طبقا للقواعد العامة في أحكام القانون المدني يكون الرضا ركنا أساسيا لقيام العقد ، ويتحقق هذا الرضا بتلاقي او توافق إرادتين أو أكثر علي إبرام العقد .
واتفاق التحكيم باعتباره عقد قوامه الإرادة ، لابد أن تتوافر لدي الأطراف إرادة إبرام اتفاق التحكيم . بل يجب أن تتجه هذه الإرادة إلى إحداث أثر قانوني معين وهو اختيار التحكيم كوسيلة لحسم منازعاتهم الناشئة عن علاقتهم الأصلية ، سواء أكانت هذه العلاقة عقدية أم غير عقدية وسواء أبرم هذا الاتفاق قبل وقوع النزاع أم بعد وقوعه .
ولا يكفي وجود التراضي وحده لإبرام اتفاق التحكيم . بل يجب فوق ذلك أن يكون هذا الرضا خالية من عيوب الإرادة . ويمكن بحث عنصر الرضا في اتفاق التحكيم من خلال بحث النقاط التالية :
1- وجود الرضا .
۲- صحة الرضا .
۳- القانون الواجب التطبيق علي المسائل المتعلقة بركن الرضا.
١- الرضا الصريح :
الغالب في التحكيم ، أن يقع التعبير عن إرادة الطرفين في ولوج طريق التحكيم بالإرادة الصريحة. فيبرم الطرفان اتفاقا خاصة علي التحكيم. أو ينصان في العقد الأصلي علي الالتجاء إليه عند قيام النزاع.
ولا يحتاج شرط التحكيم الذي يدرج في العقد الأصلي إلي رضا خاص به إذ إن المفاوضات التي تدور حول مناقشة بنود العقد وتفاصيله تنسحب إلي شرط التحكيم. بمعني أن الرضا المتبادل بين الطرفين يشمل العقد الأصلي وشرط التحكيم معا.
وذلك بخلاف الاتفاق على التحكيم الذي يتم وفقا لاتفاق خاص بين الطرفين بعيد عن العقد الذي أنشأ العلاقة الخاصة. كما لو اتفق على التحكيم في صورة تعديل لاحق للعقد أو في صورة مشارطة التحكيم بعد وقوع النزاع - فإنه يلزم توافر رضا خاص بقبول مبدأ التحكيم ذاته كموضوع للمشارطة ، وإثبات التراضي علي ذلك كتابة وتوقيع مشارطة التحكيم من الأطراف .
وكما يتحقق الرضا الصريح بين أطراف التحكيم بالتوقيع علي المشارطة أو العقد الذي يتضمن شرط التحكيم. فإنه يتحقق كذلك بما يتبادله أطراف التحكيم من الوثائق المكتوبة كالرسائل والبرقيات أو غيرها من وسائل الاتصال الحديثة التي تظهر بوضوح إبرامهم لاتفاق التحكيم ولو لم تكن موقعة منهم .
٢- الرضا الضمنی :
عندما يكون التعبير عن الإرادة والرضا صريحا فإنه لا يثير صعوبة. ولكن الصعوبة تكمن عندما يكون التعبير عن الإرادة في اتخاذ طريق التحكيم تعبيرا ضمنية. فهل يجوز الاعتداد بالرضا الضمني في اتفاق التحكيم ؟.
ذهب جانب من الفقه إلى أن التعبير الضمني عن إرادة إبرام اتفاق التحكيم
وقد يتخذ التعبير الضمني عن إرادة الأطراف في ولوج طريق التحكيم صورة الإحالة إلي وثيقة تتضمن شرط التحكيم. كالإحالة إلي شروط عقد بيع نموذجي تضمن شرط التحكيم. وهنا يثور التساؤل هل تكفي الإحالة العامة لشروط ذلك العقد التوافر الرضا ؟ أم يلزم إحالة خاصة إلى شرط التحكيم الوارد في هذا العقد ؟.
