ولا يشترط فى موضوع اتفاق التحكيم أن يكون هناك نزاع قد حدث بالفعل حتى يتم تعيين محل اتفاق التحكيم، بل يكفي النص في اتفاق التحكيم على أن يتم تسوية كافة المنازعات المتعلقة بموضوع معين فى العقد (كتنفيذ الأطراف لالتزاماتهم، أو تفسير بنود العقد..) عن طريق التحكيم، وهذا هو الشأن في حالة وجود شرط التحكيم في العقد الأصلى أو في وثيقة منفصلة ولكنها مرتبطة بهذا العقد.
أما في حالة مشارطة التحكيم فقد أوجب القانون - نظراً لنشوء النزاع بالفعل - ضرورة تحديد موضوع النزاع الذى سوف تنظره هيئة التحكيم المختصة بطريقة محددة ودقيقة، فإذا لم يتم تحديد محل اتفاق التحكيم على النحـو ســـالف البيان، فإن اتفاق التحكيم يعد في هذه الحالة معيباً ومعرضاً للبطلان.
وفى مسألة تحديد موضوع النزاع نرى أن المشرع قام للمرة الأولى بالتفرقة بين شرط التحكيم ومشارطة التحكيم من حيث صحة الأركان الموضوعية في كلا الاتفاقين. فبالنسبة لاتفاق التحكيم اللاحق بعد قيام النزاع وهو ما يعرف بمشارطة التحكيم، يجب أن يحدد في صلبه موضوع النزاع المراد حله عن طريق التحكيم تحديداً دقيقا ، لأن النزاع هنا قد صار شيئا محددا ويسهل تعيينه وتحديـده من قبل الأطراف، وبالتالي الاتفاق على التحكيم بشأنه وفقاً لإرادة حرة وصريحة لا يشوبها أى لبث أو نقصان.
اما إذا تعلق الأمر بشرط تحكيم داخل العقد أو فى وثيقة منفصلة بحسب الأحوال قبل نشوء النزاع، فإن محل النزاع يأتي دائماً عاماً بالنسبة لمنازعات معينة يحددها الشرط نفسه لأن دائرة الاحتمال والتوقع لموضوع النزاع الذى سوف يطرح على هيئة التحكيم فى المستقبل في حالة نشوء النزاع تكون أوسع وغير معينة تعيينا دقيقاً.
على أنه يجب التنبيه دائماً، أنه عند محاولة تفسير محل التحكيم لتعيينه و بیان حدوده، فإن هذا التفسير يجب أن يتم فى نطاق ضيق للغاية، فلا يحق للأطراف أو لهيئة التحكيم أن يتوسعوا فى مضمونه، حتى لا يتعرض اتفاق التحكيم والحكم الصادر فيه بالبطلان .
ويترتب على عدم وجود محل لاتفاق التحكيم أو كان هذا المحل غير محدداً أو مبهماً بطلان شرط التحكيم لعدم وجود ركن أساسي واجب توافره فــــي شروط صحته، ولا يجوز لأى من الطرفين أن يتمسك به تجاه الطرف الأخر أو تجاه قاضى الموضوع الذى عرض عليه موضوع النزاع لكي ينحى القضاء العادي.
ومن ناحية أخرى، فإذا حكمت هيئة التحكيم في هذا النزاع الذي ليس لـه أى معالم واضحة ومحددة فى اتفاق التحكيم، أو تجاوزت حدود موضوع النزاع محل اتفاق التحكيم بأن فصلت في نزاعات أخرى لا يشملها اتفاق التحكيم وغير مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بموضوع النزاع كان هذا الحكم باطلاً، ويستطيع أي طرف أن يتمسك بهذا البطلان أمام قضاء الدولة، وذلك برفع دعوى البطلان المنصوص عليها في المادة ٥٣ من قانون التحكيم المصرى، ويصبح الحكم كأن لم يكن.
وقد نص قانون التحكيم المصرى على الجزاء المترتب على عدم تعيين موضوع النزاع فى اتفاق التحكيم، وهو البطلان بناء على الدعوى المرفوعة من أحد الأطراف أمام المحكمة المختصة والتى يطلب فيها بطلان حكم التحكيم لتوافر أحد الأسباب المنصوص عليها فى المادة ٥٣ من هذا القانون، ومن بينها نص الفقرة الأولى بند (أ) من المادة ٥٣ وهو ما نصت عليه أيضاً المادة ١/١٤٨٤ من قانون المرافعات الفرنسي بأنه يبطل حكم التحكيم إذا لم يوجد اتفاق التحكيم أو كان هذا الاتفاق باطلاً أو قابلاً للإبطال أو سقط بانتهاء مدته.
وهنا ونحن بصدد بحث حالة عدم تعيين موضوع النزاع نكون أمام إحدى حالات عدم وجود اتفاق تحكيم إذ أن من الأركان الرئيسية الواجب توافرها في اتفاق التحكيم هو ضرورة توافر ركن المحل الذى ينصب عليه موضوع الاتفاق أما وإن كان هذا الركن غير متوافر فبالتالي لا وجود لاتفاق التحكيم.
