تلحظ النصوص القانونية في مختلف التشريعات وجوب اختصاص محكمة معينة للنظر بمنازعات الإفلاس والإجراءات الجماعية بحيث يمتنع على المحاكم الأخرى وكذلك على المحكمين (ضمناً) النظر بهذه المنازعات. ففي القانون اللبناني المادة ٤٩٠ ق . ت . في فقرتها الرابعة على أن المحكمة التي قضت بالإفلاس تكون صالحة لرؤية جميع الدعاوى التي يمكن أن تحدث ويكون منشؤها القواعد المختصة بالإفلاس». وفي القانون المصري، المادة 60 من قانون المرافعات على أنه في مسائل التفليس، يكون الاختصاص للمحكمة
التي قضت به» .
في الواقع تمنح هذه النصوص ،المحكمة التي أعلنت الإفلاس أو «الإجراء الجماعي" اختصاصاً حصرياً للنظر بجميع المنازعات والدعاوى الناشئة عن الإفلاس، ولكن منح الاختصاص الحصري لمحكمة معينة لا يكفي بحد ذاته لاستبعاد التحكيم في إطار المنازعات المقرر أمر النظر بها لمحاكم معينة، الأمر الذي يبقي مسألة أسباب منع اللجوء إلى التحكيم.
الفقرة الثانية : أسباب استبعاد التحكيم
بالرغم من القول والتأكيد على أن منح الاختصاص الحصري المحكمة معينة لا يؤدي إلى استبعاد التحكيم في نطاق المنازعات الإفلاسيـة أو غيرها من المنازعات، فإنه يمكن القول بأن أسباب استبعاد التحكيم في المنازعات الإفلاسية هي ذات الأسباب التي دفعت إلى تقرير الاختصاص الحصري للمحكمة التي قضت بالإفلاس
ثم إن من شأن القبول بالتحكيم في المنازعات الناشئة عن الإفلاس، أن يؤدي إلى تشتيت أو بعثرة هذه المنازعات بين الهيئات التحكيمية والمحكمة الإفلاسيـة، وهذا لا يتلاءم مع أهداف الإجراء الجماعي والتي تقتضي بغية تحقيقها، بالإضـافـة إلـى الاختصاص الحصري لقاضي الإفلاس ، وقفـاً للملاحقات الفردية ، هذا الوقف الذي يعد من قواعد النظام العام الواجب التقيد به ..
الفرع الثاني : نطاق الاستبعاد
الفقرة الأولى : مفهوم وطبيعة المنازعات الإفلاسية
المنازعات المتعلقة ببطلان التصرفات المعقودة في فترة الـريبـة أو خلافاً لأحكام رفع اليد ، وكذلك المنازعات المتعلقة بالمسؤوليات الخاصة والجزاءات المفروضة ضد بعض الأشخاص كمدراء الشركات على سبيل المثال والمنازعات المتعلقة بقبول أو رفض الديون من قبل القاضي المشرف .
فإن محكمة التمييز بقرارها الصادر سنة ۱۹۸۷، اعتمدت المعيار التقليدي، حيث قضت بصدد دعوى المطالبة باسترداد بضائع بيعت مع شرط الاحتفاظ بالملكية، أنها لا تكون متولدة عن افتتاح الإجراء الجماعي، وبالتالي فإن المحكمين غير ملزمين بإعلان عدم اختصاصهم .
وإذا كان تاريخ إجراء التصرفات بالنسبة لتاريخ إعلان الإفلاس أو افتتاح الإجراء الجماعي غير ذي أثر على التحكيم في هذه الحالة، فإن الأمر لا يكون كذلك في حالات أخرى .
الفقرة الثانية : تاريخ صدور حكم الإفلاس وأثره على القابلية للتحكيم
البند الأول: اتفاق التحكيم مبرم قبل صدور حكم الإفلاس
فبقرارها الصادر سنة ۱۹۸۲ ، قضت محكمة التمييز الفرنسية بأنه عندما يستخدم السنديك صلاحية تكملة تنفيذ العقد يجب أن يقوم بذلك مع كل ما يترتب عليه من حقوق وموجبات ترتبط به ومن بينها البند التحكيمي الملحوظ فيه. وثمة قرارات تحكيمية في هذا الاتجاه ففي القرار الصادر سنة ١٩٧٤ ، اعتبر المحكمون بصدد نزاع عالق بين دولة نامية وإحدى الشركات التي تستثمر مواداً أولية فيها ووضعت قيد التصفية في بلادها، أنه كمبدأ عام عندما تبدأ إجراءات التحكيم قبل وضع الشركة قيد التصفة، فإن هذا الإجراء لا يكون ذا أثر على متابعة إجراءت التحكيم .
هذا وإن ما قرره المحكمون لا يميز بين الآثار الداخلية والدولية للتصفية القضائية، فالمحكمون يعتبرون أن هذا المبدأ يشكل قاعدة مادية تطبق بصورة مستقلة عن أية اعتبارات مسبقة، بخصوص المدى الدولي للقرار القضائي القاضي بالتصفية .
وفي قرار ثان صادر سنة ١٩٨٤، قرر المحكم متابعة إجراءات التحيكم معتبراً أنه لن يكون مطابقاً للمبادىء العامة للقانون وقف المحاكمة التحكيمية التي تم السير بها بشكل صحيح، بأسباب حاصلة خلال هذه المحاكمة .
فإذا اختار السنديك متابعة تنفيذ العقد، فإنه يكون ملزماً بكل الحقوق والالتزامات الناشئة
عن العقد و من بينها البند التحكيمي .
