اتفاق التحكيم / النطاق الشخصي لإتفاق التحكيم / الكتب / اتفاق التحكيم الدولي / اثر الاختلاف في تفسير إرادة أطراف النزاع على تحديد النطاق الشخصي لاتفاق التحكيم
المعطيات التي يقوم عليها منهجا التنازع والقواعد المادية فى تحديد القانون الحاكم لاتفاق التحكيم، أن كليهما يحتفل بإرادة أطراف الاتفاق واعتبارها إحدى ضوابط أو عوامل الإسناد أو عاملاً من عوامل تحديد نطاق إعمال بعض القواعد المادية. ورغم أن تحديد اتجاه إرادة أطراف منازعة التحكيم يلعب دوراً أساسيًا في حسم العديد من المسائل المرتبطة باتفاق التحكيم إلا أن هذا التحديد يخضع بدوره لأساليب التفسير المختلفة، ومن المحتمل أن تختلف نتائج التفسير باختلاف مناهجه، وبالتالي فمن المتصور أن تصدر أحكام متضاربة سواء من هيئات التحكيم أو من المحاكم الداخلية للدول بصدد نفس المسألة المطروحة. ومؤدى ذلك أن إرادة أطراف اتفاق التحكيم الدولي وإن كان يمكن أن تكون عاملاً ، من عوامل توحيد النظام القانوني للاتفاق إلا أن اختلاف تفسيرها يقف حجر عثرة أمام هذا التوحيد .
وقد دلنا اطلاعنا على العديد من أحكام المحاكم والتحكيم على إمكانية اختلافها في تحديد النطاق الشخصي لاتفاق التحكيم ( حالة المنازعة في وجود اتفاق تحكيم بالنسبة لأحد أطراف النزاع) وهو ما يؤثر بالتأكيد ليس فقط على منطوق حكم التحكيم ولكن - أيضاً - على اتجاه محاكم الدول المطروح عليها دعوى بطلان حكم التحكيم و - أيضا - طلب تنفيذه .
(وتقدم لنا قضية دالة ضد حكومة باكستان ) مثالاً هذا على ما نحن بصدد إثباته، فقد أدى اختلاف المحاكم الإنجليزية والفرنسية في تحصيل مؤدى عناصر النزاع إلى اختلافها في تحديد اتجاه إرادة أطرافه بشأن الارتباط بشرط التحكيم.
صدرت ثلاث أحكام تحكيمية فى النزاع المذكور ضد حكومة باكستان وذلك في مقر التحكيم فى فرنسا ، ومن ثم رفعت الحكومة الباكستانية بطلان أمام محكمة استئناف باريس استنادًا إلى عدم ارتباطها باتفاق التحكيم يلزمها بالمثول أمام هيئة التحكيم
ومن هذا نرى أن كل من القضاء الفرنسي والقضاء الإنجليزي استند فيما انتهى إليه إلى الإرادة المشتركة لأطراف النزاع انطلاقا من تقدير كل قضاء لمؤدى تصرفات هؤلاء فى ضوء القانون المطبق على النزاع وهو القانون الفرنسي (قانون مقر التحكيم). وهكذا فبينما اتجه القضاء الفرنسي إلى وجود اتفاق تحكيم ترتبط به حكومة باكستان فإن القضاء الإنجليزي اتجه إلى عدم وجود مثل هذا الاتفاق نظرا لغياب الإرادة المشتركة للأطراف فى اعتبار حكومة باكستان مرتبطة باتفاق التحكيم
والذي يستفاد من الموقف المذكور لكل من القضاءين الفرنسي والإنجليزي أن كل منهما وإن شرع فى البحث عن الإرادة المشتركة الأطراف النزاع، بشأن النطاق الشخصي لاتفاق التحكيم، إلا أنهما توصلا إلى نتائج مختلفة بسبب اختلاف منهج التفسير الذي اتبعه كل منهما.
ومثل هذه التوجهات، وإن كانت تتعلق بأحد جوانب اتفاق التحكيم الدولي (نطاق الشخصي)، إلا أنها تفيد أن توحيد النظام القانوني للاتفاق هو أمل بعيد المنال، حتى فى القضايا التي يكون القانون الواجب التطبيق عليها محددا سلفًا. عملاً بمنهج التنازع أو منهج القواعد المادية، ما دام لا يوجد قواعد موحدة لتفسير الوقائع المنطوية تحت حكمه وبالتالي تحديد اتجاه إرادة المتعاقدين في ضوء التصرفات الملابسة لإبرام عقد الأساس.
