فإن النيابة العامة بوصفها الأمينة على الدعوى الجنائية تختص بكافة المسائل المتعلقة بالتجريم والعقاب، فهي التي تستقبل الواقعة المجرمة، وتتحقق من شخصية الجاني والمجنى عليه، وتنزل الوصف والقيد الصحيحين على الواقعة محل التجريم، ثم تحيل القضية برمتها إلى المحكمة مشفوعة بأدلة الاثبات التي توافرت لديها والكافية لإدانة الجاني على فعلته، فتنظر المحكمة في الواقعة وتحكم بما تراه مناسباً بعد التحقق من أدلة الإثبات والنفى وبعد سماع الشهود والدفاع والرد على الدفوع المقدمة في الدعوى، فيصبح الحكم الصادر منها بالبراءة الإدانة عنوان الحقيقة ومآل التجريم والعقاب.
والدعوى الجنائية عادة ما توصف بالدعوى العمومية، وتأصيل ذلك الوصف يأتى من كون النيابة العامة وهى بصدد التحقق من الجريمة وملاحقة الجاني على فعلته حتى تقديمه للمحاكمة الجنائية، فإنها لم تكن قط نائبة عن شخص المجنى عليه فحسب، بل إنها تمثل المجتمع وحقه في القصاص من الجاني، للوصول إلى هدفيها الرئيسيين وهما المنع والردع اللازمين لاستقرار أمن وسلامة المجتمع.
وباستعراض مواد قانون العقوبات والتشريعات الجنائية الخاصة نجد أن المشرع قد أحاطها بكثير من الأهمية وأسبغ عليها وصف المدافع الأول للحريات والحرمات وأعتبرها الضمانة الأكيدة لاستقرار المجتمع والمحافظة على أمنه وسلامته ضد أى تخريب أو عدوان، فأصبحت بحق من ضروريات المجتمع التي لاغنى عنها، واعتبرت قواعده من النظام العام التى لا يجوز الاتفاق على مخالفتها.
وإذا كانت المواد الجنائية والعقابية من المواد الآمرة المتعلقة بالنظام العام فإنه لا يجوز الاتفاق على مخالفتها أو التصالح فيها، وبالتالي لا يحق للأطراف أن يجعلوها محلا لاتفاق التحكيم، لأن التحكيم لا يجوز كما نصت المادة ١١ من قانون التحكيم المصرى) فى المسائل التى لا يجوز فيها الصلح.
وإذا كان التحكيم غير جائزاً ، في المواد الجنائية، لأنه لا يجوز التصالح بشأنها لتعلقها بالنظام العام، كما أن المجنى عليه لا يحق له التنازل عن تطبيقها، وإن فعل ذلك عد متصرفا فيما لا يملك، ذلك لأن النيابة العامة وهي بصدد مباشرتها للدعوى العمومية تكون نائبة عن المجتمع ككل وليس شخص المجنى عليه، وبالتالى لا يجوز لها أن تغض البصر عن الجريمة ومرتكبها بتمام تنازل المجنى عليه عنها.
ولكنه مع ذلك يجوز الاتفاق على التحكيم في الحقوق المدنية المتعلقة بهذه الجرائم، مثال التعويض عن الضرر المادى والأدبى الذى أصاب المجنى عليه من جراء الجريمة الواقعة عليه، حتى ولو كانت هذه الجريمة متوقفة على شكوى المجنى عليه مثال التعويض عن الضرر الأدبى الذى أصاب الزوج والأولاد من جراء جريمة زنا الزوجة .
يجوز الاتفاق على التحكيم فى التعويض المدني الذي يطلبه المجنى عليه من الجانى من جراء الضرر الواقع عليه بشأن إحدى هذه الجرائم، وهو ما نصت عليه المادة ۱۸ مكرر (أ) من القانون رقم ١٧٤ لسنة ١٩٩٨ سالف البيان إذ تقول أنه لا أثر للصلح على حقوق المضرور من الجريمة.
كما أنه بداهة لا يجوز الاتفاق على التحكيم في الأموال التي تمنع الأنظمة التعامل فيها، مثال المواد المخدرة والأسلحة، ودين القمار وممارسة الدعارة والفجور والأوراق المالية المزيفة، والاتفاق على التحكيم في عدم كشف السلطات للتزوير المتقن للورقة الرسمية أو العرفية.
