النطاق النوعي : Ratione materiae : المتأمل في نصوص قانون التحكيم الجديد يدرك أنها تعالج التحكيم في منازعات نوعية موصوفة ، وتغطى الأنواع المتعارف عليها من التحكيمات .
فمن ناحية ، تتطبق نصوص قانون التحكيم على كل تحكيم يفصل في منازعات المعاملات المالية الخاصة . وهي التي سماها القانون ، كما هو باد من عنوانه، المواد المدنية والتجارية ، ولا يثير تحديد المعاملات المدنية صعوبة تذكر. فالأصل في المعاملات أنها مدنية ، تتم بين الأشخاص القانونية الذين لا يعملون بالتجارة ، أو حتى لو كانوا كذلك ، مادامت تلك المعاملات نیست لأغراضهم المهنية، ولم تزاول على سبيل الاحتراف .
أما المعاملات التجارية ، فقد حاول القانون تحديدها في المادة الثانية منه ، بقوله يكون التحكيم تجاريا فى حكم هذا القانون إذا نشأ النزاع حول علاقة قانونية ذات طابع اقتصادي ، عقدية كانت أو غير عقدية ، ويشمل ذلك على سبيل المثال توريد السلع أو الخدمات والوكالات التجارية وعقود التشييد والخبرة الهندسية أو الفنية ومنح التراخيص الصناعية والسياحية وغيرها ونقل التكنولوجيا والاستثمار وعقود التنمية وعمليات البنوك والتأمين والنقل وعمليات تنقيب واستخراج الثروات الطبيعية وتوريد الطاقة ومد أنابيب الغاز أو النفط وشق الطرق والانفاق واستصلاح الأراضي الزراعية وحماية البيئة وإقامة المفاعلات النووية .
غير أن عبارة "الطابع الاقتصادى تبدو ، بدورها ، غامضة وفضفاضة . هل يراد بها المعاملات ذات الطابع المالي" ، أم "ذات الجدوى الاقتصادية" في ممارستها ، أم ... ؟ وكنا نود لو التزم المقنن فكرة "العلاقات القانونية المالية" في تحديده للمنازعات التي يمكن تسويتها بطريق التحكيم ، سواء اكتسبت تلك العلاقات الصفة التجارية أم لم تكتسبها . وهذا الوصف للعلاقات التي تخضع تسوية منازعاتها للتحكيم، يقدم عدة مزايا :
أولا ، تلافي التناقض بين معيار التجارية المتعارف عليه في فقه وتشريع القانون التجارى
ثانيا ، التوافق الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها مصر ، والتي تعترف بالتحكيم وبأحكامه في منازعات تتعلق بمعاملات قد لا يتوفر فيها وصف التجارية بالمعنى الوارد بالقانون . من ذلك اتفاقية نيويورك لعام ۱۹۵۸ الخاصة بتنفيذ أحكام التحكيم والاعتراف بها ، وكذلك اتفاقية واشنطن لعام ۱۹٦٥ بشأن تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى ، وكلاهما لا تشير إلى وصف "التجارية" في المعاملة محل المنازعة .
كما أن . عدم اعتماد وصف "التجاري" وإحلال وصف "المالي" بدلا منه ، يقود إلى تطويع أحكام القانون بشأن المعاملات التي يكون واجب التطبيق عليها قانون دولة لا تعرف التفرقة بين القانون المدني والقانون التجارى ، كالنظم القانونية الأنجلو أمريكية .
ثالثا ، مسايرة فلسفة المقنن المصرى ذاته في التوسع وبسط قضاء التحكيم ونشره تشجيعا لجذب رؤوس الأموال واستثمارها .. فيكفي أن تكون المعاملة الناشئ النزاع المراد تسويته بطريق التحكيم موضوعها استثمار مالى ، أيا كانت طبيعتها : مدنية ، تجارية ، إدارية ..
وهذا التفسير الذي نقول به يتفق وما جاء بالمادة الأولى من القانون والتي تنص على أن .... تسرى أحكام هذا القانون على كل تحكيم ... أيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع . فالعبارة الأخيرة جاءت عامة ، وما أورده القانون في مادته الثانية حول معنى "التجارية" يعد تقييدا لها لا مبرر له ، ويوقع المقنن في تناقض ينبغي ان يتنزه عنه .
كما أن ذلك التفسير يتمشى مع اعتبار أن جل المعاملات التي يحوز بشأنها التحكيم هي معاملات مالية ، سواء كانت معاملات مدنية أو معاملات تجارية ، وما وراء ذلك يخرج بطبيعته عن مجال التحكيم ، ليدخل فى المسائل التي لا يجوز فيها الصلح ، ومن ثم التحكيم .
ومن ناحية ثانية ، لا تنظم نصوص قانون التحكيم إلا التحكيم الاختيارى فقط، أيا كان شكل الجهة التي تتولاه . وفي هذا المعنى تنص الفقرة من المادة الرابعة من قانون التحكيم على أم تسرى أحكام هذا القانون على ..... التحكيم الذي يتفق عليه طرفا النزاع بإرادتهما الحرة سواء كانت الجهة التي تتولى إجراءات التحكيم، بموجب اتفاق الطرفين ، منظمة أو مركز دائم للتحكيم أو لم يكن كذلك" .
بيد أن النص يشير إلى أمرين :
الأول ، أن أحكام القانون موضوعها التحكيم الاختيارى أو الإرادي L'arbitrage, volontaire ، وليس التحكيم الالزامي أو الإجباري L'arbitrage, obligatoire . وصدر النص الذي أوردناه جلى في هذا المعنى ، فهو يتكلم عن "التحكيم الذي يتفق عليه طرفا
النزاع بإرادتهما الحرة" .
وبالتالي يخرج عن نطاق تطبيق تلك الأحكام التحكيم الإجباري، حيث تنظمه القوانين الخاصة التي فرضته ، والتي أشرنا إليها فيما قبل .
غير أنه ليس هناك ما يمنع من تطبيق أحكام قانون التحكيم الجديد باعتبارها قواعد مبادئ عامة للتحكيم إلى جانب القواعد والمبادئ المقررة بقانون المرافعات المدنية والتجارية . الثاني ، أن أحكام القانون ذات قابلية عامة للتطبيق أمام هيئات التحكيم أيا كان شكلها القانونى : هيئة تحكيم عارضة arbitrage ad hoc ، أو هيئة أو مركز تحكيم دائم أو منتظم . وكما يقول النص، فإن أحكام القانون تسرى على التحكيم .... سواء كانت الجهة التي تتولى إجراءات التحكيم .... منظمة أو مركز دائم للتحكيم أو لم يكن كذلك .