احتمالات اختلاف المحاكم في تطبيق القواعد المادية الدولية
أوردت اتفاقية نيويورك عددًا من القواعد المادية يتطلب إعمالها، من قبل محاكم الدول التي يتوجه إليها الخطاب فى هذه القواعد تعرضها لمدى صحة اتفاق التحكيم بصفة عامة، ومدى قابلية النزاع للتحكيم بصفة خاصة، ونذكر من تلك القواعد المادية التزام الدول الأعضاء فى الاتفاقية بالاعتراف باتفاقات التحكيم (م١/٢) من ناحية أولى، والتزام محاكمها بإحالة أطراف النزاع المطروح عليها والذي يوجد بشأنه اتفاق تحكيم - إلى التحكيم (م٣/٢) من ناحية ثانية وسلطة قاضي الدولة المطلوب منها تنفيذ الحكم فى رفض الطلب حالة ما إذا كان قانون هذه الدولة لا يجيز تسوية النزاع بطريق التحكيم (م٢/٥- أ) من ناحية ثالثة. وفي هذه الحالات قد يتطلب إعمال القواعد المادية الموحدة أن يتعرض قاضي الدولة - سواء وقع النزاع المطروح عليه قبل صدور حكم التحكيم أو بعد صدوره خصوصا لدى طلب تنفيذ الحكم لمدى صحة اتفاق التحكيم أو مدى فاعليته، ومن ثم يثور التساؤل عما إذا كان وجود قواعد مادية دولية موحدة تكفل في ذاتها صدور أحكام متناسقة - أن لم تكن موحدة - من محاكم الدول المعنية. وقد يكون من المفيد في الإجابة على هذا التساؤل توزيع البحث بين قسمين نتعرض في الأول لكيفية إعمال قاعدة الإحالة إلى التحكيم، وفى الثاني نعرض لكيفية تطبيق اشتراط قابلية النزاع للتحكيم.
أولاً - كيفية إعمال قاعدة الإحالة للتحكيم
طبقا للمادة (۳/۲) من اتفاقية نيويورك يجب على محاكم الدولة المتعاقدة إحالة أطراف النزاع المطروح عليها إلى التحكيم (بناء على طلب أحد الخصوم)، وذلك في كل حالة يكون فيها هذا النزاع محلاً لاتفاق تحكيم بين أطرافه، هذا ما لم يتبين للمحكمة أن هذا الاتفاق باطل أو لا أثر له (غير فعال) أو غير قابل للتطبيق.
ورغم أن النص المذكور ينطوي على قاعدة موحدة دوليا (الإحالة إلى التحكيم) إلا أنها تجيز لقضاة الدول المتعاقدة عدم تطبيق أحكامها في حالات معينة وهي حالات يُحتمل أن تتعدد اجتهادات المحاكم في تطبيق مقتضاها على النحو الذي سوف نعرض له. وبعد أن نعرض لعدد من التطبيقات التي تنطوي عليها قائمة اختلاف محاكم الدول المتعاقدة في هذه المسألة، تتصدى لمدى صلاحية استخدام أسلوب القياس في تحديد القانون الذي يجري فى ظله تقدير أسباب رفض طلب الإحالة.
۱- القانون الحاكم للدفع ببطلان اتفاق التحكيم :
من الواضح أن نص المادة (۳/۲) من الاتفاقية لم يضع ضوابط تنازع لتحديد القانون الواجب تطبيقه على الدفع الذي يطرح على قاضي الدولة المتعاقدة ويتمسك صاحبه ببطلان اتفاق التحكيم .
وهو مذهب يحول دون قبوله - في رأينا - عدم توافر شروط القياس .
