لم ينص المشرع في القوانين العربية على حكم خاص بتفسير اتفاق التحكيم، مما يعني وجوب الرجوع للقواعد العامة لبيان مدى انطباقها على مثل هذا الاتفاق.
والمبدأ الأول في هذه القواعد، يقضي بأنه إذا كانت عبارة العقد واضحة، فلا يجوز الانحراف عنها عن طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين. ومثال ذلك، أن يكون العقد عقد بيع، ويرد فيه شرط تحكيم ينص على أن أي خلاف بين الطرفين ناجم عن العقد، يحال للتحكيم وفق قواعد مركز لبنان التحكيمي. من الواضح في هذا المثال، أن هناك إحالة للتحكيم من جهة، وأن الإحالة للتحكيم خاصة بعقد البيع الأصلي وليس بغيره من جهة أخرى، وأن الجهة المسؤولة عن إدارة العملية التحكيمية هي مركز لبنان. وبناءً عليه، ليس للجهة المعنية بالتفسير، الخروج على هذه العبارات الواضحة، بحجة تفسير إرادة المتعاقدين .
وقد لا تكون إرادة الطرفين واضحة على النحو المذكور، وإنما ينتابها غموض، بحيث يقتضي الأمر تفسير عبارات الاتفاق لإزالة هذا الغموض. ومثال ذلك، أن ينص الاتفاق على تسوية النزاع حسب قواعد مركز التحكيم التجاري المصري في القاهرة، أو مركز التحكيم الدولي الإماراتي في دبي. ويبدو الغموض هنا من ناحية أنه لا يوجد مركز للتحكيم في القاهرة باسم مركز التحكيم التجاري المصري"، ولا في دبي باسم "مركز التحكيم الدولي الإماراتي". وهذا يثير التساؤل عن قصد الطرفين من هذه العبارات. كما أن هناك غموضاً آخر يتعلق بنية الطرفين، وما قصداه من العبارات الواردة في اتفاقهما. فالطرفان اتفقا على إحالة النزاع لهذا المركز أو ذاك، دون بيان ما إذا كانـا قـصدا تسوية النزاع عن طريق التحكيم، أم تسويته بطريقة أخرى مثل التوفيق. ولحل هذا الإشكال، يقضي المبدأ الثاني من القواعد العامة في التفسير، بأنه إذا كان هناك محل لتفسير العقد، فيجب البحث عن النية المشتركة للطرفين، دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ، الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل، وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين، وفقاً للعرف الجاري في المعاملات.
وبناءً عليه ، قضي بأنه إذا كان هناك عقد بيع نص على إصدار سندات سحب بالثمن، وتضمن أيضاً شرطاً بإحالة الخلافات الناجمة عن عقد البيع إلى التحكيم، فإن هذا الشرط يشمل الخلافات حول سندات السحب . وفي قضية أخرى، نص العقد على إحالة الخلاف إلى أشخاص يتم تعيينهم من أجل الفصل فيه بموجب تقرير يقدمونه لذلك".
قررت المحكمة بأن هذا الشرط يعتبر اتفاق تحكيم بالمعنى المنصوص عليه في قانون التحكيم، وأنه لا يغير من الأمر شيئاً عدم وجود كلمة تحكيم في الاتفاق، ما دام أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني وبالتالي فإن أولئك الأشخاص هم محكمون بالمعنى الحقيقي لمفهوم المحكم .
وفي قضية نص عقد المقاولة على إحالة الخلافات الناشئة عن العقد إلى التحكيم. تقدم المقاول من صاحب العمل بمطالبة أقر بها الأخير بمستحقات المقاول، بموجب سند ( مخالصة ) موقع عليـه مـن صاحب العمل والمقاول. ومع ذلك، لم يدفع صاحب العمل مبلغ المطالبة. فأقام المقاول دعوى قضائية للمطالبة بقيمة الدين الوارد في السند. ولكن بناءً على دفع أثاره المدعى عليه، قرر القضاء عدم اختصاصه ولائياً بنظر الدعوى، وأنه يجب اللجوء إلى التحكيم لتسوية النزاع، بالرغم من أن شرط التحكيم لم يرد في سـ سند المخالصة، وإنما في عقد المقاولة الأصلي .
وكما سنرى فيما بعد، فإن قوانين بعض الدول تجيز استئناف حكم التحكيم وفق شروط معينة ) . وبالنسبة لهذه القوانين قضي بأنه إذا نص اتفاق التحكيم، على أن حكم التحكيم حاسم ونهائي ومبرم وغير قابل للنقض، فيفسر هذا بأنه يعني انصراف إرادة المتعاقدين إلى عدم جواز استئناف الحكم .
وهناك مبدأ ثالث في التفسير حسب القواعد العامة في القوانين العربية، يقضي بأن الشك يفسر لمصلحة المدين). إلا أننـا نــرى عـدم تطبيق هذه القاعدة على اتفاق التحكيم. والسبب في ذلك أن هذا الاتفاق بطبيعته، لا يوجد فيه دائن ولا مدين، وإنما هو اتفاق إجرائي يتعلق بالاختصاص في نظر النزاع أو بمعنى آخر هو اتفاق لنزع الاختصاص من القضاء الرسمي صاحب الولاية العامة في نظر المنازعات، وإحالته للتحكيم .
