الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • اتفاق التحكيم / مفهوم النظام العام وعلاقته بعدم القابلية للتحكيم / الكتب / التحكيم في القوانين العربية / مفهوم النظام العام

  • الاسم

    د. أحمد ابو الوفاء
  • تاريخ النشر

  • اسم دار النشر

    منشأة المعارف بالأسكندرية
  • عدد الصفحات

    216
  • رقم الصفحة

    430

التفاصيل طباعة نسخ

مفهوم النظام العام

لا يوجد تعريف محدد ومتفق عليه لمصطلح النظام العام، بالرغم من استخدامه بكثرة في العديد من الاتفاقيات الدولية وفي أغلب، إن لم يكن كل التشريعات الوطنية. ولكن يمكن القول بشأن هذه الفكرة، أنها مرتبطة بالأسس الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الخلقية في كل دولة من الدول، مما يتعلق بالمصلحة العليا للمجتمع .

وبناء عليه، فإنه ليس كل قاعدة آمرة تعتبر من النظام العام، ما دام أنها لا تمس هذه الأسس أو إحداها. وترتيباً على ذلك، فإنه يجوز تطبيق القانون الأجنبي على الحالة المعروضة، حتى لو كان ذلك القانون يخالف قاعدة آمرة في القانون الوطني، ما دام أنها ليست من النظام العام بهذا المفهوم. كما قضي بأنه لا مخالفة للنظام العام إلا حيث يكون هناك انتهاك للمبادئ الأساسية الدنيا للأخلاق والعدالة ، أو انتهاك للحياة العامة والاقتصادية في الدولة.

وبوجه عام، فإن كل قاعدة قانونية متبعة في الدولة على أنها آمرة بما يمس أحد هذه الأسس، ولا يجوز بالتالي الاتفاق على خلافهـا هـي مـن النظام العام . ونستدل على هذه القاعدة من التشريع ذاته، الذي قد ينص صراحة على عدم جواز الاتفاق على خلافها، أو من طريقة صياغة النص التشريعي، كالقول مثلاً يجب أو لا يجوز أو غير ذلك من عبارات مماثلة. أو نستدل عليه من مجمل القواعد المنظمة لمسألة من المسائل وما استقر عليه الاجتهاد القضائي بشأنها. ومثال ذلك القول فإن وسائل الإثبات، عموماً، ليست من النظام العام، بحيث يجوز الاتفاق على خلافها ، بالرغم من عدم النص على ذلك صراحة في التشريعات المنظمة لهذه المسألة.

وبهذا المفهوم، فإن فكرة النظام العام ،نسبية، قد تختلف باختلاف الظروف والزمان والمجتمعات، وهي بذلك، قد تختلف من دولة لأخرى .فما قد يعتبر من النظام العام في مكان أو ظرف أو زمان أو مجتمع أو دولة معينة، قد لا يعتبر كذلك في ظرف أو زمان أو مجتمع أو دولة أخرى. بل داخل الدولة وحتى المدينة الواحدة، قد يختلف مفهوم النظام العام من مكان لآخر. ففي أغلب الدول العربية، إن لم يكن كلها عقد القمار باطل، وهي قاعدة من النظام العام. ولكن يمكن أن يكون العقد ذاته صحيحاً ومشروعاً في بعض الأمكنة المحددة داخل الدولة، مثل بعض فنادق الخمسة نجوم في بعض الدول .

وأبعد من ذلك، فإن تطبيق فكرة النظام العام، يجب أن يكون فقط بقدر ما يقتضيه مراعاتها في كل حالة على حدة. وفي هذا السياق، قضي بأن مقولة دخول الزوج الإيطالي في الإسلام بعد الزواج، يجعل القانون الواجب التطبيق على أحواله الشخصية كلها هي الشريعة الإسلامية لا القانون الأجنبي، حفاظاً على النظام العام، هي مقولة غير صحيحة، لأن مجال تطبيق قاعدة النظام العام، إنما يكون على قدر ما تقتضيه هذه القاعدة في كل حالة على حدة. وعليه، فإن إبطال نفقة المطلقة المسيحية على زوجها المسلم أو عدم إبطالها ، لا يمس النظام العام المصري في شيء. ومن ثم فإن إسلام الزوج، لا يترتب عليه في خصوص مسألة النفقة بالذات أن تكون الشريعة الإسلامية هي الواجبة التطبيق، دون قانون جنسية الزوج وقت الزواج .