وعلى هذا الأساس فإن قاضي الدولة يتمتع بسلطة واسعة في تقدير مدى صحة اتفاق التحكيم فى ضوء القانون الذي يري تطبيقه على الدفع ببطلان اتفاق التحكيم ومفاد هذا التحليل أن النص (۳/۲) يتيح لقاضي الدولة، في تقديره لمدى توافر شروط التزامه بإحالة أطراف النزاع إلى التحكيم أن يطبق قانونه الوطني على المسائل المثارة أمامه بشأن اتفاق التحكيم سواء كانت متعلقة بوجوده مثل التراضي أو صحته مثل عيوب الرضا ومدى قابلية النزاع للتحكيم أو حتى بشكل الاتفاق، وهو ما يحتمل أن يترتب عليه اختلاف حلول هذه المسائل باختلاف قوانين الدول المطروح على محاكمها النزاع الذي يوجد بشأنه اتفاق تحكيم مطعون في وجوده أو صحته.
٢- أسلوب تخلى القاضي عن نظر النزاع .
٣- مدى اتساع سلطة القاضي الوطني فى فحص مدى صحة اتفاق التحكيم .
٤- أسباب رفض طلب الإحالة .
٥- مدى صلاحية أسلوب القياس .
وبالتطبيق لذلك فإن القاضي الوطني يبحث المنازعة فى صحة اتفاق التحكيم فى ضوء قانون الإرادة وإلا فإنه يطبق قانون مقر التحكيم عملاً باتفاقية نيويورك على الوجه الموضح أعلاه. ومن الواضح أن الأخذ بأسلوب القياس المذكور من شأنه أن يكفل توحيد المعاملة القانونية لاتفاق التحكيم، وإلا فإن القول بغير ذلك، حالة خضوع اتفاق التحكيم ذاته القانونين مختلفين بحسب المرحلة التي يلزم فيها بحث مدى صحة اتفاق التحكيم (قبل صدور حكم التحكيم أو بعد صدوره)، يترتب عليه احتمال صدور أحكام قضائية متضاربة بشأن مدى صحة اتفاق التحكيم .
ومع ذلك فإنه من المحتمل أن يواجه أسلوب القياس اعتراضًا في التطبيق لعدم توافر شروطه أو حتى جدواه. فأولاً أن قواعد التنازع التي وضعتها اتفاقية نيويورك لم ترد إلا بشأن تنفيذ حكم التحكيم، وبالتالي فنطاق تطبيقها محصور في هذه المرحلة. صحيح أن المسألة التي يعالجها كل من نص الاتفاقية المتعلق بالاعتراض على تنفيذ حكم التحكيم ونص الاتفاقية المتعلق بالإحالة إلى التحكيم هي مسألة واحدة (مدى صحة اتفاق التحكيم) إلا أن المنطق يقتضي أن ينظر في تحديد القانون الذي يخضع له اتفاق التحكيم إلى وقت إبرامه.
وثانياً فإنه باقتراض سلامة أسلوب القياس المشار إليه فإنه قد يكون غير مجدى حالة عدم تحديد اتفاق التحكيم للقانون الحاكم له (قانون الإرادة)، وذلك إذا عرضت المنازعة في صحته قبل تحديد مقر التحكيم، ففى مثل هذه الحالات لا محل لتطبيق ضوابط التنازع التي ذكرتها اتفاقية نيويورك والتي يفترض تطبيقها صدور حكم التحكيم، صحيح أنه من غير المستساغ أن يختلف حكم اتفاق التحكيم من جهة صحته بحسب المرحلة التي تطرح فيها المنازعة فى صحته (المرحلة السابقة على بدء إجراءات التحكيم وفى مرحلة طلب تنفيذه )، غير أنه من غير المستساغ أيضا أن يجري تقدير مدى صحة اتفاق التحكيم حالة تحديد مقر التحكيم في تاريخ لاحق على تاريخ إبرام الاتفاق، وفقًا لقانون هذا المقر خصوصا إذا كان حكمه مختلفًا عـن حكم قانون محل الإبرام وهو عادة محل إبرام عقد الأساس، اذ لا يتوقع من أطرافه ولا يجوز أن يطلب منهم ذلك مراعاة قواعد وشروط مقر التحكيم.
وفي اعتقادنا أن أفضل الحلول وأقربها إلى الصحة، هو أن يقوم القاضي الوطني المعروض عليه طلب إنفاذ اتفاق التحكيم المطعون فى صحته، بحسم هذا الطلب في ضوء أحكام قانونه الوطني على حسب ما سوف يرد من تفصيلات فيما بعد.
