من الأصول الثابتة في ممارسة الاختصاص التشريعي التزام الدولة بمبدأ الإقليمية Principe de la territoralité des lots في وضع التشريع ، وهو مبدأ قديم يرجع إلى عهد الفقيه الفرنسي دار جنتريه DARGENTRE في القرن السادس عشر، وهو مبدأ يقوم على قاعدة تقليدية مقتضاها أن الأصل في القوانين هو الإقليمية وضعا وتطبيقا .
ولمبدأ الإقليمية شقان : الأول ، إيجابي ، وهو أن القانون يوضع لكي ينظم وبحكم ما يحدث من وقائع أو يتم من تصرفات وعلاقات على الإقليم الوطنى . أما الشق الثاني ، سلبي ، وهو أن القوانين لا يمكن أن يكون لها أى سلطان خارج إقليم الدولة التي وضعتها .
وبتلك المثابة لا يسوغ لدولة أن تضع تشريعا ليسرى خارج حدودها وعلى إقليم دولة أخرى ، وإن عملت غير ذلك ، كان ذلك مخالفا لقواعد القانون الدولى المحددة لنطاق السيادة التشريعية لكل دولة.
وقد التزم المقنن المصرى المبادئ عند وضعه قانون التحكيم الحالي لعام ١٩٩٤ ، ووضع ثلاث قواعد تترجم المبادئ المذكورة، وترسم الحدود الجغرافية لتطبيق أحكامه :
القاعدة الأولى :، إقليمية التطبيق على كل تحكيم يجرى في مصر . وصرحت بتلك القاعدة المادة الأولى من القانون بقولها ..... تسرى أحكام هذا القانون على كل تحكيم بين أطراف من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص أيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع يجرى فى مصر .
فكأن مناط تطبيق القانون هو مكان إجراء وسير عملية التحكيم ، وكونه فى مصر . ويموجب النص السابق تطبق أحكام قانون التحكيم المصرى رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤ على كل تحكيم يجرى في مصر، بغض النظر عن :
١ - نوع النزاع، هل هو ناشئ عن علاقة قانونية ، مدنية أو تجارية أو إدارية عقدية أم غير عقدية ، طالما كان يجوز تسويته بطريق التحكيم وفقا للمادة من ذات القانون . وهذا هو موجب تفسير عبارة أيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع" ، والواردة بالنص .
٢ - طابع التحكيم ، هل هو تحكيم داخلي ، يدور حول علاقة خالية من أي عنصر أجنبى ، سواء بأطرافها ، أو موضوعها ، أو سببها ، أم تحكيم دولى حسب المعيار الذي أوردته المادة الثالثة من القانون ، والتى تناولناها بالشرح فيما قبل . فالتحكيم الدولى الخاص ، الذى تتخذ إجراءاته فى مصر يخضع لقانون التحكيم المصرى .
غير أن سؤالا هاما يثور حول نقطة في غاية الدقة والأهمية ويتعلق بتلك القاعدة الأولى، لا سيما في شأن التحكيم الدولي الذى يجرى فى مصر
هل يخضع هذا التحكيم ، بالضرورة ، لأحكام قانون التحكيم المصرى ؟ إن الرد بالإيجاب هو الذى يقود إليه نص المادة الأولى من القانون والبادى أن الفقه المصرى لا يذهب فكره إلى أبعد من ذلك .
ونحن نرى عكس ذلك . فالتحكيم الخاص الدولى لا يسرى عليه قانون التحكيم المصرى ، إلا إذا اختاره المحتكمون أو هيئة التحكيم عند تخلف إرادة هؤلاء . إنه بإمكان المحتكمين أو هيئة التحكيم أن تختار قانون تحكيم أجنبى ليسرى على التحكيم الدولى الذي يجرى في مصر وذلك عملا بمبدأ سلطان الإرادة وهيمنة الأطراف على عملية التحكيم. ولا نظن أنه بالإمكان حرمان الأطراف ، في تحكيم دولى يجرى فى مصر من اختيار قواعد التحكيم المطبقة أمام غرفة التجارة الدولية بباريس ، أو قواعد التحكيم التجارى لدى جمعية التحكيم الأمريكية ، أو لدى محكمة لندن للتحكيم الدولى أو غيرها. إن القول بغير ذلك يعنى هدم التفرقة بين التحكيم الداخلى والتحكيم الدولى، وهو ما لا يجرؤ رجل قانون متمرس في مجال التحكيم أن يقدم عليه .
ويؤيد هذا الذي نقول أمران : ا الأول ، أن معظم أحكام قانون التحكيم الجديد أحكام تكميلية لإرادة الأطراف، فهى لا تطبق إلا إذا اتفق هؤلاء على ذلك صراحة أو ضمنا . وهذا هو شأن القواعد القانونية المكملة عموما .
الثاني ، انه من غير المنطقى أن يعترف المقنن المصرى ، على ما سوف نشير في القاعدة الثانية ، بتطبيق أحكام قانون التحكيم المصرى على التحكيم التجارى الدولى الذى يجرى في الخارج ، إذا اتفق أطرافه على ذلك ، ثم لا نعترف ، بالمقابل ، بحق هؤلاء الأطراف في اختيار قانون تحكيم أجنبى ليطبق على تحكيم تجارى دولى يجرى في مصر ، واستبعاد قانون التحكيم المصرى على الأقل في قواعده المكملة وهى غالية .
