والواقع أنه لا يمكن تصور مبدأ القوة الملزمة للعقد المعروف بمبدأ النسبية) بدون مبدأ نفاذ العقد أو الاحتجاج به وإن كان كل منهم يكمل الآخر إلا أن هناك تعارضاً في ذات الوقت بينهما . فالقوة الملزمة للعقد تبرر مسئولية المدين الذي يتعاقد مع الغير، ويتعهد بتعهدات تتعارض مع تلك التي التزم بها في مواجهة الدائن. وفي المقابل، نجد أن القوة الملزمة لا يمكن أن تبرر إخلال الغير بالتزام عقدى، حيث يتم مساءلته مسئولية تقصيرية. وأساس هذه المسئولية الخطأ الناجم عن عدم احترام حق يعلم بوجوده ناجم عن وجود العقد، بمعنى أن هذه المسئولية لا تتولد عن العقد نفسه، ولا تستمد منه مصدرها المباشر.
والتمييز بين الاحتجاج بالعقد والأثر الملزم له يجد أساسـه فـي رغبة أطراف العقد في بسط أثره على من ليس بطرف فيه، ورغبة الغير في البقاء في مأمن من كل اعتداء على حريته بإعمال الأثر النسبي للعقد. فالأثر الملزم لا يمس الغير، وإن كان يمكن الاحتجاج به في مواجهة الكافة وذلك احتراماً للطابع الاجتماعي للحقوق.
بعبارة أكثر تبسيطا فإنه لكى يمكن أن ينفذ عقد ما في مواجهة الغير يجب العلم به حيث لا يمكن وفقا للقواعد العامة باحترام واقعة اجتماعية أو قانونية أو حتى مادية دون أن نضع فى الاعتبار علمه بهذه الواقعة.
أيضا من الأهمية تحديد مفهوم الغير لمعرفة من الذي يحاج بالعقد أو على من ينفذ هذا العقد. هل يعتبر المرسل إليه "طرفا" أم "غير " بحيث يسرى عليه مبدأ نسبية أثر العقد، أو مبدأ إنفاذ العقد أو الاحتجاج به ؟
أضف إلى ذلك أنه قد يدفع أحد الأطراف ذوو الشأن في عملية النقل البحرى دعوى المرسل إليه ضده بالمسئولية فإنه لا يعرف هذا الأخير على أساس أنه ليس معه فى علاقة عقدية وإنما هو من الغير بالنسبة له ومن ثم فلا يجوز للمدعى أن يستفيد من عقد ليس طرفا فيه وطبقا لمبدأ نسبية أثر العقود ترفض دعواه. كما أن المرسل إليه بدوره قد يدفع دعوى أي من ذوى الشأن على أساس أن المرسل إليه يعتبر من الغير ومن ثم لا يجوز وفقا لمبدأ نسبية أثر العقود أن يضار من عقد ليس طرفا فيه، وهذا ما دفع محكمة النقض المصرية إلى محاولة إرساء مبادئ واضحة ومستقرة بشأنها .
وانطلاقا من أهمية تحديد المركز القانوني للمرسل إليه، نجد أن تحديد ما إذا كان المرسل إليه طرفا أم غيرا له أثره المباشر بالنسبة لموضوع قوة سند الشحن في الإثبات. فسند الشحن له حجية مطلقة في الإثبات لصالح الغير الذي يجوز له التمسك بالبيانات الواردة فيه أو إثبات عكسها بحسب الأحوال وبكافة طرق الإثبات. أما الأطراف فى هذا السند فلا يجوز لهم إثبات عكس بياناته في مواجهة الغير حسن النية ولكن يجوز لهم فى العلاقة بينهم إثبات خلاف الدليل المستخلص من سند الشحن و خلاف ما ورد به من بيانات ولا يجوز ذلك إلا بالكتابة أو ما يقوم مقامها (بمعنى أن حجية سند الشحن فيما بين طرفيه ليست مطلقة وإنما يعتبر سند الشحن مجرد قرينة يمكن إثبات عكسها). ومثال ذلك خطاب الضمان الذي يصدره الشاحن للناقل بخصوص بضاعة بها عيوب أو نقص مقابل إصدار سند شحن نظيف لا تذكر فيه الملاحظات الخاصة بالبضاعة. فمثل هذا الخطاب يعتبر حجة على أطراف عقد النقل. إلا أنه لا يعتبر كذلك على الغير حسن النية وذلك حسب نص المادة ١/٢٠٧ من قانون التجارة البحرية المصرية ۱۹۹۰/۸.