والسؤال الذي يطرح نفسه عندئذ ، هو فيما إذا كان يفسر الشك أو الغموض في اتفاق التحكيم لمصلحة التحكيم بحيث يحال النزاع للتحكيم، أم ضده بحيث لا يعتد بالاتفاق ويبقى الاختصاص للقضاء. ومثال ذلك، أن ينص الاتفاق على إحالة النزاع لأحد الفنيين لبيان رأيه الفني فيه، أو لأحد القانونيين لبيان وجهة نظر القانون فيه. أو يتعلق النزاع بقياسات المبنى الذي أنشأه المقاول، فيتفق الطرفان على إحالته لمهندس لبيان هذه القياسات، أو ينص الاتفاق على أنه في حال وجود خلاف بين الطرفين، يفضل تسويته باللجوء إلى التحكيم بدلاً من القضاء.
وللإجابة على هذا التساؤل، اتجه القضاء في الدول العربية محل البحث إلى القول بأن اللجوء إلى التحكيم، طريق استثنائي لفض المنازعات قوامه الخروج على طرق التقاضي العادية. وعليه، يتعين على المحكمة عند تفسير اتفاق التحكيم، أن تلزم الحيطة والحذر، وأن تفسره تفسيراً ضيقاً . وأن تلتمس كل ما من شأنه إفادة التنازل عنه وبمعنى آخر، فإن الشك في مدى خضوع نزاع معين للتحكيم، يفسر ضد التحكيم، مما يؤدي إلى القول بعدم خضوع هذا النزاع للتحكيم. والأمثلة على ذلك كثيرة.
فإذا نص شرط التحكيم في عقد الشركة على أن "أي خلاف ناشئ عن تطبيق العقد أو يتعلق به يحال إلى التحكيم..."، فإن هذا الاتفاق لا يشمل فسخ الشركة ولا تصفيتها .
وإذا نص شرط التحكيم على صلاحية المحكم بتفسير العقد، فهذا لا يخوله فسخ العقد ، ولا الحكم بالتعويض في حال إخلال أحد الفريقين بالعقد. وإذا نص الشرط على تفسير العقد وتنفيذه، فلا يشمل ذلك المنازعات الناجمة عن المسؤولية غير العقدية، أو تلك التي تقوم على بطلان العقد أو فسخه أو انفساخه.
وإذا نص الشرط على أنه في حال وقوع خلاف ناشئ عن تطبيق أحكام هذا العقد ..... يحق للفريق الأول عرض الخلاف على ثلاثة محكمين ...."، فإن هذا الحق مقرر للفريق الأول في العقد فقط، ولا يشمل الفريق الثاني، كما لا يجبر الفريق الأول على اللجوء إلى التحكيم، وإنما يكون من حقه اللجوء للقضاء بدلاً من التحكيم، وبالتالي ليس للفريق الثاني التمسك بشرط التحكيم .
وإذا نص شرط التحكيم في العقد بين المهندس وصاحب العمل على إحالة الخلافات الناجمة عن تفسير العقد إلى التحكيم، فلا يشمل ذلك، الخلاف حول أتعاب المهندس، وينعقد الاختصاص في الدعوى للقضاء صاحب الولاية العامة بالفصل في المنازعات.
وإذا نص الشرط على أنه إذا نشأ نزاع أو أي خلاف من أي نوع كان بين صاحب العمل وبين المقاول فيما يتعلق بالعقد أو ينشأ عنه فيما يختص بتنفيذ الأعمال .... يحال إلى التحكيم"، فإن الشرط لا يشمل المخالصة النهائية، التي تم الاتفاق عليها بين صاحب العمل وبين المقاول بشأن الأعمال موضوع الاتفاقية ..
وإذا نص شرط التحكيم على أنه في حال وقوع الخلاف، تتم تسويته بواسطة محكم يتفق عليه الطرفان، وفي حال عدم اتفاقهما تكون المحاكم هي المختصة، فهذا يعني سقوط شرط التحكيم في حال عدم اتفاق الطرفين على المحكم، ولا يكون للمحكمة صلاحية تعيينه .
وإذا نص شرط التحكيم بين شركة التأمين وبين المؤمن له، على أنه في حال وقوع الخطر المؤمن ضده، يحال الخلاف حول مقدار التعويض الذي يستحقه المؤمن له إلى التحكيم، وادّعت الشركة أن الحريق غير مشمول بالتغطية التأمينية، ونازعها المؤمن له في ذلك، فإن الشرط لا يشمل هذا النزاع، ويبقى الاختصاص فيه للقضاء.
وإذا اتفق الطرفان على التحكيم من قبل شخص معين، فهذا لا يعني الاتفاق على حل النزاع بطريق التحكيم عموماً، بحيث إذا استقال المحكم المتفق عليه، عادت الولاية في فصل النزاع للمحاكم العادية .
وإذا حدد شرط التحكيم في وثيقة التأمين نطاق التحكيم بإثبات الأضرار أو الخسائر الناشئة عن الحادث المضمون بالوثيقة، وتقدير قيمتها، دون القضاء بالإلزام، فإن المحكم يكون قد تجاوز مهمته إذا قضي بإلزام شركة التأمين بأن تدفع للمؤمن له قيمة الأضرار أو الخسائر، بعد أن قام بتقديرها .
وإذا نص العقد على شرط تحكيم، وكان هناك عقد أخر بين نفس الأطراف مرتبط به لا ينص على التحكيم، وكانت الرابطة بين العقدين وثيقة بحيث لا تقبل التجزئة مثل المدين والكفيل)، فيكون الاختصاص بنظر المنازعات الناجمة عن العقدين للقضاء صاحب الولاية العامة .