كما أنه لا يجوز الاتفاق على التحكيم في الجرائم التي يجوز فيها للمتهم التصالح مع الجهة الإدارية والمنصوص عليها في قانون العقوبات أو التشريعات الجنائية الخاصة، كالتصالح مع شركة الكهرباء بشأن سرقة التيار الكهربي، أو التصالح مع الإدارة المحلية أو الأحياء بشأن جرائم البناء بدون ترخيص، أو تصالح المتهم مع الإدارة فى الجرائم التموينية وهكذا . لأن النيابة العامة وهى بصدد حفظ تلك القضايا من قبيل عدم الأهمية وخلافه، لم تنفي صفة التجريم عنها، وإنما قضت بقواعد الملائمة بين ما آتاه المتهم من جرم وغلظة العقاب الذي سوف يلاقيه إذا ما عرضت القضية على القضاء مع وجود هذا التصالح، لأن المحكمة يجوز لها ألا تتقيد بهذا التصالح وتحكم بالعقوبة المقررة باعتبار أن الجرم قد وقع بالفعل.
أما بالنسبة لقضايا الحيازة، فالأصل أن المحكمة هي المختصة بإثبات الحيازة القانونية، وهى بصدد مباشرتها للقضية للوصول إلى الحق الموضوعي حد في الدعوى، لكن المشرع المصرى وجد أن قضايا الحيازة تثير كثيراً من المشاكل قد تتعدى إلى الجرائم، وأن طول مدة التقاضي قد تؤدى إلى تغيير الملامح القانونية للحيازة وتنشئ مراكز قانونية للأطراف لم تكن موجودة عند نشوء النزاع، هذا فضلا عما تؤديه واقعة اغتصاب الحيازة من تشرد أسر بأكملها مما يؤدى إلى وجود خلل فى السلام الاجتماعي.
لذلك فقد أعطى المشرع للنيابة العامة الحق في إصدار أمر وقتــي فــي منازعات الحيازة للحفاظ على استقرار المراكز القانونية للأط اف والتدخل السريع في هذه القضايا للحفاظ على استقرار الأوضاع القانونية، وهي بصدد ذلك تستطيع أن تغل يد الأطراف على العقار، أو تمكنهم جميعاً منه، أو أن تصدر أمرها بتمكين أحد الأطراف دون الآخر.
ونحن نرى من جانبنا بجواز الاتفاق على التحكيم بشأن منازعات الحيازة وذلك لأن الأصل فى منازعات الحيازة أنها تنعقد للقضاء المدني دون الجنائي وأن تدخل النيابة العامة بإصدار أمر وقتى فيها لم يكن فى كل الأحوال تدخلاً من أجل وجود جريمة اغتصاب الحيازة المنصوص عليها في المادة ٣٦٩ من قانون العقوبات، إنما يكون تدخلها لإثبات الحيازة لأحد الأطراف بناء على دلائل مادية ترجح كفة أحد الأطراف عن الأخر فى حقه في الحيازة لحين الفصل في موضوع الحق، فضلاً عن كون هذا القرار لا يلزم المحكمة التى تنظر موضوع النزاع بأى حال من الأحوال. فإذا ما اتفق الأطراف على اللجوء إلى التحكيم بشأن منازعة الحيازة، فهذا الاتفاق جائز قانوناً، ويستطيع المحكم أن يصدر حكمه بإسناد الحيازة لأحد الأطراف، الذي يقوم بدوره بوضع الصيغة التنفيذية عليه ويقوم بتنفيذه، وللطرف الأخر أن يقبل هذا الحكم بناء على موافقته المسبقة بالاتفاق على التحكيم في هذا الشأن، وبالتالي يصبح حكم التحكيم نافذا وله الحجية الكاملة على أطرافه. ت ومن ناحية أخرى فإننا نرى بأنه يجوز للمحكم أن يتعرض لموضوع الحيازة بناء على اتفاق الأطراف وهو بصدد مباشرته لفض النزاع على موضوع الحق ذاته سواء اعتبرنا قراره هذا وقتياً أم تحفظياً أم جزء من الحكم المنهى للخصومة.
ومن كل ما تقدم يتضح لنا أن التحكيم جائز فى كافة المنازعات المتعلقة بالمسائل المالية، التى تكون محلا للتعويض الناشئ عن الضرر الذي أصاب أحد الأطراف من جراء أحد الجرائم التي ارتكبها الطرف الآخر، هذا فضلاً عن جوازا لتحكيم فى منازعات الحيازة باعتبارها منازعة مدنية بالدرجة الأولى، ى، وأن تدخل النيابة العامة فيها، جاء رغبة من المشرع من الاستفادة بسرعة تدخل النيابة العامة في القضايا، للوقوف على الدلائل المادية التى قد تزول عبر الزمان ولتقرير بعض المراكز القانونية للأطراف، حفاظاً على استقرار الأوضاع القانونية، ورغبة في تحقيق السلام والأمن الاجتماعي.