الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • اتفاق التحكيم / مفهوم النظام العام وعلاقته بعدم القابلية للتحكيم / الكتب / التحكيم والنظام العام / المعيار التقليدي ـ معيار النظام العام الداخلي

  • الاسم

    د. إياد محمد بردان
  • تاريخ النشر

    2004-01-01
  • اسم دار النشر

    منشورات الحلبي الحقوقية
  • عدد الصفحات

    793
  • رقم الصفحة

    154

التفاصيل طباعة نسخ

المعيار التقليدي ـ معيار النظام العام الداخلي

  يقصد بالنظام العام برأي مجمل الفقه مجموع القواعد القانونية التي تستهدف تحقيق مصلحة عامة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد الذين يجب عليهم جميعاً مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم حتى ولو حققت هذه الاتفاقات مصالح فردية، وذلك لأن المصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة» .

الفرع الأول : موقف التشريعات من معيار النظام العام

  كثيرة هي الدول التي اعتمدت النظام العام معياراً لتحديد نطاق القابلية للتحكيم. واستعراض بعض النصوص الخاصة بالقابلية للتحكيم في القانون اللبناني والمقارن من شأنه أن يسمح  بإعطاء صورة واضحة عن مدى اعتماد النظام العام معياراً لها .

  في القانون اللبناني، وحيث التحكيم جائز في المواد المدنية التجارية، فإن المادتين ٧٦٢ و ٧٦٥ أ . م . م . تشترطان لصحة البند أو العقد التحكيمي أن يكون النزاع قابلاً للصلح الأمر الذي يجعل المسألة مرتبطة بالقابلية للصلح، ما يقتضي الرجوع إلى النصوص القانونية الراعية لعقد الصلح أو المصالحة . فالمادة ١٠٣٧ م . ع . تنص على أنه لا تجوز المصالحة على الأمور المختصة بالأحوال الشخصية أو بالنظام العام ولا على الحقوق الشخصية التي لا تعد مالا بين الناس، وإنما تجوز على مصلحة مالية ناشئة عن أمر يتعلق بالأحوال الشخصية أو عن إحدى كما الجرائم" . 

 

فالتحكيم الجائز أصلا في المنازعات المدنية والتجارية لا يكون بالإمكان - اللجوء إليه، عندما يتعلق النزاع بالنظام العام أو بالنفقة أو بالحقوق الشخصية التي لا تعد مالاً بين الناس. ما يعني أن المنازعات التي لا يجوز فيها التحكيم تنحصر بالمنازعات التي تتعلق بالنظام العام . 

   وفي التشريع السوري، تنص المادة ٥٠٧ أ. م. م. سوري على أن التحكيم صح ... في نزاع يتعلق بالأحوال الشخصية أو بالجنسية أو بالمسائل التي لا يجوز فيها الصلح».

  والحال ذاته في مصر، فالمادة ١١ من قانون التحكيم المصري الجديد الصادر سنة ١٩٩٤ لا تجيز التحكيم فيما لا يجوز الصلح فيه، وبموجب المادة ٥٥١ مدني مصري، لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام.

   وهذا مع الإشارة إلى أن القوانين التي لحظت عدم جواز التحكيم في المسائل التي لا تقبل الصلح تكون قد تبنت هذا الأمر معياراً للقابلية للتحكيم، هذا الصلح تتعلق صحته بعدم مخالفته للنظام العام. وقد يكون من المفضل الحديث من معيار النظام العام بدل معيار القابلية للصلح اقتصادا للآليات القانونية التي ستتبع ، إذ سينتهي الأمر في نهاية المطاف إلى العودة إلى النظام العام الذي يمثل شرط صحة عقد الصلح .

  وذلك خلافاً لتوجهات الفقه المصري الحديث الذي تساءل عن الحدود التي يكون فيها التحكيم مخالفاً للنظام العام،  منطلقاً ذلك في من نصوص قانون التحكيم المصري الجديد ومن التطور الحاصل في مسألة علاقة القابلية للتحكيم بالنظام العام في الفقه والاجتهاد في الحديثين .