ثانيا - اشتراط قابلية النزاع للتحكيم :
تناولت اتفاقية نيويورك اشتراط قابلية النزاع للتحكيم في عدة مواضع متفرقة منها، وعلى حين أن هذا الاشتراط جاء مباشرًا وصريحا في موضعين بشأن الاعتراف باتفاق التحكيم وأيضا بشأن رفض القاضي الوقتي طلب تنفيذ حكم التحكيم)، إلا أن الاشتراط ذاته جاء بطريقة غير مباشرة من حيث إنه يدخل ضمن اشتراطات صحة اتفاق التحكيم باعتبار) قابلية النزاع للتحكيم تشكل شرطا خاصا للاتفاق وهو ما أشارت إليه الاتفاقية أيضًا في موضعين (إنفاذ اتفاق التحكيم وأيضا كسب للاعتراض على تنفيذ حكم التحكيم). ومن هذا يتضح أن قابلية النزاع للتحكيم قد يكون مطلوباً كشرط لصحة اتفاق التحكيم ذاته، وقد يكون مطلوباً لاستصدار أمر تنفيذ حكم التحكيم، وإذا كان من الواضح أن اتفاقية نيويورك قد اتجهت في معالجة قابلية النزاع للتحكيم إلى تبني قواعد مادية في بعض المواضع (٠١/٢ ٢/٥٤٥-ب) ، إلا أن اعتبار هذا الاشتراط من ضمن شروط صحة اتفاق التحكيم يترك الباب مفتوحا لتنازع القوانين في شأن إعمال الاشتراط المذكور.
وقد يكون من المناسب - فى معالجة الاشتراط الذي نحن بصدده - أن نحدد بدقة المواضع التي يحتمل أن يحصل الخلاف بشأن القانون الذي يخضع له الاشتراط، ومن ثُمَّ نعالج كيفية تحديد هذا القانون لنخلص إلى تحديد حجم احتمالات اختلافات المحاكم وهيئات التحكيم في إعمال الاشتراط.
١- مواضع اشتراط القابلية للتحكيم فى اتفاقية نيويورك :
أشارت الاتفاقية إلى اشتراط قابلية النزاع للتحكيم في أربعة مواضع فيها. في اثنين منها جاء هذا الاشتراط مباشرًا (م۲/۱،٥/۲أ). بينما جاء الاشتراط في موضعين الحرين مندرجا في شروط صحة اتفاق التحكيم - م٣/٢، م٥|أ-١).
وقد حددت الاتفاقية القانون الواجب التطبيق على الاشتراط في حالتين، الأولى في شأن اعتراض المحكوم ضده على تنفيذ حكم التحكيم بسبب عدم صحة اتفاق التحكيم (م١/٥-أ) معتمدة فى هذا التحديد على منهج التنازع (قانون الإرادة ثم قانون مقر التحكيم) . أما الحالة الثانية فهي تتصل برفض القاضي الوطني من تلقاء نفسه إصدار أمر تنفيذ حكم التحكيم استنادًا إلى أن النزاع الصادر بشأنه هذ الحكم لا يجوز تسويته عن طريق التحكيم وفقًا لقانون القاضي (م٢/٥-١) .
أما الموضعان الآخران اللذان لم تحدد الاتفاقية فيهما القانون الواجب التطبيق على مسألة القابلية للتحكيم، فأولهما يتعلق بالتزام الدولة العضو في الاتفاقية بالاعتراف باتفاق التحكيم متى كان محله مسألة يجوز تسويتها عن طريق التحكيم .(م۱/۲). أما الموضع الثاني فهو يتعلق بالتزام قاضي الدولة المذكورة بإحالة النزاع المطروح عليه إلى التحكيم متى كان موضوعه محلاً لاتفاق تحكيم وذلك ما لم يتبين للقاضي أن هذا الاتفاق باطل أو لا أثر له أو غير قابل للتطبيق (م۳/۲)
نلاحظ أن البدلين الثاني والثالث جاءت الإشارة إليهما في اتفاقية نيويورك فى النص (م٥\ ۱-أ) الذي يتناول اعتراض المحكوم ضده على تنفيذ حكم التحكيم بعد صدوره. أما البديل الأول (قانون القاضي) فقد جاءت الإشارة إليه في النص (م٢/٥ - أ) الذي يتيح للقاضي الوطني أن يرفض من تلقاء نفسه اصدار الأمر بتنفيذ حكم التحكيم. وإزاء تعدد البدائل المطروحة بشأن كيفية تحديد القانون الواجب التطبيق على اشتراط قابلية النزاع للتحكيم - في الحالات التي لم تفصح فيها الاتفاقية عن المنهج الواجب الاتباع يثور التساول عما إذا كان يمكن إعمال أسلوب القياس على منهج التنازع على الحالتين المسكوت عن تحديد القانون الخاضع له لاشتراط.