وعلى ذلك، فإن حكم التحكيم الذي يتضمن ما يخالف النظام العام في الدولة المرفوعة أمام محاكمها دعوى بطلان الحكم أو تنفيذه، يكون عرضة للبطلان أو لعدم التنفيذ في تلك الدولة، حتى لو كان صحيحاً أو قابلاً للتنفيذ في دولة أخرى لعدم مخالفته للنظام العام فيها . ويمكن أن نضرب أكثر من مثال على ذلك. ففي غالبية الدول العربية، تعتبر الوصية من النظام العام ومن ذلك، فإنه لا يجوز للشخص أن يوصي بأكثر من ثلث تركته لآخر، ولو أوصى بأكثر من ذلك وتم الطعن بالوصية، فإنها ترد إلى الثلث بالرغم من أي اتفاق مخالف. فلو فرضنا أن شخصاً أوصى بنصف تركته، وثار نزاع بين الموصى لـه والورثة حول مقدار الوصية، واتفقا على إحالة النزاع إلى التحكيم، وجرى التحكيم في الإمارات). صدر حكم التحكيم لصالح الموصى له ضد الورثة بصحة الوصية في هذا المثال، يكون الحكم قابلاً للبطلان في الإمارات لمخالفته للنظام العام، في حين قد يكون الحكم صحيحاً وقابلاً للتنفيذ في دولة أجنبية، إذا كان قانونها يجيز الوصية بأي مقدار كان. 

ومثال آخر أن مدة التقادم في القانون القطري، هي من النظام العام التي لا يجوز الاتفاق مسبقاً على إطالتها أو تقصيرها ، وهي في عقد التأمين ثلاث سنوات بالنسبة للدعاوى الناشئة عن العقد تبدأ ، كقاعدة عامة ، من وقت حدوث الواقعة التي تولدت عنها هذه الدعوى . فلو فرضنا أنه حصل نزاع بين شركة التأمين والمؤمن له المستفيد من العقد ، وتمت إحالته للتحكيم. قضت هيئة التحكيم لصالح شركة التأمين بسقوط حق المؤمن له بالتقادم لمدة سنة استناداً لاتفاق الطرفين بالرغم من دفع المؤمن له بعدم مضي مدة التقادم وأنها من النظام العام. هذا الحكم، يكون عرضة للبطلان حسب القانون القطري، لمخالفته للنظام العام، في حين قد لا يكون كذلك في دولة أجنبية، لعدم مخالفته للنظام العام فيها، وبالتالي يمكن تنفيذه فيها. 

ومثال آخر عكس المثالين الأولين أن القانون البحريني يجيز الزواج الثاني للرجل. فلو فرضنا أن شخصاً تزوج من امرأة ثانية، وكان لا زال متزوجاً من الأولى، وحصل خلاف بين الزوجة الأولى وزوجها على مقدار نفقتها وإلزامه بها ، أو توفي ذلك الرجل وحصل خلاف بين الزوجتين على ميراث الزوجة الثانية. أحيل الخلاف إلى التحكيم، وقضت هيئة التحكيم بالنفقة أو الميراث حسب أحكام القانون البحريني . هذا الحكم لا يكون عرضة للبطلان ولا لعدم التنفيذ أمام المحاكم البحرينية، في حين قد يكون كذلك، إذا تم تقديمه لمحكمة أجنبية لتنفيذه في حال كان قانونها يحظر الزواج الثاني تحت طائلة البطلان .

وفي الأحوال التي يكون فيها الحكم مخالفاً للنظام العام، يتوجب على المحكمة أن تقضي ببطلان الحكم أو عدم تنفيذه من تلقاء نفسها، دون حاجة لطلب من أحد الخصوم، بل حتى لو تنازل الطرفان عن هذه المسألة كلياً. ويكون ذلك بشكل خاص، حيث تكون مخالفة النظام العام واضحة للمحكمة من اطلاعها على الحكم، كما هو الحال في الأمثلة المذكورة. أما إذا أثار أحد الطرفين الدفع بالنظام العام بصورة مجردة إجمالية، دون بيان وجه المخالفة، ولم تكن المخالفة ظاهرة أو واضحة للمحكمة ، فليس من مهمتها البحث والتدقيق في كل فقرة أو بند حكمي في الحكم، لمعرفة ما إذا كان الدفع صحيحاً أو غير صحيح، وإنما يصبح من واجب مقدم الدفع إثباته، وإلا لا يعتد به ، خاصة وأنه ليس كل مخالفة قانونية، حتى لو كانت مخالفة قاعدة آمرة تعتبر خرقاً للنظام العام وفق ما تقدم.

 

وهذا يقودنا إلى القول بأن هناك اتجاهاً سائداً بالتفرقة ما بين النظام العام الدولي والنظام العام الداخلي. ويهدف هذا الاتجاه، إلى التقليل ما أمكن من حالات بطلان أحكام التحكيم الدولية أو الأجنبية بحيث ما يجوز إبطاله أو عدم تنفيذه من أحكام تحكيم وطنية لمخالفته للنظام العام الداخلي، ليس بالضرورة أن يؤدي إلى النتيجة ذاتها في التحكيم الأجنبي أو الدولي، ما دام حكم التحكيم في الحالة الأخيرة لا يخالف النظام العام الدولي. وبمعنى أصح فإنه لا يجوز للقاضي الوطني في دولة من الدول أن يقضي ببطلان حكم التحكيم الدولي أو الأجنبي، أو بعدم تنفيذه لمجرد مخالفته للنظام العام في دولته ، بل يجب أيضاً أن يكون مخالفاً للنظام العام الدولي .