في حال إعمال البند التحكيمي والبدء بالمحاكمة التحكيمية، فإن السؤال يطرح حول مدى سلطات المحكم في البت بنزاع كان أحد أطرافه خاضعاً لأحكام الإفلاس أو لإجراء جماعي، فهل تكون سلطاته كاملة كما لو أن الإفلاس لم يحصل ؟ أم أنها تتقيد بقيود خاصة ناشئة عن طبيعة ومفاعيل الإفلاس أو الإجراءات الجماعية ؟
:أولاً: موجب المحكم باحترام المبادىء الأساسية في الإفلاس والإجراءات الجماعية
نبحث في مبدأ وقف أو تعليق الملاحقات الفردية، ومبدأ المساواة بين الدائنين .
١ - مبدأ وقف الملاحقات الفردية
تعرض هنا لقرارين صدرا عن القضاء الفرنسي بحثا في هذا المبدأ وتأثيره على عملية التحكيم.
القرار الأول : صدر عن محكمة التمييز سنة (۱۹۸۸)، وقضى بإبطال القرار التحكيمي القاضي بإلزام شركة موضوعة قيد التصفية بدفع مبلغ محدد من المال ، معتبرة أن مبدأ وقف الملاحقات الفردية في مادة الإفلاس، ذو طابع نظام عام داخلي ودولي
القرار الثاني : صدر أيضاً عن ذات المحكمة سنة ۱۹۹۱(۳)، واعتبر أن هذا المبدأ ذو طابع نظام عام داخلي ودولي ويطبق حتى في الحالة التي يجري فيها التحكيم في فرنسا ولا يكون خاضعاً للقانون الفرنسي.
٢ ـ مبدأ المساواة بين الدائنين
على غرار مبدأ وقف الملاحقات الفردية، أقر الاجتهاد لمبدأ المساواة بين الدائنين بطابع النظام العام الداخلي والدولي.
فبالرغم من استناد القرار على مبدأ مغاير عن ذاك المعتمد في القرارات السابقة بخصوص وقف الملاحقات الفردية، فإنه يقع في ذات الوجهة التي ذهبت إليها هذه القرارات وخصوصاً لجهة إبطال القرار التحكيمي القاضي بإلزام شركة خاضعة لإجراء جماعي بدفع مبلغ من المال .
هذا وقد أخذت م... باريس بهذه الوجهة، عندما اعتبرت بقرارها الصادر سنة ۱۹۹۳، أن مبدأ المساواة بين الدائنين، عندما يكون الدين، في أساسه ناشئاً بتاريخ سابق للحكم القاضي بافتتاح الإجراء الجماعي هو من النظام العام الداخلي والدولي، وأنه يفرض على المدعي الخضوع لالتزامات إعلان وتحقيق الدين، ويمتنع عليه ممارسة كل دعوى قضائية تستهدف الحكم على المدين الموجود قيد التصفية بدفع مبلغ من المال.
ثانياً : إمكانية استبعاد المبادىء الأساسية في الإفلاس والإجراءات الجماعية
يحدث أحياناً أن يكون تطبيق قواعد النظام العام الخاصة بقانون الإجراءات الجماعية مخالفاً لقواعد النظام العام عبر الدولي، ففي هذه الحالة تطرح مسألة الأولوية في تطبيق أحدهما؟
يميل الاجتهاد والفقه إلى وجوب تطبيق قواعد النظام العام عبر الدولي، متى كانت قواعد الإفلاس مخالفة له، فبقرارها الصادر سنة ١٩٩٣ ، عمدت م.إ. باريس إلى استبعاد قواعد النظام العام الخاصة بالإفلاس المعلن في دولة ساحل العاج انطلاقاً من أنه مخالف لمبدأ عام ذي طابع نظام عام دولي، متمثل هنا بوجوب تنفيذ الاتفاقات بحسن نية .
وما تجدر الإشارة إليه هو أن مثل هذا الاستبعاد مقصور على العلاقات الخاصة الدولية، التي تثور بشأنها مسألة الإفلاس وتأثيره على الحكم، دون العلاقات الداخلية، التي تخضع لأحكام القانون الداخلي ذات طابع النظام العام، والتي لن يكون باستطاعة المحكم تجاهلها لسمو النظام العام الداخلي في هذا الإطار، تحت طائلة إبطال قراره بحجة مخالفته لقواعد النظام العام الداخلية .
البند الثاني : اتفاق التحكيم مبرم بعد افتتاح الإجراء الجماعي أو صدور حكم الإفلاس
المنازعات التي لا تدخل ضمن نطاق اختصاص هذه المحكمة تكون قابلة للتحكيم، وهي في معظمها المنازعات ذات الطابع التعاقدي والتي يمكن أن تكون قد نشأت بین المدين والغير .
ثانياً: التصفية القضائية
لم يأت المشرع الفرنسي في قانون ۱۹۸۵ بأحكام جديدة متميزة عن تلك التي كان معمولا لاً بها في قانون ١٩٦٧ . ذلك أن المادة ١٥٨ من قانون ١٩٨٥ تنص على أنه «يمكن للمصفي، بترخيص من القاضي المشرف وبعد سماع المدين أو استدعائه، اللجوء إلى التحكيم أو المصالحة في كل المنازعات التي تهم مجموع الدائنين وحتى في تلك التي تكون متعلقة بحقوق أو دعاوى عقارية». وتضيف في فقرتها الثانية أنه إذا كان موضوع العقد التحكيمي أو المصالحة غير محدد القيمة أو يتجاوز دائرة اختصاص المحكمة، فإن العقد التحكيمي أو المصالحة يكون خاضعاً لمصادقة المحكمة»(۲) وعليه فإن هذه المادة تجيز للمصفي اللجوء إلى التحكيم أو المصالحة فيما يتعلق بالمنازعات التي تهم مجموع الدائنين ضمن الشروط والقواعد الخاصة المبينة .