وقبل أن نتعرض للإجابة على هذه التساؤلات يتعين الإشارة إلى أن مفاد تعدد البدائل التي يلجأ إليها قضاة الدول الأعضاء فى الاتفاقية لحسم المسألة محل البحث أن هناك احتمالاً لصدور أحكام متضاربة في هذه المسألة. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن استدعاء أسلوب القياس كأسلوب لتحديد القانون الواجب التطبيق على اشتراط قابلية النزاع للتحكيم قد يكون محلاً للاعتراض انطلاقا من أن هذا الاشتراط جاء مطلوبًا فى الاتفاقية لأغراض مختلفة، فقد يكون شرطا لصحة اتفاق التحكيم (م۳/۲) وقد يكون مطلوباً لإمكان تنفيذ حكم التحكيم (م٥|أ-١، م٢/٥ - أ). يضاف إلى ذلك اختلاف المجال الزمني للاشتراط بحسب الغرض من فرضه، فقد يبرز الاشتراط في مرحلة ما قبل صدور حكم التحكيم الأغراض الإحالة إلى التحكيم (م۳/۲)، وقد يثور فى مرحلة ما بعد صدوره لأغراض رفض القاضي الوطني إصدار الأمر بتنفيذ حكم التحكيم ( م٥\ أ-١، م٢/٥ - أ ) .
في ضوء هذه التحديدات هل يمكن قانونا إعمال أسلوب القياس المشار إليه ؟
فإذا وجد أنه لا محل لإعمال هذا الأسلوب وهو - ما سبق التأكيد عليه - فإن ذلك يفتح الباب لاختلاف حكم مسألة اشتراط قابلية النزاع للتحكيم، ومن ثم اختلاف الوضع القانوني لاتفاق التحكيم بحسب اتجاه القانون المطبق على هذا الاشتراط.
وقد تعمدنا أن نعرض لتعدد مواضع الاشتراط وتعدد معاملته القانونية بحسب المجال الذي يعمل فيه، حتى يكون واضحًا أن اتفاقية نيويورك وإن اتجهت - في بعض مواضعها - إلى تنظيم اتفاق التحكيم بقواعد موحدة، إلا أن هذا التنظيم لا يمنع من اختلاف هذه المعاملة بين قوانين وقضاة الدول الأعضاء في الاتفاقية، هذا فضلاً عن اختلاف الحلول التي قد تعتنقها هيئات التحكيم في شأن ذات الاشتراط.
٢- كيفية تحديد القانون المطبق على اشتراط القابلية للتحكيم (بدائله) :
عرضنا فيما سبق لقائمة القوانين المحتمل تطبيقها على الاشتراط الذي نحن بصدده، في الحالات التي لم تحدد فيها اتفاقية نيويورك بطريقة مباشرة القانون الواجب التطبيق عليها أو لم تضع ضوابط إسناد لتحديده. لذلك قد يكون مفيدا لأغراض هذا البحث أن نعرض للصعوبات التي تواجه اختيار أحد القوانين المقترح تطبيقها على الاشتراط محل البحث، وهو ما يؤكد ما تعتقده من أن استهداف اتفاقية نيويورك توحيد المعاملة القانونية لاتفاق التحكيم هو هدف بعيد المثال إزاء اختلاف توجهات أحكام المحاكم والتحكيم في كيفية تطبيق القواعد التي وضعتها الاتفاقية حتى فى الحالات التي تكون فيها هذه القواعد مادية، وهو ما يحصل أيضا من باب أولى حالة إخضاع الاشتراط لمنهج التنازع عملاً بأسلوب القياس، وهو ما نعرض لتفصيلاته فيما يلي :
(۱/۲) تطبيق قانون اتفاق التحكيم
وفي المقابل يتعين الإشارة إلى أمرين قد يفيدا في تحديد القانون الخاضع له الاشتراط، الأمر الأول أن الاتفاقية عندما فرضت على الدول الأعضاء فيها الاعتراف باتفاق التحكيم اشترطت بنص صريح (۱/۲۴) أن يكون محل هذا الاتفاق قابلاً للتحكيم، هذا في حين أنها عندما عالجت تنازع الاختصاص بين محاكم الدول وهيئات التحكيم (۳/۲۴) اشترطت- بصفة عامة وبأسلوب سلبي - أن يكون اتفاق التحكيم صحيحًا.