  وفي فرنسا ثار الجدل وتفاقم مع تطور النظرة للتحكيم واتساع حركة اللجوء إليه بخصوص تفسير المادة ٢٠٦٠ من القانون المدني التي تنص على أنه «لا يجوز التحكيم في المسائل المتعلقة بحالة أو أهلية الأشخاص أو المتعلقة بالطلاق أو . الانفصال الجسماني أو في المنازعات المتعلقة بالإدارات أو المؤسسات العامة وبوجه عام جميع المنازعات التي تهم النظام العام .

  يؤدي الالتزام الحرفي بنص المادة ٢٠٦٠ إلى استبعاد النزاع تلقائيا من نطاق التحكيم، بمجرد ارتباطه بمادة تهم النظام العام. 

الفرع الثاني : التشكيك في ارتباط القابلية للتحكيم بالنظام العام

  لا تثير ضرورة احترام النظام العام في مادة التحكيم أي شك، فبعض المواد المرتبطة بعلاقة وثيقة مع النظام العام والتي لا يمكن حصرها وتحديدها لا يكون بالإمكان إخضاع النزاعات بشأنها للتحكيم . 

  يسلم الاجتهاد الفرنسي حالياً بضرورة وجود خرق للنظام العام حتى يكون بالإمكان استبعاد التحكيم، ولم يكن الوضع كذلك في السابق، في مرحلة أولى قضت المحاكم الفرنسية باستبعاد التحكيم بمجرد أن النزاع يتناول مسائل تتعلق بالنظام العام، فبقرارها الصادر سنة ١٩٥٤ قضت م .إ. باريس بخصوص عقد بيع بضائع مسعرة أن الأحكام القانونية أو التنظيمية المتعلقة بتسعير البضائع تهم النظام العام، وأن أي نزاع يتعلق بتفسير أو تطبيق هذه الأحكام لا يمكن تسويته بطريق التحكيم تحت طائلة خرق المادة  ١٠٠٤ أ .م . م . 

  هذه الوجهة الاجتهادية تنبثق عن الحذر الشديد إزاء التحكيم وتتجاهل وضعية المحكم المتمثلة بقيامه بعمله تحت رقابة قضاء الدولة. 

«... Conduit à l'atrophie sinon à l'axphixie de l'arbitrage».

  إن اعتماد هذه الوجهة لا يتلاءم مع تدخل الدولة في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي عن طريق إصدارها لتشريعات ذات طابع نظام عام، ما يجعل من فكرة استبعاد التحكيم بسبب تعلق النزاع بقاعدة نظام عام فكرة يؤدي إعمالها إلى نتائج خطيرة على صعيد التعامل بين الناس، فالأخذ بهذه الفكرة يؤدي إلى عدم قابلية المنازعات التي تنشأ معاملات الناس للتحكيم في أغلب الحالات. وهم عن يفضلون اللجوء إليه، لما يتميز به من سرعة في البت بالنزاع. 

  وما تجدر الإشارة إليه هو أن محكمة التمييز ، كانت قد قضت قبل توجیه هذه الانتقادات في قرارها الصادر سنة ١٩٥٠ في قضية Tissot ، بأن العقد التحكيمي يكون مشوباً بالبطلان شرط أن يكون قد جرى خرق النظام العام في العقد الأساسي».

  هذا الموقف أكدته محكمتا إ. باريس وأورليان بصورة أكثر وضوحاً سنتي ١٩٥٦ و ١٩٦٦ . فالأولى قضت بأن القاعدة الناتجة عن المادتين ١٠٠٤ و ٨٣ أ.م.م. فرنسي السابق (حالياً المادة (٢٠٦٠) لا تعني ولم تعن أبداً أن كلنزاع يتعلق باتفاقية أو بعملية خاضعة في بعض النواحي لتنظيم ذي طابع نظام عام سيكون مستبعداً بفعل هذه الواقعة من التحكيم والثانية قضت بأنه إذا كان ممنوعا بموجب المادتين ٨٣ و ١٠٠٤ أ . م . م . (السابق)، اللجوء إلى التحكيم في كل مسألة تهم النظام العام، فإن العقد التحكيمي لا يكون باطلاً بمجرد أن يكون النزاع متعلقاً باتفاقية خاضعة في بعض النواحي لتنظيم آمر.