ثم لماذا نحرم المحتكمين أو هيئة التحكيم ، في التحكيمات التي تجرى في مصر ، من اختيار قانون تحكيم أجنبى ، أو من قواعد تحكيم لدى هيئة أو مركز معين، إذا ثبت أن ذلك القانون أو تلك القواعد هي أكثر ملاءمة واستجابة لمعطيات النزاع المطروح ، من أحكام قانون التحكيم المصرى .
إن التمسك بتطبيق القانون المصرى ، في كل الأحوال ، لمجرد تأكيد تطبيقه ، أو توسيع دائرة ذلك التطبيق ، عملا بمبدأ الإقليمية الذي أشرنا إليه ، يبدو متعارضا مع فلسفة القانون ذاته ، التي قامت على تشجيع حركة التجارة الدولية وجذبها شطر مصر ، وعلى مغازلة أصحاب رؤوس الأموال الأجنبية ودفعهم إلى التوجه شطر البلاد وطمأنتهم ، بتوفير وسيلة قضائية مناسبة لفض منازعاتهم التي عسى أن تثور في المستقبل .
القاعدة الثانية ، امتداد التطبيق إلى التحكيم الذي يجرى في الخارج إذا اتفق الأطراف على ذلك . وقد صرحت بتلك القاعدة نهاية المادة الأولى بقولها "تسرى أحكام هذا القانون ... إذا كان تحكيما تجاريا دوليا يجرى فى الخارج واتفق أطرافه على إخضاعه لأحكام هذا القانون".
وبموجب هذا النص يمكن أن تطبق أحكام قانون التحكيم المصري على كل تحكيم يجرى في الخارج بشرطين :
الأول ، أن يتعلق الأمر بتحكيم دولى ، أي تتوفر له صفة الدولية، بالمفهوم الذي عرضناه سلفا ، وكان يدور حول مسألة ذات طابع مالی ، مدنية أو تجارية أو إدارية ، مما يجوز تسوية النزاع حولهم بطريق التحكيم .
بيد أنه لو تعلق الأمر بتحكيم داخلى يجرى في دولة أجنبية فإنه سيخضع بالضرورة لقواعد التحكيم النافذة في تلك الدولة ، عملا بمبدأ الإقليمية المشار إليه ، واستنادا إلى أن التشريعات لا تعترف ، غالبا ، للأشخاص باختيار القانون واجب التطبيق على مسائل الإجراءات أو على مسائل الموضوع ، إلا في شأن المسائل ذات الطابع الدولي ، تيسيرا للمعاملات الخاصة عبر الحدود ، وعملا على نموها وازدهارها .
الثاني ، أن يكون هناك اتفاق بين المحتكمين على إخضاع التحكيم التجارى الدولى لأحكام قانون التحكيم المصرى . وهذا الذي يقرره النص يتوافق مع إعلاء شأن إرادة الأطراف في شأن التحكيم عموما ، سواء بالنسبة لتشكيل هيئة التحكيم ، أو بالنسبة لاختيار القانون واجب التطبيق على الإجراءات وعلى موضوع النزاع . فإذا قدر الأطراف أن أحكام قانون التحكيم المصرى هي الأكثر ملاءمة ومناسبة لطبيعة النزاع المعروض ، واختاروها صراحة، في صلب ، أو حتى عند حدوث النزاع التزمت هيئة التحكيم بإعمال تلك الأحكام وهذه القاعدة الثانية بشرطيها قد طبقها القضاء المصرى .
القاعدة الثالثة ، سريان الاتفاقيات الدولية بالأولوية على القانون المصرى . وتلك القاعدة تشكل ، في الحقيقة ، قيدا على إعمال القاعدتين السابقتين، وقد نصت على هذه القاعدة الثالثة مقدمة المادة الأولى من قانون التحكيم بقولها مع عدم الإخلال بأحكام الاتفاقيات الدولية المعمول بها فى جمهورية مصر العربية ترى أحكام هذا القانون...
وهذه القاعدة تفرض مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم على قانون، أو قوانين، التحكيم الوطنية ، وهو مبدأ متعارف عليه في الفقه القانوني .
ولما كانت مصر قد انضمت إلى العديد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم ، مثل اتفاقية نيويورك لعام ١٩٥٨ الخاصة بالاعتراف بأحكام المحكمين وتنفيذها ، واتفاقية واشنطن لعام ١٩٦٥ الخاصة بتسوية منازعات الاستثمارات بين الدول ورعايا الدول الأخرى ، وبعض الاتفاقيات الثنائية الأخرى في مجال التعاون القضائي وتنفيذ الأحكام وتشمل أحكام التحكيم ، فإن أحكام تلك الاتفاقيات سوف تطبق ، عند التعارض ، بالأولوية على أحكام قانون التحكيم المصرى، وفى الحدود التي لا تصطدم فيها الأحكام الاتفاقية واعتبارات النظام العام المعترف بها فى مصر .