أما الأمر الثاني فهو أن اشتراط قابلية النزاع للتحكيم سواء كمفترض للاعتراف باتفاق التحكيم (۱/۲) أو كشرط لإنقاذه، ومن ثم إحالة النزاع إلى التحكيم (م٣/٢) وضعته الاتفاقية فى نص واحد هو نص المادة الثانية منه وهو بحسب وضعه في الاتفاقية يتوجه إلى مرحلة ما قبل صدور حكم التحكيم واذا كانت الاتفاقية لم تفصح صراحة عن القانون الواجب التطبيق على الاشتراط في المرحلة المذكورة، إلا أن المنطق يدعو للاعتقاد بأنه لابد أن يكون قانونا واحدا.
وفي جميع الأحوال فإن ثبوت عدم قابلية النزاع للتحكيم يؤدي إلى بطلان اتفاق التحكيم، وبالتالي لا يوجد ما يلزم محاكم الدولة فى هذه الحالة بالاعتراف بالاتفاق وإنفاذه أو بإحالة النزاع إلى التحكيم .
(۲/ب) تطبيق قانون مقر التحكيم
رغم أن قاضي الدولة المطروح عليه نزاع يوجد بشأنه اتفاق تحكيم قد يتجه إلى تقدير مدى قابلية النزاع محله للتحكيم وفقا لقانون مقر التحكيم خصوصا إذا كان هذا القانون هو الواجب التطبيق على اتفاق التحكيم، إلا أن هذا الاتجاه يفترض أن مقر التحكيم جرى تحديده بالفعل فى اتفاق التحكيم، أما إذا لم يحصل هذا فى الوقت الذي ينظر فيه قاضى الدولة طلب إحالة النزاع إلى التحكيم فأنه لا يتصور أن يجرى تقديره لاشتراط قابلية النزاع للتحكيم وفقا لقانون مقر لم يتحدد بعد. وفى جميع الأحوال فإن صعوبة تطبيق قانون مقر التحكيم - حتى في الحالات التي يكون فيها محددا لدى نظر قاضى الدولة للنزاع - ترجع إلى أن اختيار هذا المقر خصوصا إذا جرى تحديده عن غير طريق أطراف الاتفاق - يخضع لاعتبارات تتعلق بالحياد وقد لا يكون لها علاقة بموضوع النزاع .
(۲/ج) تطبيق قانون القاضي الوطني.
قد يقتنع قاضى الدولة - المطلوب منه إحالة النزاع إلى التحكيم بالأسباب التي تحول دون القياس على ضوابط الإسناد التي أوردتها الاتفاقية في شان الحالات التي يمكن أن يرفض فيها طلب تنفيذ حكم التحكيم، ومن ثم يتجه إلى تطبيق قانونه الوطني عند تقديره لمدى قابلية النزاع للتحكيم في مرحلة ما قبل اتخاذ إجراءاته. وقد يجد القاضي سندًا لتطبيق قانون دولته على المسألة المذكورة أن الاتفاقية نصت على هذا الاختيار (تطبيق قانون القاضي) في حالة مماثلة يتبين فيها للقاضي أن النزاع غير قابل للتحكيم، وهو ما يخوله رفض طلب تنفيذ حكم التحكيم. فإن وجد أن مرجع هذا الاختيار هو القياس على حالة أخرى فمن المحتمل أن يقال أن لهذا القياس ما يبرره أولاً من حيث تماثل المسألة المطروحة في الحالتين (قابلية النزاع للتحكيم) ، وثانيًا من حيث إن تطبيق قانون القاضي في الحالتين يكفل التناسق بين الأحكام.
