اتفاق التحكيم / مفهوم النظام العام وعلاقته بعدم القابلية للتحكيم / الكتب / شروط اتفاق التحكيم وأثاره / مفهوم النظام العام وعلاقته بعدم القابلية للتحكيم
سبق أن ذكرنا أنه لا يجوز التحكيم في المسائل المتعلقة بالنظـــام العام. وهذا ما عبرت عنه المادة (٥٥١) من القانون المدني المصري، ومـــا ذهبت إليه أيضا المادة (٢٠٦٠) من القانون المدني الفرنسي.
وعليه يُطرح التساؤل : ما المقصود بالنظام العام؟ وهل مجرد التعلق بقواعد النظام العام يشكل عائقاً أمام الدخول في اتفاقات تحكيم، أم يتعين أن يكون هناك مساس بالقواعد المتعلقة بالنظام العام؟.
فهي تختلف باختلاف المجتمعات، كما أنها تختلف في المجتمع الواحد باختلاف الزمان. وعليه فإن فكرة النظام العام فكرة دقيقة يصعب ضبطها وتحديدها.
كما أنها فكرة متغيرة النطاق اتساعا وضيقا تبعاً لتطــور المجتمعات واصطلاحاتها، ولما يعتبره الناس (مصلحة عامة) في حقبة تاريخية وحضارة معينة، فلا يوجد قاعدة ثابتة تحددها تحديداً يصلح لكل زمان ومكان. لذلك فإن كل تحديد لها يبقى في نطاق النسبية، وتبعا لتقدير مجتمع ما لمعايير المصلحة العامة. فما يعتبر من النظام العام في فترة زمنية معينة، قد لا يعتبر كذلك في فترة أخرى، وما يعتبر من النظام العام في دولة قد لا يعتبر كذلك في دولة أخرى.
أما محكمة النقض المصرية فقد عرفت النظام العام بأنه: "يشمل القواعد التي ترمي إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد سواء من الناحية السياسية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، والتي تتعلق بالوضع الطبيعي المادي أو المعنوي لمجتمع منظم، وتعلو فيه على مصالح الأفراد، وتقوم فكرته على مذهب علماني .
ويلاحظ أن هذه التعريفات في مجملها تكاد تتفق على فكرة واحــــــدة، وهي أن النظام العام يمثل مجموعة القواعد التـي تمس النظام الأعلى للمجتمع، وتهدف إلى تحقيق المصلحة العامة سواء السياسية، أو الاقتصادية، الاجتماعية، أو الأخلاقية.
وبدورنا نعرف النظام العام بأنه : مجموعة القواعد التي تنظم علاقة الدولة بالأفراد، وعلاقة الأفراد فيما بينهم، وتهدف إلى تحقيق المصلحة العامة السياسية، والاجتماعية والاقتصادية - التي تعلو على مصلحة الأفراد.
أما الأسس السياسية فيقصد بها مجموعة القواعد التي تنظم ممارسة الدولة لسيادتها، وحرياتها العامة من خلال سلطاتها الثلاث: التشريعية، والتنفيذية والقضائية.
أما الأسس الاجتماعية فهي مجموعة القواعد التي تهدف إلى تحقيق الأمن والنظام الاجتماعي، مثل القواعد التي تنظم العلاقات، والروابط الأسرية كالزواج والطلاق وغير ذلك.
أما الأسس الاقتصادية . فهي مجموعة القواعد التي تنظم علاقات السوق، وحركة النقد والإدخار والائتمان ، وبشكل عام كل ما يتعلق بالإنتاج القومي.
أما الأسس الأخلاقية فهي: مجموعة القواعد التي تهدف إلى حماية المثل والقيم العليا في المجتمع، بما يتفق مع تقاليده، وأخلاقياته، ومعتقداته الدينية.
وهذا ما ذهبت إليه بعض المحاكم الفرنسية، عندما قضت بأنه يكفي للقـــول بعدم جواز التحكيم، أن يتعلق النزاع بتطبيق أو تفسير قاعدة من القواعد القانونية الآمرة مثل القواعد المتعلقة بتسعير سلعة من السلع على اعتبار أن اللجوء إلى التحكيم في مثل هذه الحالة، من شأنه أن يفوت قصد المشرع من وراء تنظيم المسألة بنصوص آمرة.
على أن الأخذ بوجهة النظر هذه، يؤدي إلى نتيجة غير مقبولة مفادها : إخراج الكثير من المنازعات المتعلقة بمعاملات الناس من نطاق القابلية للتحكيم، ذلك لأن القواعد الآمرة لم تعد تقتصر على فرع أو أكثر من فروع القانون، بــل امتدت لتغطي كافة فروع القانون.
هذا وقد انحازت محكمة استئناف باريس إلى هذا الاتجاه الأخير بوضوح كامل، في حكمها الصادر في ١٩٩٣/٥/١٩.