  في الواقع، إن ملاحظة بسيطة لتواريخ إصدار القرارات المذكورة سابقاً تبين أن الاجتهاد الفرنسي تبنى قرارات متعارضة، إن جاز التعبير، في نفس الحقبة الزمنية، فقرارا محكمتي إ. باريس وأورليان الصادران سنتي١٩٥٤ و ١٩٦١ استبعدا .التحكيم بمجرد تعلق النزاع بالنظام العام، في حين أن قرار محكمة التمييز الصادر سنة ١٩٥٠ وقراري محكمتي إ. باريس وأورليان الصادرين سنتي ١٩٥٦ و ١٩٦٦ ربطت استبعاد التحكيم بوجود خرق للنظام العام . 

القرارات الحديثة في التحكيم الداخلي ذهبت في نفس الاتجاه .

  ومن هذا المنطلق لم يعد يكفي للقول بعدم القابلية للتحكيم مجرد قيام علاقة بين موضوع التحكيم وبين النظام العام؛ إنما يقتضي لاستبعاد التحكيم أن تستهدف اتفاقية التحكيم خرق النظام العام .

  إن معظم القوانين وكذلك الفقه والاجتهاد في حالة توافق على وجـوب استبعاد التحكيم في بعض المسائل التي ترتبط بالنظام العام بعلاقة وثيقة، بحيث تحتم المصلحة العامة وجوب النظر في الخلافات الناشئة حولها من قبل المحاكم التابعة للدولة، كالمنازعات الجنائية .. إلخ . ففي هذه الحالات يكون مجرد تنظيم العلاقة بقواعد آمرة يعني بذاته إقصاء هذا الموضوع عن نطاق القابلية للتحكيم .

  فهذا الاستثناء يبقي لمعيار مجرد العلاقة مع النظام العام فعاليته، ولا يرد على ذلك بالقول إن تنظيم العلاقة موضوع النزاع بقواعد آمره ليس من شأنه منع   الاتفاق على التحكيم بخصوص المنازعات الناشئة بشأنها، إذ يظل المحكم ملزماً بإعمال القواعد الآمرة على النزاع المطروح . 

  فمسائل التجريم والعقاب ومسائل الأحوال الشخصية تتعلق بطبيعتها بالنظام العام، بحيث لا تكون ثمة حاجة للبحث عما إذا كان هناك نص معين يتعلق بالنظام العام قد تمت مخالفته أم لا، فهذه المسائل من النظام العام لأنها تستهدف حماية مصالح المجتمع العليا .

المعايير الحديثة

الفرع الأول: معيار حرية التصرف بالحقوق

الفقرة الأولى : في التشريعات الأوربية والعربية

البند الاول: في القانون الفرنسي والقوانين الأوربية

المادة ٢٠٥٩ م. ف. التي تنص على أن «کل الأشخاص يمكنهم اللجوء إلى التحكيم فيما يتعلق بالحقوق التي يملكون حرية التصرف بها  . ولا يقتصر الأمر على القانون الفرنسي، ذلك أن القانون القضائي البلجيكي يتبنى في المادة ١٦٧٦ نفس المعيار.

    فالمادة ۱۰۳۰ أ . م . م . ألماني تنص على أن «كل نزاع ذو طبيعة مالية يمكن أن يكون موضوع اتفاقية تحكيم، اتفاقية التحكيم التي تتعلق بمنازعات ذات طبيعة غير مالية تنتج آثارها القانونية عندما يكون للأطراف الحرية بالمصالحة على موضوع النزاع .