لقد حظيت الإجابة عن هذه التساؤلات ببحث واسع ومستفيض من جانب القضاء والفقه المقارن كما نصت عليها بعض القوانين والمعاهدات الدولية. ولكننا سنرجئ الاستفاضة في بحث هذه النقطة إلي موضع آخر). ويمكن أن نخلص منها إلى أن بعضهم ذهب إلى توافر ركن الرضا بشرط أن تكون الإحالة واضحة في اعتبار هذا الشرط جزءا من العقد - وهذا ما نص عليه المشرع المصري في قانون التحكيم المصري رقم ۲۷ لسنة 1994 بالمادة
۳/۱۰ في حين أن بعضهم الآخر ذهب إلي وجوب الإحالة الخاصة إلى شرط التحكيم الوارد في العقد حتى يمكن القول بتوافر الرضا.
٣- السكوت ومدي صلاحيته للالتزام باتفاق التحكيم :
غني عن البيان أن هناك فارقة بين التعبير الضمني والسكوت. فالتعبير الضمني يفترض سلوكا إيجابية من الشخص ، يمكن أن يقطع في الدلالة علي إرادته. أما السكوت ، فهو أمر سلبي لا يقترن بأي مسلك أو موقف أو لفظ أو كتابة أو إشارة . ويترتب على ذلك أن السكوت - كقاعدة عامة - لا يصلح للتعبير عن القول ) . ولكنه في مجال التحكيم قد ينتج أثره في الالتزام باتفاق التحكيم إذا أحاطت بالقبول ظروف ملابسة من شأنها أن تجعله يدل على الرضا وأبرز مثال على السكوت. إن يرسل شخص إلى آخر رسالة يعرض عليه فيها فض منازعاتهما عن طريق التحكيم. ويضرب له ميعادا للرد ، فإن فات الميعاد دون الرد. في هذه الحالة يعد السكوت قبولا للتحكيم. ولا يجوز التنصل من القبول هنا.
الإرادة المفترضة هي الإرادة الباطنة التي يتعرفها المحكم أو القاضي عن طريق الاقتراض من خلال قرائن مستمدة من ظروف العقد. فالمحكم هنا لا يبحث عن إرادة موجودة فعلا - صريحة أو ضمنية - وانما يفترض وجودها من خلال القرائن التي تقبل إثبات العكس. فهل تصلح الإرادة المفترضة للالتزام باتفاق التحكيم ؟.
ذهب القضاء الفرنسي في بعض أحكامه إلى الاعتداد بالإرادة المفترضة في التحكيم الدولي حيث يمكن مد نطاق شرط التحكيم إلي بعض الأطراف بالرغم من أنها لم توقع عليه. إذ قضت محكمة استئناف باريس في حكمين صادرين عنها في ۸۹/۲/14
، ۹۰/۱/۱۱ بأنه "وفقا لأعراف التجارة الدولية فإن شرط التحكيم المدرج داخل العقد الدولي يقتضي أن يمتد تطبيقه إلي الأطراف المتصلة بشكل مباشر في تنفيذ العقد والمنازعات الناشئة عنه ، وذلك بمجرد التحقق من أن مراكزهم التعاقدية وأنشطتهم والعلاقات التجارية المعتادة ، القائمة بين الأطراف تدفع إلي الافتراض بأنهم قبلوا شرط التحكيم ، الذي يعلمون بوجوده ونطاقه ، علي الرغم من عدم قيامهم مطلقة بالتوقيع على العقد ، الذي تضمن شرط التحكيم المشار إليه".