ومن ثم كان من الضرورى تحديد مركز المرسل إليه بالنسبة لسند الشحن هل هو من أطراف السند فلا يكون له نفى ما جاء في الســـنـد مـن بيـانـات والمتعلقة بحالة البضاعة إلا بالكتابة أو من الغير فيستطيع أن يتمسك بهذه البيانات ضد الناقل دون أن يستطيع الأخير إثبات عكسها في مواجهته بأية وسيلة، بل يجوز للغير إثبات عكس الوارد بالسند كافة الطرق.
ومما لاشك فيه أنه من الممكن تضارب أحكام المحاكم في مثل هذه الأمور طالما أن المسألة لا يحكمها نص قانونى حاسم بشأنها بل هي متروكة لاجتهادات الفقه والقضاء الأمر الذى تنعكس آثاره على عمليات اقتصادية هامة وكبيرة والتي تؤدى بدورها إلى حدوث نتائج ضارة على كافة المستويات، وهذا هو ما دفع محكمة النقض المصرية ومحكمة النقض الفرنسية إلى محاولة حسم هذا الجدل الفقهى و القضائي بخصوص هذه المسألة وذلك بغرض إرساء مبادئ واضحة ومستقرة كما سنرى في حينه.
كما يأخذ هذا الجزء أهميته من واقع أن قانون التجارة البحرية الجديد رقم 8 لسنة ۱۹۹٠ هو قانون وليد حديث العهد بالتطبيق أمام القضاء البحرى في مصر، لم تصدر بشأنه المؤلفات المرجوة والمطلوبة، كما أنه تضمن العديــد من الأحكام الجديدة التى لم تكن موجودة في القانون القديم بالإضافة إلى أن معظم هذه الأحكام قد أخذها المشرع المصرى من قواعد هامبورج ۱۹۷۸ التي تمثل المستقبل والتي نفذت دوليا والتزمت المحاكم المصرية بتطبيق أحكامها ابتداء من أول نوفمبر ۱۹۹۷ ، لذلك رأينا أنه من الأهمية التعرض بالشرح والتحليل لهذا الجزء مع أهم ما يسير عليه العمل به أمام القضاء.
وطبقا لمبدأ نسبية أثر العقود فإن التصرفات لا تولد آثارها إلا في محيط الأطراف وحدهم فمن لم ترتض إرادته إلى انصراف هذا الأثر إليه يظــل بمنأى عن هذا الأثر فلا يفيد ولا يضار من هذا العقد وذلك في إطار الآثار المباشرة لهذا العقد. أما إذا خرجنا من دائرة التصرفات القانونية والآثار المباشرة ودخلنا نطاق الواقعة القانونية سنجد أن العقد باعتباره واقعة قانونية (وليس تصرفا قانونيا ) يمكن أن ينشأ عنه آثار غير مباشرة تتعلق بمحاجاة العقد .
والتطبيقات العملية هنا كثيرة حيث نلاحظ أنه يمكن في حالة الأنزعة المعروضة أمام القضاء أن يقوم قاضى النزاع بالإستناد إلـى عقـد أو آخـــر للحصول على ما يراه مناسبا من معلومات تساعده في استظهار وجه الحق فـــي النزاع المطروح أمامه، حيث نجد أن للقاضي مطلق الحرية في الاسترشاد بالعقود التي تكون أجنبية عن أطراف النزاع بصفتها وقائع مادية وذلك من منطلق واجب القاضي في التحري والوصول للحقيقة في الدعوى المنظورة أمامه حتى يتحقق القضاء العادل كل هذا حتى ولو لم يثر أحد أطراف النزاع مسألة التمسك بهذه العقود لما تحويه من معلومات تؤيد إدعاءات هذا الطرف أو ذاك.