البند الثاني: في القانون اللبناني والقوانين العربية

أولاً: في القانون اللبناني

   فالقانون اللبناني يتبنى، وعلى غراره قوانین معظم الدول العربية تقريبا، مبدأ التحكيم في المواضيع القابلة للصلح، فهل يعني ذلك أن القانون اللبناني ومن سار معه في هذه الوجهة من القوانين العربية قد تبنى معيار جواز المصالحة لتحديد نطاق القابلية للتحكيم؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل يعني ذلك أنه تبنى معيار حرية التصرف بالحقوق؟

   إن الرجوع إلى مضمون وروحية قانون الموجبات والعقود المتعلقة بعقد المصالحة، يسمح بتجاوز تعبير قابلية النزاع للصلح أو جواز المصالحة والقول بمعيار حرية التصرف بالحقوق. فالمادة ١٠٣٦ م.ع. تنص على أنه يجب على من يعقد الصلح أن يكون أهلاً للتفرغ مقابل عوض عن الأموال التي تشملها المصالحة. فأهلية التفرغ المشروطة في هذه المادة لإبرام عقد المصالحة، هي ذاتها أهلية التصرف المشروطة في نصوص القوانين المدنية العربية . 

  في الواقع، عندما نستند إلى المادة ١٠٣٦ م. ع. هنا، لا يكون ذلك على سبيل تحديد الأهلية للتحكيم، بقدر ما يكون على مستوى روحية ومضمون نصها، لجهة اشتراطه وتعويله على إمكانية التصرف بالحق، لدى من يود إبرام عقد المصالحة، فالتفسير المرن لنص المادة ١٠٣٦ يسمح بذلك، ويتوافق مع السياسات العامة المشجعة للتحكيم. ثم إن اتفاق التحكيم، باعتباره عملاً تصرفيا يشترط بحد ذاته أن يكون لدى من يود إبرامه حرية التصرف بالحقوق المتنازع عليها. مع العلم بأنه يبقى مشترطا أيضاً حرية التصرف بالحقوق لدى من يملك حق الإدارة على المال ولكن ضمن نطاق التصرف في مجال أعمال الإدارة وليس في نطاق التصرف بالمال فتكييف اتفاق التحكيم بأنه عمل تصرفي ينطوي بحد ذاته على شرط حرية التصرف بالحقوق .

  وفي الحكم الصادر سنة ۱۹۸۵ عن محكمة الدرجة الأولى في بيروت ورد «بما أنه، من المسلم به بحسب نص ۸۲۸ أ . م . م . [القديم] والمادة ١٠٣٧ م.ع. والمبادىء السائدة في التحكيم، أنه لا يجوز اللجوء إلى التحكيم في الحقوق غير القابلة للتصرف لتعلقها بالنظام العام، وأضافت بأن حق الممثل التجاري بالتعويض في الحالة المبحوثة، إذا كان يمكن التصرف به بعد نشوئه والمصالحة والتحكيم حول نتائجه المالية، غير أنه لا يجوز التنازل عنه مسبقاً، أو إخضاعه للتحكيم قبل نشوئه، لتعلق الحق موضوع التحكيم بالنظام العام، فبالرغم من عدم قول المحكمة بمعيار حرية التصرف بالحقوق كمعيار محدد للقابلية للتحكيم ،صراحة، فإن مضمونه في هذا الاتجاه، وخصوصاً أن الحكم رغم إشارته إلى المادة ٥ و ٤ من المرسوم الاشتراعي ٣٤/٦٧ ، اكتفى بنص المادة ٤ فقط عند تقريره نفي صلاحية المحكمة بقضائه أن البند التحكيمي المتذرع به لنفي صلاحية المحكمة، يكون بالتالي باطلاً لاتصاله بموضوع غير قابل للتحكيم عملاً بالمادة 4  من المرسوم .. 

ثانياً : في القوانين العربية

   تبنت بعض التشريعات العربية معيار حرية التصرف بالحقوق إلى جانب معيار جواز المصالحة فالمادة ۱۱ من قانون التحكيم المصري الجديد الصادر سنة١٩٩٤ نصت على أنه لا يجوز الإتفاق على التحكيم إلا للشخص الطبيعي أو المعنوي الذي يملك حرية التصرف في حقوقه ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح .

