إن المفترض الثاني لتحقق المسئولية العقدية - أو ضمان العقد - بعد وجود عقد اكتمل البناء الشرعي له يتمثل في إخلال أحد العاقدين بأي من الالتزامات الملقاه على كاهله من جراء العقد تبعا للتحليل الذي عرضنا له في الصفحات السابقة، وهنا تثار عدة مسائل خاصة بهذا الإخلال وتدور في مجملها حول تحديد مقصود الإخلال بمقتضى العقد، وبيان متى يتحقق هذا الإخلال؟ ونعرض لهائين النقطتين فيما يلي :
انا لكل عقد آثار تتمثل في تحمل أحد عاقديه أو كليهما ببعض الالتزامات ، فإذا ما امتنع أحد المتعاقدين عن تنفيذ الالتزام الملقى على كاهله فقد خرج عن مقتضی العقد ، وهذا جوهر إخلال المتعاقد بالتزامه العقدي. .
فالعقد ينشیء علاقة بين طرفيه تجعل لكل منهما حقوقا تشكل التزامات على كاهل الطرف الآخر ، وذلك في العقود الملزمة للجانبين ، أي التي تحمل طرفي العقد بالتزامات متبادلة ، أما في العقود الملزمة لجانب واحد فهي كعقد الهبة إذ ينشىء التزاما على كاهل أحد طرفي العقد دون أن يقابله التزام على كاهل الطرف الآخر ، وعموما فإن كل عقد يتولد عنه بعض الالتزامات سواء ألقيت على طرفي العقد أو كاهل أحدهما ، ويتعين على العاقد الذي أثقل كاهله بالتزام من يبادر بتنفيذه في وقته المحدد وبالكيفية المطلوبة ، إذ إن قعوده ع ن تنفيذ ذلك الالتزام يعد مروقا من القيام على مقتضى العقد.
أي أن مضمون الخروج عن مقتضى العقد يتمثل في " قعود المتعاقد عن تا بما أوجب العقد ضرورة القيام به ، أو قيام المتعاقد بما أوجب العقد عدم القيام به "، وفي الفرضين يعد المتعاقد مخلا بالتزامه العقدي ، وخارجا عن مقتضى العقد الذي هو طرف فيه.
الجزاء المدني في القانون الوضعي :
إن فكرة المسئولية المدنية تعد مكنة في يد القانون المدني لتحقيق العدالة والاستقرار للحقوق والمراكز القانونية داخل المجتمع ، فإذا ما حدث إخلال بهذا الاستقرار نهضت مبادئ المسئولية المدنية لإعادة الأمور إلى نصابها ورد الحقوق إلى أصحابها ، أو على الأقل التعويض عن النيل منها، وهكذا فإن تحقق مفترضات تطبيق المسئولية المدنية يستتبع اتخاذ بعض الإجراءات وإحداث بعض التغييرات التي عنيت كتابات فقهاء القانون المدني بها وتولت تفصيلها وبيان الأحكام الخاصة بها ، ولن يتسنى للباحث التعرض لجميع آثار تحقق المسئولية المدنية ، كما لن يستساغ منه ذلك - لو أنه حاول تحقيقه – لأن هذا المسلك -- وقتئذ - يعد خروجا منه عن الموضوع الدقيق لهذه الرسالة ؛ ولذا سوف ننتقي من تلك الآثار ما يفيد عند دراسة المسئولية المدنية للمحكم ، وهذا يقتضي عرض آثار تحقق مفترضات قيام المسئولية المدنية ثم نعرض لمايخص موضوع بحثنا.
ولكن هذا لا يعني استحالة إعمال فكرة التنفيذ العيني في مجال المسئولية التقصيرية ، ذلك أن التنفيذ العيني متصور في هذا المجال بالنسبة للمستقبل ، كمن تعمد تكرار الاعتداء على آخر والتعرض له ، يمكن لهذا الأخير أن يحرك دعوی المسئولية مطالبا فيها التعويض عن الاعتداءات التي حدثت ، والتنفيذ العيني للالتزام القانوني الملقي على كاهل الكافة والذي يفرض عدم الإضرار بالآخرين عن طريق إصدار القاضي قراره بإلزام المسئول بالكف عن الأعمال التي تشكل تعرضا للمضرور مستقبلا.