وبتقديرنا وبناءً على ما تقدم، أن مجرد قيام صلة بين عدم القابلية للتحكيم والنصوص القانونية الأمرة المتعلقة بالنظام العام، لا يكفي وحده للقول بعدم جواز التحكيم، وإنما يتعين أن يكون هناك تعد بالفعل على القواعد المتعلقة بالنظام العام.
وأخيراً انتهى القضاء الفرنسي إلى أن مجرد اتصال المنازعة ببعض القواعد القانونية المتعلقة بالنظام العام، لا يكفي للقول بعدم جواز الاتفاق على التحكيم ، وإنما لابد من أن تتصل المنازعة بالمبادئ الأساسية في المجتمع. وهذا ما ذهبت إليه محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في قضية /Ganz/ فى ۲۹ مارس ۱۹۹۱ ، وفي قضية /Labinal/ في ۱۹مايو ۱۹۹۳.
وأيضاً فقد قررت محكمة النقض المصرية في كثير من أحكامها، عدم قابلية النزاع للتحكيم لمخالفة النظام العام. وهذا ما قضت به فـي أحــد أحكامها بقولها أنه: " لا يجوز للقاضي أن يقوم بتنفيذ الحكم إذا رأى أنه لا يجوز اللجوء إلى التحكيم لتسوية النزاع، أو أن تنفيذ الحكم يخالف النظام العام ".
وهذه الحالة تختلف تماماً عن عن الحالة التي تكون فيها العلاقة محل النزاع منظمة من قبل المشرع بنصوص قانونية آمرة متعلقة بالنظام العام، ومن ثم لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، وإلا كان هذا الاتفاق عرضة للبطلان. وفي هذه الحالة الأخيرة إن ما يقتضيه النظام العام، هو ضرورة التزام أطراف العلاقة محل النزاع بالقواعد القانونية الآمرة المنظمة لهذه العلاقة. ومخالفة هذا الالتزام يجعل اتفاقهم باطلاً لا ينتج أثره.
في حين أنه في الحالة الأولى - أي عدم قابلية النزاع للتحكيم لمخالفة النظام العام - فإن منشأ عدم القابلية للتحكيم لمخالفة النظام العام، ليس هـو وجـود نصوص قانونية آمرة منظمة للعلاقة محل النزاع، تتعلق بالنظام العام، وإنما هو على وجه الدقة مخالفة قاعدة معينة بذاتها، تلزم أطراف العلاقة محل النزاع بعرض نزاعهم على القضاء العام في الدولة، وتحرم عليهم الاتفاق على التحكيم بشأنه. وتوجد هذه القاعدة خارج نطاق القواعد الموضوعية المنظمة للعلاقة محل النزاع واستقلالا عنها ، ومن ثم تنتمي إلى القانون الذي ينظم أداء الوظيفة القضائية، سواء أكان قانون المرافعات ذاته، أم كان لتنظيم التحكيم، ولا تنتمي إلى القوانين الموضوعية المنظمة للعلاقات المباشرة بين الأشخاص، وهما القانون المدني والقانون التجاري.
فمثلا نجد المشرع في كافة الدول ينظم المسؤولية المدنية عن الفعل الضار بنصوص قانونية آمرة متعلقة بالنظام العام، لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، ومع ذلك يجوز الاتفاق على التحكيم بشأن المنازعات المتعلقة بها. فمــا يقتضيه النظام العام في هذه الحالة، التزام أطراف العلاقة محل النزاع، القواعد القانونية الآمرة المنظمة لهذه العلاقة والمتعلقة بالنظام العام، وليس وجوب عرض النزاع محل العلاقة على قضاء الدولة وحده.
وإن التطبيقات العملية لهذا الموضوع كثيرة ، وقد صدرت العديد من الأحكام التي تقضي ببطلان اتفاق التحكيم لمخالفة القواعد القانونية الآمرة المتعلقة بالنظام العام. ومن هذه الأحكام: "ما حكم به المحكم السويدي الجنسية على النزاع المعروض عليه بشأن واقعة تتلخص في أن شخصاً أرجنتيني الجنسية اتفق مع شركة بريطانية على التدخل لدى المسؤولين الأرجنتينيين، لتسهيل حصول الشركة البريطانية على عقد مقاولة كبير، وذلك باستغلال قرابته لأحد المسؤولين، مقابل الحصول على عمولة نقدية كبيرة. وحدث وأن حصلت الشركة البريطانية على العقد الموعود به بعد فترة من الزمن، ولــــم تقم بالوفاء بالتزاماتها مع الشخص الأرجنتيني، فاتفقا على اللجوء إلى التحكيم وفقا لقواعد الغرفة التجارية الدولية بباريس للنظر في أمر هذا النزاع.
وتجدر الإشارة أخيراً ، إلى أنه ثار الخلاف بشأن مدى جواز التحكيم في الخارج بالنسبة لمسائل تدخل أصلاً في اختصاص محاكم الجمهورية وحدها.