    بعض التشريعات العربية التي عمدت إلى اشتراط إمكانية المصالحة في موضوع النزاع، حتى يمكن التحكيم بشأنه، وأهلية التصرف في الشخص الذي يود إبرام اتفاق التحكيم. فبدلاً من اعتماد الزاوية التي ترتكز على أهلية الشخص للتصرف بالحق، نعتمد الزاوية التي ترتكز على الحق ذاته، فإذا كان قابلاً للتصرف يمكن التحكيم بشأنه، وإذا لم يكن كذلك تعذر التحكيم بشأنه، فالحق القابل للتصرف يكون لحائزه أو مالكه أهلية التصرف به ما لم تكن مقيدة بموجب وضع أو نص خاص . والحق غير القابل للتصرف لا يكون لمالكه أهلية التصرف به. 

الفقرة الثانية : علاقة معيار حرية التصرف بالحقوق بالنظام العام 

تعددت الآراء في الفقه الفرنسي بخصوص هذه المسألة.

  وباختصار كلي فإن أصحاب هذه الوجهة يعتبرون أن حقاً ما يكون قابلاً للتصرف به بمقتضى المادة ۲۰٥٩ ، إذا لم يكن داخلاً ضمن المواد التي تهم النظام العام في ضوء أحكام المادة ٢٠٦٠ ، وهم بذلك يكرسون تبعية المادة ٢٠٥٩ للمادة ٢٠٦٠ ويجعلون الأولى غير مفيدة في عملية تحديد القابلية للتحكيم، وذلك عكس مما هو سائد حالياً، حيث الاتجاه يميل نحو الاستغناء عن المادة ٢٠٦٠ والاكتفاء فقط بالمادة ۲۰٥٩ لتحديد نطاق القابلية للتحكيم . 

 فالفقه الفرنسي، الحديث على وجه التخصيص، يرى بأن المادة ٢٠٥٩ التي تنطوي على معبار حرية التصرف بالحقوق تكفي لوحدها في تحديد نطاق القابلية للتحكيم.

  في الواقع، أنه إذا كان بالإمكان الاستغناء عن المادة ٢٠٦٠ التي تشير إلى المواد التي تهم النظام العام فإنه لا يمكن الاستغناء عن فكرة النظام العام في إطار القابلية للتحكيم، ذلك أن هذه الفكرة تدخل في صميم معيار حرية التصرف بالحقوق، فإذا كان الفقه والاجتهاد قد عمدا إلى القول بتطبيق نص المادة ٢٠٥٩ وإهمال المادة ٢٠٦٠ إن لم نقل العمل بعكس ما تقتضيه، فإنهما لم يعمدا إلى إلغاء فكرة النظام العام في إطار معيار حرية التصرف بالحقوق، فالحقوق تكون غير قابلة للتصرف حتما لأسباب تتعلق بالنظام العام سواء كان تقليديا يستهدف حماية المصالح العليا للمجتمع أو الدولة، أو حمـائيـاً خاصاًيحمي بعض فئات المتعاقدين، الأمر الذي يجعل القابلية للتحكيم قريبة جداً من مفاهيم النظام العام، وإن في إطار معيار حرية التصرف بالحقوق. فمفهوم حرية التصرف بالحقوق وعكسه مفهوم عدم القابلية للتصرف هما النقاط التي تربط القابلية للتحكيم بالنظام

العالم... 

   وعليه لا تكون فكرة النظام العام هي المنتقدة في المادة ٢٠٦٠ وإنما الإشارة إلى المواد التي تهم النظام العام .

الفرع الثاني:معيار الطابع المالي للنزاع

الفقرة الأولى : المقصود به ومدى اعتماده

  يعني هذا المعيار أن كل نزاع ذا طابع مالي يكون قابلا للتحكيم.

  يعد هذا المعيار إحدى ثمار تطور الفكر القانوني المتعلق بالتحكيم، وقد تم تبنيه في عدد من الدول، التي عمدت إلى تطوير أنظمتها القانونية الخاصة بالتحكيم، بغية جعلها أكثر ليبرالية. 