ثم إنه من المتصور وجود اتفاقات خاصة تتعلق بالتشديد أو التخفيف أو الإعفاء من المسئولية وهذه مسألة هامة في مجال المسئولية المدنية إذ يكون لها عظيم الأثر في تحديد مجال تطبيق المسئولية وتحديد نطاق آثارها.
وتبعا لهذه التقدمة الوجيزة يعتقد الباحث أن دراسة المسئولية المدنية للمحكم فيما بعد تقتضي منا الآن التعرض لبعض الأفكار والتي تتمثل في تحديد ماهية الجزاء المدني سواء من حيث تعريفه أو من حيث تحديد قواعده ، وكذلك ص ور الجزاء المدني - خاصة العقدي منها - ولا شك أننا سنقتصر فقط على أهمالجزاءات المدنية المتصورة في مواجهة المحكم ؛ ولذا سنعرض لجزاء التعويض والدفع بعدم التنفيذ والحق في الحبس ، حتى يتسنى لنا فيما بعد - حال التعرض المسئولية المحكم المدنية تجاه أطراف التحكيم - أن نبحث مدى إمكانية تطبيق هذه الجزاءات في مواجهة المحكم ، ولأننا في محاولتنا للتمييز بين المسئولية الإجرائية والمسئولية الموضوعية تعرضنا للعديد من المسائل القانونية التي تسهم في إبراز أهم أوجه هذا التمييز ، ومن بين أهم هذه المسائل التمييز بين الجزاء الموضوعي والجزاء الإجرائي ، ولأن الجزاء الموضوعي - وفقا لما انتهجته في هذه الرسالة – يتفرع إلى جزاء مدني وآخر جنائي وثالث إداري ، ولأن موضوع هذه الرسالة يقتصر على المسئولية المدنية - في نطاق المسئولية الموضوعية – فإنه من الأهمية بمكان التعرض لفكرة الجزاء المدني ، وذلك لتمييزه عن الجزاء الإجرائي بالصورة التي تخدم موضوع البحث ، وهذا يقتضي التعرض لهذا الجزاء - أي المدني - من حيث تحديد ماهيته ، سواء في خصوص تعريفه ، أو تحديد الأحكام القانونية المنظمة له ، ثم التعرض لصور هذا الجزاء ، ولأن الجزاء المدني تتعدد صوره وتطبيقاته ، ولأن الباحث ينتهج نهجا يقصد من خلاله ألا يتعرض في مجال المسئولية المدنية إلا لما يفيد في تحديد المسئولية المدنية للمحكم عند التعرض له فسوف أحاول استعراض صور الجزاء المدني المتصورة في خصوص المحكم.
ثانيا- جزاء يعطل التنفيذ العيني للالتزام:
إن الجزاءات التي لا تمنع تنفيذ الالتزام عينا ولكنها تهدف إلى تعطيل هذا التنفيذ فحسب والتي من المتصور توقيعها في مجال التحكيم حيال المحكم وحال تحقق مسئوليته تتمثل في جزائي الدفع بعدم التنفيذ والحبس ، ونعرض لهذين الجزاعين في محاولة لفهم النظام القانوني لهما ، والصفة الجزائية لكل منهما تمهيدا التطبيق على مسئولية المحكم حال التعرض لها في نهاية هذه الرسالة.
كان التزام أحد الطرفين يتمثل في القيام بعمل أو الامتناع عن عمل فهنا يحكم القاضي بتنفيذ التزامه المذكور بشرط تنفيذ الطرف الآخر التزام.
ب- أثر الدفع بعدم التنفيذ
إذا توافرت المفترضات القانونية للدفع بعدم التنفيذ ترتب على ذلك أحقية الملتزم في عدم تنفيذ التزامه وعدم إجباره على تنفيذه ، وفي ذات الوقت يظل الالتزام قائما من الناحية القانونية ويتعين الوفاء به وتنفيذه إذا ما قام الطرف الآخر بتنفيذ التزامه؛ ولذا لا يجوز إجبار الملتزم بعمل بالقيام بهذا العمل حتى يقوم الطرف الاخر بتنفيد التزامه ، وإذا كان الالتزام المدفوع بعدم تنفيذه يتمثل في الامتناع عن عمل حق للملتزم الاستمرار في العمل الممنوع منه بموجب هذا الالتزام إلى أن يقوم الطرف الآخر بتنفيذ التزامه.