وفي هذا الاتجاه أقر المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بواشنطن مبدأ الإرادة المفترضة عند نظر قضية هضبة الأهرام. وقضت بتاریخ ۲۰ مايو ۱۹۹۲ بإلزام مصر بالتعويض بمبلغ سبعة وعشرين مليون وستمائة ألف دولار أمريكي تأسيسا علي أن المادة 8 من قانون استثمار رأس المال العربي والأجنبي رقم 43 لسنة ۱۹۷4 تنص على إمكانية حل منازعات الاستثمار في إطار اتفاقية واشنطن لعام 1965 المنشئة للمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ، الأمر الذي يعد إيجابية مفتوحة من جانب الحكومة المصرية يصلح لأن يقترن بقبول الطرف الآخر - شركة جنوب الباسفيك - ويسمع بإمكانية اللجوء إلي تحكيم المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار.
وقد تعرض هذا الحكم للنقد من جانب الفقه لأنه افترض رضا الحكومة المصرية بالتحكيم دون وجود موافقة صريحة على اللجوء إليه.
تحديد موضوع النزاع في شرط التحكيم :
( إذا اتخذ اتفاق التحكيم صورة شرط التحكيم داخل العقد أو في وثيقة منفصلة – بحسب الأحوال - قبل نشوء النزاع فإنه لا يلزم تحديد موضوع النزاع بشكل تفصيلي. وإنما يكون تحديد الموضوع " عاما " وهذا أمر بدهي أو منطقي لأن دائرة الاحتمال والتوقع لموضوع النزاع الذي سوف يطرح علي هيئة التحكيم تكون واسعة وغير محددة علي وجه الدقة.
وبالرغم من ذلك فإنه يجب تحديد الموضوع الذي يدور حوله النزاع بشكل واضح وغير مبهم ، فلا يكفي لتحديد موضوع النزاع القول بأن الموضوع هو حسم جميع المنازعات التي تنشأ بين الأطراف ، وإنما يمكن الاكتفاء بالقول بأن موضوع النزاع هو حسم جميع المنازعات التي تنشأ بين الأطراف بمناسبة دعوى معينة ، أو أن موضوع النزاع هو حسم المنازعات التي تنشأ عن تنفيذ عقد معين. أو عند تصفية شركة معينة ، وعندئذ لا يمتد نطاق التحكيم إلى أي عقد أو اتفاق أخر.
وعندما تقوم منازعة مما يرد عليها شرط التحكيم ، فإنه يجب أن يحدد موضوع النزاع ذاته في بيان الدعوى أو أثناء المرافعة أمام المحكم وفي هذا تنص المادة ( ۲/۱۰) من قانون التحكيم المصري رقم ۲۷ لسنة 1994 على أنه: " يجوز أن يكون اتفاق التحكيم سابقا علي قيام النزاع سواء قام مستقلا بذاته أو ورد في عقد معين بشأن كل أو بعض المنازعات التي قد تنشأ بين الطرفين ، وفي هذه الحالة يجب أن يحدد موضوع النزاع في بيان الدعوى المشار إليها في الفقرة الأولي من المادة ۳۰ من هذا القانون ". كما تنص المادة ۱/۳۰ من ذات القانون علي أن " يرسل المدعي خلال الميعاد المتفق عليه بين الطرفين أو الذي تعنيه هيئة التحكيم إلى المدعي عليه وإلي كل واحد من المحكمين بيانة مكتوبة بدعواه يشتمل علي اسمه وعنوانه واسم المدعي عليه وعنوانه وشرح الوقائع الدعوى وتحديد للمسائل محل النزاع وكل أمر آخر يوجب اتفاق الطرفين ذكره في هذا البيان ".
ويجب عدم التوسع في تفسير اتفاق التحكيم عند تحديد موضوع المنازعة الخاصة بالتحكيم ، فلا يحق للأطراف أو الهيئة التحكيم أن يتوسعوا في مضمونه حتى لا يتعرض اتفاق التحكيم والحكم الصادر فيه للبطلان ، ولهذا فإن كان الاتفاق علي التحكيم بشأن المنازعات الناشئة عن تفسير عقد معين ، فإن هذا الاتفاق لا يشتمل على تلك المنازعات الناشئة عن تنفيذه ، أو تلك المتعلقة بتفسير عقد التحكيم.