  فالمشرع السويسري، لحظ في الفقرة الأولى من المادة ١٧٧ من القانون الدولي الخاص السويسري أن كل قضية ذات طابع مالي يمكن أن تكون موضوع تحكيم

فبموجب المادة ۱۷۷، يبت المشرع السويسري مسألة القابلية للتحكم بمقتضى قاعدة مادية واجبة التطبيق على كل تحكيم دولي خاضع للقانون السويسري وليس بموجب قواعد التنازع التي تحدد القانون الواجب التطبيق على قابلية النزاع للتحكيم.

  ويتجاوز المشرع الألماني ما ذهب إليه المشرع السويسري في هذا الخصوص . إذ يعتمد معيار الطابع المالي للنزاع في التحكيمين الداخلي والدولي.

  ومعيار حرية التصرف بالحقوق (التصالح) بصورة إحتياطية .

  وعلى صعيد التشريعات العربية يتبنى المشرع المصري برأي البعض معيار الطابع المالي لموضوع النزاع مستنداً في ذلك إلى المادة  من قانون٢ التحكيم الجديد .

   في الواقع، لا تنطوي هذه المادة على معيار الطابع المالي لموضوع النزاع وذلك للسببين التاليين :

1) فلو أراد المشرع المصري تبني معيار الطابع المالي للنزاع، لكان جاء بصياغة مختلفة لهذه المادة كأن ينص مثلاً على أنه يجوز التحكيم في المنازعات الناشئة عن علاقة قانونية ذات طابع اقتصادي . . . » أو أن يتبنى نصاً مماثلاً لنص المادة ۱۷۷ من القانون الدولي الخاص السويسري أو المادة١٠٣٠ من قانون أ . م . م . الألماني.

2) إنه لا داعي للبحث في مالية النزاع كمعيار للقابلية للتحكيم لأن المادة ١١ تكفي بحد ذاتها ودونما حاجة للإستناد إلى المادة ٢ لتحديد قابلية المنازعات للتحكيم بشكل واضح لا لبس فيه. فهي تنص على أنه لا يجوز الاتفاق على التحكيم إلا للشخص الطبيعي أو الاعتباري الذي يملك التصرف بحقوقه ولا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح .

  في القانون اللبناني لا تثار مثل هذه الاشكالية، وذلك لعدم وجود نص مشابه لنص المادة ٢ من قانون التحكيم المصري أو لنصوص القانونين السويسري والألماني، وإضافة إلى ذلك فإن أياً من الذين عالجوا موضوع التحكيم في القانون اللبناني لم يتبنَّ معيار الطابع المالي للنزاع، إلا فيما خص الحقوق المالية الناشئة عن العلاقات القانونية غير المالية، كالحق في التعويض عن الفعل الضار أو في العلاقات المالية الناشئة عن قضايا الأحوال الشخصية فهذه المسائل لا تخضع للتحكيم بسبب وجود نص صريح على ذلك. فالتحكيم لا يكون جائزاً بشأن تقرير ثبوت أو عدم ثبوت الحق بالنفقة ، وإنما يكون جائزاً بشأن كيفية أداء الأقساط المستحقة (المادة ۱۰۳۹ م . ع . ) . كما أن الحقوق التي لا تعد مالاً بين الناس لا يجوز التحكيم بشأنها، فالحق بالسلامة الجسدية والحقوق المتعلقة بالحريات العامة تكون غير قابلة للتحكيم. ولكن ليس هناك يمنع من اللجوء إلى التحكيم بخصوص النزاعات المالية الناشئة عن المساس بأحد هذه الحقوق كالاعتداء على الحياة الخاصة لأحد الأفراد وما يترتب على ذلك من تعويضات مدنية . 