على أنه يتعين الإشارة إلى تطبيق القاضي الوطني لقانون دولته على المسألة المعروضة عليه إنفاذ اتفاق التحكيم والإحالة إلى التحكيم قياسًا على الحالة المماثلة التي نصت فيها الاتفاقية (م٢/٥-١) صراحة على تطبيق قانون القاضي، قد يجد ما يبرره في أن مسالة قابلية النزاع للتحكيم قد تتعلق بالنظام العام في بلد القاضي، ومن ثم فأنه بافتراض أن تطبيقاً لضوابط تنازع القوانين أرشد القاضي إلى قانون معين يعتبر اتفاق التحكيم صحيحًا، فإن فى مكنة القاضي الوطني أن يمتنع عن تطبيق هذا القانون إذا وجد أن حكمه يخالف النظام العام في بلده .
وفي اعتقادنا بأن ما انتهي إليه هذا الرأي قد يكون محلاً للنظر إذ إنه بالإضافة إلى ما قد يبدو في التحليل المذكور من جمع بين المتناقضات، فقد فات أصحابه أن قاعدة التنازع لم يرد ذكرها في اتفاقية نيويورك إلا بشأن حالات الاعتراض على تنفيذ حكم التحكيم بعد صدوره، هذا فى حين أن تقدير القاضي الوطني لمدى قابلية النزاع للتحكيم قد يكون مطلوبا قبل صدور حكم التحكيم، وبالتالي قبل حصول الاعتراض على تنفيذه. وإذا كان التحليل الذي أورده أصحاب الاتجاه المختلط) يقوم على أسلوب القياس، فإن عدم توافر شروط إعمال هذا الأسلوب يحول دون اعتماد هذا الاتجاه. وربما كان الأولى القول بأن الاتفاقية وقد خلت من إيراد قواعد تنازع بشأن قابلية النزاع للتحكيم فإنها تكون بذلك قد استبعدت استعارة منهج التنازع الذي أخذت به في شأن تنفيذ حكم التحكيم.
فإذا أريد اعتماد منهج القياس، فقد يكون الأولى قياس الحالة المنصوص عليها في المادة (١/٢- الاعتراف باتفاق التحكيم على الحالة المنصوص عليها في المادة (١٢/٥- عدم قابلية النزاع للتحكيم وفقا لقانون القاضي باعتبار أن حكم الحالة الأولى قد تشترك في غرضها مع الغرض من حكم الحالة الثانية، ومن ثم خضوعها لقاعدة مادية موحدة (قانون القاضي).
٣- احتمالات اختلاف المحاكم فى تطبيق مقتضى الاشتراط
هذا إذن هو وضع اشتراط قابلية النزاع للتحكيم حين يعرض أمر تقديره على قضاة الدول الأعضاء فى اتفاقيه نيويورك فى المرحلة السابقة على بدء إجراءات التحكيم. وإذا كان مطلوبًا من قاضي الدولة أن يتخذ ما يلزم لإنفاذ اتفاق التحكيم الدولي عملاً باتفاقية نيويورك إلا أنه لا يتصور أن يأتمر بهذا المطلب ما لم يقتنع بصحة اتفاق التحكيم، وبالتالي بات النزاع محله قابلاً للتحكيم وفقا للقانون الخاضع له كل أولئك مع مراعاة أن القاضي لن يفوته، في تقديره لمدى صحة اتفاق التحكيم فى ضوء مدى قابلية النزاع محله للتحكيم مقتضيات النظام العام في بلده.
وإزاء خلو اتفاقية نيويورك من تحديد القانون الواجب التطبيق على اشتراط قابلية النزاع للتحكيم، فإن القاضي الوطني قد يجد سندا في اتفاقية نيويورك، حين يطلب منه التحقق من هذا الاشتراط فى المرحلة السابقة على بدء إجراءات التحكيم، لتطبيق قانونه الوطني سواء فى قواعده الموضوعية أو قواعد التنازع التي يتضمنها. وفى الحالتين فإن اختلاف هذه القواعد من دولة لأخرى يفتح الباب لاختلاف حلول المسألة المثارة. وهذا هو تماما ما يمكن أن يحصل أيضا في المرحلة اللاحقة على صدور حكم التحكيم، فليس من المستبعد أن يختلف تقدير اشتراط قابلية النزاع للتحكيم بين هيئات التحكيم ومحاكم الدول المطلوب منها تنفيذ حكم التحكيم.