ومن ناحية أخرى، فإن اتفاق التحكيم يبطل أيضاً لعدم تحديد موضو النزاع تحديداً كافياً نافياً للجهالة، فيستطيع أن يتمسك أحد الأطراف بهذا البطلان أمام هيئة التحكيم التى تنظر النزاع وفقاً لمبدأ الاختصاص بالاختصاص فإذا لــم تلتفت الهيئة لهذا الدفع، جاز له فى جميع الأحوال أن يرفع دعوى البطلان أمام المحكمة المختصة، وهذه الأخيرة تقوم بفحص مدى توافر سبب البطلان في اتفاق التحكيم أو الحكم من عدمه، دون التصدى لموضوع النزاع، إذ أن دورها يقف عند هذا الحد فقط.
ومن هنا نستطيع القول بأنه يمكن للأطراف فى أى وقت قبل نشوء النزاع أن يتفقوا على تصحيح اتفاق التحكيم إذا ما وجد به أى عيب من العيوب السابقة بحيث متفقا يصبح مع ما تطلبه القانون من أحكام.
فإذا ما ثار النزاع بين الطرفين فهما أمام فرضين أولهما أن يصححا اتفاقهما، ويحددا النزاع تحديدا دقيقا ويتنازلا عن الاتفاق المعيب الوارد في العقد، وهنا نكون أمام مشارطة تحكيم جديدة ليس لها أى أساس في العقد الأصلي، ولا يصح القول هنا أن الأطراف بموافقتهم على شرط التحكيم أو بمباشرتهم لخصومة التحكيم حتى نهايتها دون اعتراض من أى طرف على بطلان اتفاق التحكيم يصحح هذا البطلان إذ أن اتفاق التحكيم يجب أن يكون مكتوباً ومحدداً ومستوفياً لشروطه التى نص عليها القانون. ويقع باطلاً كل اتفاق مخالف لذلك. وثانيهما أن يلجأ أحد الأطراف إلى المحكمة المختصة بدعوى البطلان ويبطل الاتفاق والكم بحسب الأحوال، وفى هذه الحالة لا يكون أمام الأطراف إلا اللجوء إلى القضاء العادي باعتباره صاحب الولاية العامة.
وبالنسبة لحكم التحكيم
إن اتفاق التحكيم يمثل بالنسبة للقضاء وضعاً استثنائياً، إذ أنه يحرمه من مباشرة أموره بالنسبة لنزاعات معينة اتفق بشأنها على التحكيم، لذلك فإنه من المتعين على الأطراف أن تحدد على وجه الدقة أبعاد هذا الاتفاق وحدوده، بحيث إذا تجاوز المحكم هذه الحدود أو فصل فى أمر لم يطلب منه الفصل فيه أثناء ممارسته لسلطاته فى الفصل في موضوع النزاع، كان قراره معيبا واجب البطلان.
وينص البند (و) من الفقرة الأولى من المادة ٥٣ من قانون التحكيم المصرى على أنه يجوز رفع دعوى بطلان حكم التحكيم إذا فصل حكم التحكيم في مسائل لا يشملها اتفاق التحكيم أو جاوز حدود هذا الاتفاق والتي يقابلها نص المادة ١٤٨٤ / من القانون الفرنسي إذ تنص على بطلان حكم التحكيم في حالة تجاوز المحكم حدود سلطاته.
أما في حالة ما إذا تصدت هيئة التحكيم لمسائل مطروحة عليها وفقاً لاتفاق التحكيم ومسائل أخرى لم يشملها اتفاق التحكيم فقد أجاز المشرع في ذات المادة ١/٥٣ على أنه "ومع ذلك إذا أمكن فصل أجزاء الحكم الخاصة بالمسائل الخاضعة للتحكيم عن أجزائه الخاصة بالمسائل غير الخاضعة له فلا يـ بطلان إلا على الأجزاء الأخيرة وحدها".
ومن هذه المادة يتضح لنا حرص المشرع واهتمامه بعدم إبطال حكم التحكيم إذا كانت هناك أجزاء منه تتعلق بموضوع اتفاق التحكيم وصالحه بذاتها الفصل في موضوع النزاع أو جزء منه، على أن يتم إبطال الأجزاء الأخرى التي شملها حكم التحكيم ولم يشملها الاتفاق، وهذا الأمر يتطلب حقيقة جهد جهيد من القاضي المعروض عليه النزاع، فإذا اتضح للقاضى أنه لا يمكنه الفصل بين المسألتين لترتب احداهما على الأخرى، أو كانت إحداهما نتيجة للأخرى، فإنه لا مناص إذا من إيطال الحكم كله.
ومن كل ما تقدم يتضح لنا كيف أن تحديد موضوع النزاع محل اتفاق التحكيم أمر في غاية الأهمية، وهو ما يبرز دور الإرادة وأهميتها في اتفاق التحكيم، لذلك كان من الأهمية بمكان قبل أن ننتقل إلى الموضوعات التي يجوز فيها التحكيم من عدمه، أن نبين أهمية ودور الأطراف في تحديد المنازعات المطروحة على اتفاق التحكيم بصورة واضحة حتى لا تقضى على كل جهد بذل في صياغة اتفاق التحكيم أو أثناء مباشرة الأطراف والمحكمين الخصومة التحكيم، ومن ناحية أخرى فإن هذا التحديد لموضوع النزاع كشف لنا أهمية مبدأ قاضي الأصل هو قاضي الفرع والتي يتحلى بها القضاء العادى باعتباره صاحب الولاية العامة والمال الأخير لكل اتفاق باطل أو حكم معيب صادر من هيئات التحكيم .