ومن الأمثلة التقليدية على مخالفة النظام العام الدولي، العقود المتعلقة بالفساد والاحتيال والرشوة والتمييز العنصري وغسيل الأموال والاتجار بالمخدرات والرقيق والأطفال والاتجار الدولي غير المشروع بالأسلحة وخاصة أسلحة الدمار الشامل، وانتهاك حقوق الإنسان، فكل ذلك، غير مقبول عالمياً أو دولياً، وهو بالتالي مخالف للنظام العام الدولي ويترتب على هذا الرأي أن المحكمة المرفوع أمامها النزاع يتوجب عليها أن تقضي بصحة حكم التحكيم ونفاذه على أراضيها، ما دام أنه ليس مخالفاً للنظام العام الدولي، حتى لو كان مخالفاً للنظام العام الداخلي في دولة تلك المحكمة .

وعلى العكس من ذلك، يمكن لتلك المحكمة ، في ظروف معينة، أن تقضي ببطلان الحكم أو عدم تنفيذه حتى لو لم يكن مخالفاً للنظام العام الداخلي، ما دام أنه مخالف للنظام العام الدولي، كما هو الحال في الأمثلة المذكورة. 

وسنداً لهذا الاتجاه الذي أصبح مقبولاً لدرجة كبيرة، يمكن القول أنه ليس من المنطق في شيء تطبيق القواعد الوطنية الخاصة بالنظام العام بحرفيتها على التحكيمات الدولية والأجنبية. فمفهوم الفكرة ونطاق تطبيقها، كما تقدم، يختلف باختلاف النظم القانونية، أو حتى باختلاف الدول المنتمية لنظام قانوني واحد ومثال ذلك، أن قطر والسعودية دولتان إسلاميتان وتطبقان الشريعة الإسلامية، مع اختلاف درجة ذلك. ولكن الفوائد جائزة في القانون القطري، في حين ليست كذلك عموماً في السعودية، ولكل وجهة نظره في هذه الشأن. لذلك، من غير المقبول أن السعودية تبطل أو لا تنفذ حكم تحكيم جرى في قطر، بين بنكين قطريين مركز أعمالهما ،قطر، وتمت المصادقة عليه في قطر، لمجرد كونه يتضمن إعطاء فائدة لإحدى البنكين على المبلغ الواجب دفعه له من البنك الآخر. فإذا كان ذلك مخالفاً للنظام العام في السعودية، فإنه ليس كذلك في قطر، ولا في غالبية الدول العربية .

ومن هذا المنطلق من غير المعقول ولا المنطقي أن يطلب من أطراف التحكيم ومن المحكمين الإلمام بمختلف القوانين الوطنية، لمعرفة ما هو مخالف للنظام العام وما هو ليس كذلك في كل منها، والسير في التحكيم بما يتلاءم مع هذه القوانين فهذا أمر يكاد يكون ضرباً من المستحيل، بل هو كذلك فعلاً. ويكفي أن لا يكون الحكم مخالفاً للنظام العام الدولي ،وكذلك على أبعد تقدير النظام العام في القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع، وربما أيضاً القانون المطبق على الإجراءات، حتى لو كان الحكم مخالفاً للنظام العام في دولة التنفيذ.

،بل يذهب هذا الاتجاه، إلى حد إعطاء هيئة التحكيم صلاحية عدم تطبيق أي حكم في القانون المطبق على موضوع النزاع وعلى إجراءات التحكيم، إذا كان ذلك الحكم مخالفاً للنظام العام الدولي. 

وبالرغم من هذا التوجه إلا أن المشكلة الأساسية التي واجهت ولا زالت تواجه فكرة التمييز بين النظام العام الداخلي والنظام العام الدولي، تكمن في بيان مفهوم النظام العام الدولي، وبيان ما يعتبر أو لا يعتبر كذلك ،أو ، بمعنى أصح تعريف النظام العام الدولي، بما يؤدي إلى تمييزه عن النظام العام الداخلي، وهذا أيضاً ضرب من المستحيل. لذلك، تمت محاولة تحديد مفهوم النظام العام الدولي بعبارات عامة ومطاطة، وتم عملياً ترك مجال تفسير مصطلح النظام العام الدولي للمحكمة المرفوع أمامها النزاع لتقضي به في كل قضية على حدة، حسب معطيات وظروف القضية.