إن مصر بانضمامها لاتفاقية نيويورك لعام ١٩٥٨، يتعين عليها الاعتراف باتفاق التحكيم الذي تتوافر فيه الشروط التي تنص عليها المادة (۲) من الاتفاقية.
ويؤيد جانب من الفقه- ونحن نوافقه على رأيه - هذه النتيجة التي انتهى إليها حكم التحكيم مستندا في ذلك إلى اعتبارين هامين
أ- إن العبرة للقول فيما إذا كانت المسألة قابلة للتحكيم في الخارج من عدمه، إنما يكون بالرجوع إلى نص المادة الثانية من اتفاقية نيويورك. ومن ثم فإن القول بعدم جواز التحكيم استنادا إلى وجود اختصاص مانع للقضاء المصري بنظر النزاع أمر غير وارد، إذ لا يدخل في نطاق الشرط المتعلق بقابلية المسألة للتحكيم.
فالتحكيم ينصب على نزاع يتعلق بمسألة عقدية أو غير عقدية، وهذه المسألة التي يجب التأكد من مدى قابليتها للتحكيم وفقا للمادة (۲) من اتفاقية نيويورك. وذلك أن التحكيم ليس موضوعه مناقشة اختصاص القضاء المصري وطبيعته الإلزامية أو الاختيارية.
فقابلية المسألة للتحكيم لا تتأثر بمكان التحكيم. فمكان التحكيم يعد أمراً خارجيا لا يؤثر على طبيعة المسألة المطروحة للتحكيم، ومن ثم فهو لا يُؤخذ بعين الاعتبار عند تقدير قابلية المسألة للتحكيم من عدمه.
ب- انعدام الصلة بين اتفاق التحكيم من حيث شروط صحته وأهمها وروده على موضوع قابل للتحكيم وفقا لنص المادة (٤/٥٠١) من قانون المرافعات الحالي والمادة (٥٥١) من القانون المدني المصري من ناحية، وبين قواعد الاختصاص القضائي الدولي لمحاكم الجمهورية ووجود قواعد تجعل هذا الاختصاص مانعا في بعض الحالات كما هو الحال بالنسبة للدعاوى العينية العقارية، ومشتركاً في حالات أخرى من ناحية ثانية.
فقد نشأ الخلط في الأذهان نتيجة عدم إدراك الفارق بين اتفاق التحكيم منظورا إليه من زاوية شروط صحته وآثاره، وبين أحكام التحكيم وشروط تنفيذها وفقاً لنص المادة (۲۹۹) من قانون المرافعات الحالي، والتي تقضي بأنه: "تسري أحكام المواد السابقة على أحكام المحكمين الصادرة في بلد أجنبي. ويجب أن يكون الحكم صادراً في مسألة يجوز التحكيم فيها طبقا لقانون الجمهورية".
فالشق الثاني من هذه المادة لا يعدو أن يكون تقنيناً لما أخذت به اتفاقية نيويورك في المادة {٢/٥) (أ) } والتي تسمح للدولة المطلوب إليها الاعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه، أن ترفض ذلك إذا كانت المسألة التي صدر فيها الحكم المراد تنفيذه لا يجوز تسويتها عن طريق التحكيم طبقاً لقانونها الوطني.
أما الشق الأول من المادة المذكورة أعلاه بما يتضمنه من إحالة إلى المواد السابقة هو المسؤول عن الخلط الذي وقع في أذهان البعض.
وقد فات الذين يتمسكون بهذا القيد، أنه صار منسوخاً جملة وتفصيلاً مع الشروط الواردة في نص المادة (۲۹۸) من قانون المرافعات الحالي، وذلك بانضمام مصر إلى اتفاقية نيويورك، حيث يتعين وفقاً للمادة (۳۰۱) من قانون المرافعات الحالي احترام نصوص الاتفاقيات الدولية المعقودة بين مصر وغيرها بما فيها اتفاقية نيويورك، ومن ثم استبعاد كافة القواعد الداخلية التي تتعارض معها بما فيها القواعد المتعلقة بالاختصاص القضائي الدولي لمحاكم الجمهورية.
فقضت بأن : "خلو اتفاقية نيويورك من النص علــــى عدم جواز الأمر بتنفيذ حكم المحكمين الأجنبي إلا بعد التحقق مــن عـدم اختصاص المحاكم بنظر المنازعة التي صدر فيها يترتب عليه أنه يتعين على المحاكم ألا تعمل نص المادة (۲۹۸) من قانون المرافعات الذي يتطلب ذلك، إعمالاً لنص المادة (۳۰۱) من قانون المرافعات الذي يقضي بأنـه إذا وجدت معاهدة بين مصر وغيرها من الدول بشأن تنفيذ الأحكام الأجنبية، فإنه يتعين إعمال أحكام هذه المعاهدة ".