الفقرة الثانية : علاقته بالنظام العام

   ينصهر معيار الطابع المالي على الأقل في التشريع اللبناني، بمعيار النظام العام. بمعنى أنه  في جميع القضايا ذات الصلة بمعيار النظام العام مطورا، أي تطلب خرقه لمنع التحكيم أم تقليدياً، أي استبعاد التحكيم لمجرد علاقة النزاع بالنظام العام، فإن التحكيم يكون مستبعدا حتى وإن كان للنزاع طابعه المالي. ولكن بمجرد أن يحصل الإنفصال بين النزاع والنظام العام يصبح الأول قابلا للتحكيم، فحتى في المسائل المستبعدة بطبيعتها من نطاق التحكيم لأسباب تتعلق بالنظام العام، فإن إجازة التحكيم بصدد المنازعات المالية الناشئة عنها لا تكمن بسبب الطابع المالي للنزاع بقدر ما تكون بسبب ضعف ووهن إن لم نقل انعدام الصلة بين النزاع ذي الطابع المالي هنا، وبين النظام العام.

   فالمشرع اللبناني، بعكس المشرعين السويسري والألماني، لا يأخذ بمعيار الطبيعة المالية للنزاع لتحديد نطاق القابلية للتحكيم، وإن أجاز التحكيم في المسائل المالية، فإنه لا يزال يقيد هذه الإجازة بحد النظام العام .

الفرع الثالث : معيار الاختصاص الحصري للسلطات العامة 

الفقرة الأولى : : مفهوم معيار الاختصاص الحصري

   يقصد بهذا المعيار استبعاد التحكيم في المسائل التي يقرر المشرع بأن اختصاص البت فيها يعود للسلطات التابعة للدولة، القضائية أو الإدارية، وفي معظم الأحيان يكون هذا الاختصاص للسلطات القضائية. فالمشرع ينص غالباً على أن يكون النظر في بعض القضايا من اختصاص المحاكم التابعة له، وهناك بعض التشريعات المتعلقة بالتحكيم، تتبنى معيار الاختصاص الحصري للسلطات الإدارية أو القضائية التابعة للدولة كمعيار ناظم لمسألة القابلية للتحكيم. فالمشرع السويسري الذي يعد من أكثر المشرعين ليبرالية في مادة التحكيم، يتبنى معيار الاختصاص الحصري للمحاكم السويسرية، فالمادة 6 من قانون التحكيم المعمول به في الكانتونات السويسرية تشترط بالإضافة إلى معيار حرية التصرف بالحقوق، معيار عدم الاختصاص الحصري للمحاكم السويسرية . فهل يعني ذلك أن تقريرالاختصاص للمحاكم يكفي بحد ذاته كمعيار محدد للقابلية للتحكيم؟ ومستبعدا بالتالي لإمكانية اللجوء إليه؟

توثيق الكاتب

   أما الاجتهاد، فإننا نراه حيناً متبنيا هذه الوجهة، وأحياناً أخرى متبينا وجهة معاكسة واستعراض بعض القرارات الصادرة في هذا الخصوص يعطي صورة واضحة عن ذلك.

 إذن، لا نمنع التحكيم تلقائياً، حينما يكون موضوع النزاع من اختصاص محاكم الدولة. ذلك أن المنع التلقائي للتحكيم بسبب الاختصاص الحصري لقضاء الدولة يؤدي إضافة إلى تطبيـق قـواعـد الاختصاص القضائي على التحكيم، علما أن هذا الأخير لا يدخل ضمن إطار التنظيم القضائي للدولة، إلى الحد من اللجوء إلى التحكيم بسبب تعدد أنواع القضاء ذات الاختصاص الحصري .

  وتضيف، استناداً إلى التمييز بين الاختصاص الحصري والاختصاص الآمر، بأن «الإسناد الحصري للاختصاص لا يكفي لاستبعاد التحكيم، يجب لذلك أن يكون هناك اختصاص آمر .

   ولكن بصرف النظر عن مسألة التمييز بين اختصاص آمر واختصاص حصري، هل يكون من الحكمة أن نستبعد بشكل مطلق معيار الاختصاص الحصري لمحاكم الدولة في إطار تحديد القابلية للتحكيم؟

   بید أنه إذا فصلنا بين القابلية للتحكيم وإسناد الاختصاص فإن «وجود قاعدة آمرة لمصلحة قضاء ما ستؤدي بصورة غير مباشرة إلى إقفال طريق اللجوء إلى التحكيم في المسائل التي تدخل في اختصاصه».