موقف القوانين المقارنة من شرط تحديد موضوع النزاع :
١- المشرع العماني : لم يشترط تحديد موضوع النزاع بالنسبة لشرط التحكيم حيث اكتفي بالفقرة الأولي من المادة العاشرة من قانون التحكيم رقم 47 لسنة ۱۹۹۷ بالنص على أن يكون التحكيم في المنازعات التي نشأت أو يمكن أن تنشأ بين الأطراف بمناسبة علاقة قانونية معينة عقدية كانت أو غير عقدية. ولم ينص في الفقرة الثانية من ذات المادة على وجوب تحديد موضوع النزاع بالنسبة لشرط التحكيم حيث جاء فيها أنه " يجوز أن يقع التحكيم في شكل شرط تحكيم سابق على قيام النزاع في عقد معين......" وهذا النص مخالف لنص المادة ۲/۱۰ من قانون التحكيم المصري الذي نص صراحة على أنه يجب في هذه الحالة تحديد موضوع النزاع في بيان الدعوى.
٢- المشرع السعودي :
نص بالمادة السادسة من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم السعودي على أن ........ وثيقة التحكيم يحدد فيها موضوع النزاع تحديدة كافية وأسماء المحكمين ويجوز الاتفاق علي التحكيم بمقتضى شرط في عقد بشأن المنازعات التي تنشأ عن تنفيذ هذا العقد".
3 - المشرع القطري : نص بالمادة ۱۹۰ من قانون المرافعات المدنية والتجارية على أنه "يجب أن يحدد موضوع النزاع في وثيقة التحكيم أو أثناء المرافعة ولو كان المحكمون مفوضين بالصلح وإلا كان التحكيم باطلا.
4 - المشرع التونسي : نص بالفصل 17 من قانون التحكيم التونسي رقم 4۲ لسنة ۱۹۹۳ علي أنه " يجب تعيين موضوع النزاع في الاتفاق على التحكيم...... وإلا كان الاتفاق باطلا".
5 - المشرع الفرنسي : ذهب المشرع الفرنسي إلي عدم اشتراط تحديد موضوع النزاع بالنسبة لشرط التحكيم إذ إن المادة ۱۰۰6 من مجموعة المرافعات الفرنسية السابقة والمادة ۱۶۹۸ من مجموعة المرافعات الفرنسية الحالية لم تشترط تحديد النزاع في وثيقة التحكيم ذاتها. وأجازت التحديد لهذه المسائل " أثناء المرافعة" أي بعد قيام النزاع وبدء الإجراءات .
6 - المشرى الانجليزي : قد أبدي قانون التحكيم الإنجليزي ، وكذا قانون التحكيم الفيدرالي الأمريكي مرونة كبيرة حيال تحديد موضوع اتفاق التحكيم ، حيث لا يشترط كل منهما أكثر من ضرورة إبرام اتفاق التحكيم كتابة حتى تطبق عليه قوانين التحكيم، ويكتفي كقاعدة عامة عزم الأطراف أو نيتها علي الارتباط باتفاق تحكيم .
موقف الاتفاقيات الدولية من تحديد موضوع النزاع في شرط التحكيم
۱- قد نصت المادة ۲/۱۸ من قواعد لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي " اليونسترال" لعام 1976 على أنه "يجب أن يشتمل بيان الدعوى علي البيانات التالية ............ ج/ المسائل موضوع النزاع .......
۲ - كما نصت المادة 1/۲۳ من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الصادرعام 1985 علي أنه "علي المدعي أن يبين ، خلال المدة التي يتفق عليها الطرفان أو تحددها هيئة التحكيم ، الوقائع المؤيدة لدعواه ، والمسائل موضوع النزاع ، وطلباته ........... .
ويلاحظ من النصين السابقين أن تلك الاتفاقيات الدولية لم تفرق بين شرط التحكيم ومشارطة التحكيم واستلزمت ضرورة تحديد المسائل موضوع التحكيم.