو لاحقة عليه.
العقد الأول يكون هدفه تنفيذ موضوع التعاقد الرئيسي ويسمى عقد التنفيذ. والعقد التبعي يظهر فيه المتعاقد الرئيسي أي المدين بتنفيذ الالتزامات الواردة في التلك العقد الرئيسي مع شخص ثالث يعتبر من الغير بالنسبة للعقد الرئيسي ثم تتوالى المجموعات العقدية الأخرى على ذات النسق حتى نصل لأطراف مغايرة تماماً لتلك التي وقعت على العقد المتضمن شرط التحكيم، وقد تكون مغايرة أيضاً لتلك التي قامت بتنفيذ الالتزام التعاقدي ذاته أو جانباً منه.
فإذا كان اختصاص هيئات ومؤسسات التحكيم بنظر النزاع وإقصائه عن اختصاص القضاء الوطني يدور وجوداً وعدماً مع وجود شرط تحكيم صحيح ونافد تتوافر له من الضوابط والضمانات ما تتطلبه القوانين المنظمة للتحكيم، وكان توافر إرادة اللجوء للتحكيم والتوقيع عليه مفترضاً أساسياً لصحته وقابليته للتنفيذ، فإن ظهور أطرافاً لم توقع اتفاق التحكيم ولم تظهر رغبتها في قبول التحكيم كوسيلة لحسم ما قد يثور من نزاعات عقدية أمام هيئات التحكيم يمثل إشكالية تواجه المتعاملين في مجال التحكيم والمخاطبين بأحكامه على السواء.
هذا فضلاً عن أن حرية الطرف في اختيار المتعاقد واختيار اللجوء للتحكيم يتحدد تبعاً لاعتبارات عديدة أهمها توازن القوى بين طرفي التعاقد، وقد يتراجع المتعاقد عن اختبار التحكيم كوسيلة لحسم النزاع مع بعض الكيانات بل وقد يحجم عن التعاقد أصلاً معها إذا ما ظهرت في مرحلة التفاوض، ويفاجأ عند حدوث نزاع أطرافاً تفرض عليه وشرط تحكيم لم تتجه إرادته إليه ولا يكون أمامه سوى بوجود الإذعان له.
وتكون النتيجة الحتمية بدء إجراءات التحكيم فلا أمامه بجد سوى الامتناع عن المشاركة فيها أو يشارك مشاركة غير متكافئة وفي الحالتين يكون الحكم عليه بتعويضات باهظة هو الحكم المتوقع ، ومما لا شك فيه أن هذه الإشكاليات العملية والقانونية تستلزم من الفقه التصدي لها بحثاً وتكييفاً سمياً وراء إيجاد الضوابط القانونية الصحيحة التي تلاءم المتغيرات الاقتصادية المستجدة.
وحتى لا يكون التحكيم أداة لاستنزاف مدخرات المتعاملين مع أطراف أجنبية - دولاً وأطرافاً - باعتبارهم طرفاً متلقياً للتكنولوجيا أو مستورداً لسلعة يحتم نشاطهم الاقتصادي استيرادها ممن يحتكرون إنتاجها، وينكصون عن الاستعانة بمن تتوافر لديهم الخبرة والكفاءة اللازمة في مرحلة التفاوض وصباغة العقد.
لذا نرى أنه من الأهمية بمكان نشر ثقافة التحكيم وتوعية المتعاملين بالقدر الكافي لحمايتهم، خاصة أن المحاكم الوطنية تتجه بصفة عامة إلى رفع يدها عن إجراءات التحكيم ملتفته عن دورها الأساسي في فرض الرقابة المطلوبة على إجراءات التحكيم بما يمكنها من إرساء الضوابط القانونية التي تحكم إجراءات الخصومة تاركة المتعاملين في مهب الريح أمام سطوة وطغيان الكيانات الكبرى.
ليجد الطرف الضعيف نفسه بلا حماية عقدية من خلال شروط العقد والذي يأخذ في غالبية الأحوال شكل العقود النموذجية المطبوعة والمعدة سلفاً، وأيضاً بلا حماية قضائية حقيقية تسعى لإعادة التوازن للعلاقات غير المتكافئة.
فالقضاء بصفة عامة يركن إلى إعلاء الجانب الإرادي والارتكان للحرية التعاقدية في ظاهرها دون التطرق لمدى تحقق هذه الحرية التعاقدية في مضمونها. المختلفة بجد فالمتأمل لأحكام القضاء الصادرة في مراحل خصومة التحكيم توسعاً معيباً بدءاً من إقرار وجود اتفاق التحكيم في حالات عديدة لصالح هيئات التحكيم ومؤسساته على حساب نفي اختصاص القضاء في الحالات التي تستوجب ذلك. ومروراً برفع يدها عن التدخل في إجراءات الخصومة إعلاء لهذا الجانب الإرادي وانتهاء بتأييد أحكام التحكيم الصادرة دون التثبت من توافر الضمانات الحقيقية مرددة مبدأ الحرية التعاقدية كشعار بلا مضمون في غالبية الحالات.
هذا ويرجع في تقديرنا لغياب المفهوم القضائي المنضبط الخصومة التحكيم وإعمالاً لمبدأ الحرية التعاقدية في غير موضعه مما أدى إلى إدخال في خصومة التحكيم من ليس فيها وإخراج من هو فيها من خلال النظر لمسألة الارتباط من منظور الحرية التعاقدية وليس في إطار المفهوم القضائي المنضبط الواجب توافره في خصومة التحكيم.
رغم أن هذه الحرية التعاقدية ذاتها تقتضي عدم الزج بأشخاص من الغير في خصومة التحكيم ما لم يرتضوا ذلك جميعهم رضاء واختياراً.