  وإذ ثار الجدل بخصوص تأثير الاختصاص الحصري على مسألة جواز التحكيم في منازعات العمل الفردية ومنازعات التمثيل التجاري؛ فإن الرأي مجمع على استبعاد التحكيم في بعض منازعات الإفلاس أو الإجراءات الجماعية في فرنسا، وكذلك في منازعات القانون العام الجزائي والمالي والإداري بفعل الاختصاص الحصري للمحاكم الوطنية الداخلية، ومنح الاختصاص في البت فيها للمحاكم التابعة للدول .

  وفي القانون الفرنسي هناك بعض السلطات الإدارية التي تتمتع باختصاص حصري بنظر بعض المنازعات. 

   في الواقع، لا تطرح مسألة الاختصاص الحصري للسلطات التابعة للدولة مسألة القابلية للتحكيم، بمعناها الدقيق، ذلك أنه في كل الحالات التي لا يكون فيها للمحكم صلاحية البت بنزاع معين، فإن أي قاض آخر، سواء كان خاصاً (المحكم) أم تابعاً للدولة يكون في نفس الوضع. بمعنى أنه يمتنع عليه النظر بالنزاع .

الفقرة الثانية : علاقة معيار الاختصاص الحصري بالنظام العام

  أشرنا سابقاً إلى أن المقصود بمعيار الاختصاص الحصري للسلطات العامة هو منح الاختصاص ببت بعض الأنواع من المنازعات لهذه السلطات، وأن ذلك يستتبع عدم إمكانية اللجوء إلى التحكيم إنطلاقاً من وجود الاختصاص الحصري والخاص بهذه السلطات .

 والعلاقة بين الاختصاص الحصري والنظام العام تطرح مسألة طبيعتها . بمعنى آخر، مدى الانفصال والاستقلالية بين مضمون معيار الاختصاص الحصري وبين فكرة النظام العام، أو مدى انصهار واندماج هذا المعيار بفكرة النظام العام، أو بشكل آخر مدى الترابط والتداخل بينهما .

   في الواقع، إن دراسة المسائل التي قرر المشرع وجوب خضوع المنازعات بشأنها لسلطات إدارية أو قضائية تبين أن فكرة النظام العام ليست غريبة عن معيار الاختصاص الحصري للسلطات التابعة للدولة، لا بل إن النظام العام بصورة أو بأخرى هو الذي كان وراء تقرير اختصاص الهيئات الإدارية أو القضائية للنظر بمنازعات بعض المسائل.

  وبخصوص المنازعات الإدارية فإن التحكيم يكون مستبعدا فيها على نطاق واسع .

  فالأسباب التي تفرض الاختصاص الحصري لقضاء الدولة للنظر بالمنازعات الإدارية تتعلق بالنظام العام وتحتم إخراجها من نطاق التحكيم. ذلك أن هذه المنازعات تتعلق برأي البعض بصميم نظام الدولة وكيانها القانوني والقضائي، بحيث يكون من الصعب تصور اختصاص المحكمين للنظر بمثل هذه المنازعات .

والمسائل الجزائية تكون مستبعدة بدورها من إطار التحكيم .

  قد لا تكون المنازعة متعلقة بالنظام العام بمعنى صميم نظام الدولة وكيانها القانوني والقضائي.. ومع ذلك تكون داخلة في نطاق الاختصاص الحصري لمحاكم معينة لأسباب تتعلق بحماية الطرف الضعيف في العقد، كمنازعات العمل الفردية ومنازعات التمثيل التجاري، حيث تكون الأولى من اختصاص مجلس العمل التحكيمي، والثانية من اختصاص المحكمة الابتدائية التي يمارس في نطاقها الممثل التجاري نشاطه .

   وبناءً على ما تقدم، لا نلاحظ بوناً أو انفصالاً كلياً أو جزئياً بين معيار الاختصاص الحصري للسلطات القضائية والإدارية التابعة للدولة في بعض المنازعات وبين فكرة النظام العام، لا بل على العكس من ذلك نلاحظ وجود تداخل وترابط بين هذا المعيار وفكرة النظام العام بصورتيه التقليدية والحديثة .