تتفق قوانين الدول العربية موضوع البحث على حظر التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح ، وهي مسألة من النظام العام يترتب على عدم مراعاتها في اتفاق التحكيم بطلان هذا الاتفاق والاتفاق على التحكيم في مسألة لا يجوز فيها الصلح، باطل ابتداء. وحسب القواعد العامة، إذا تضمن الاتفاق مسائل لا يجوز فيها الصلح وأخرى يجوز فيها الصلح، كان الاتفاق باطلاً في الشق الأول، وصحيحاً في الثاني إذا كان بالإمكان تجزئة الاتفاق، وإلا يكون الاتفاق كله باطلا .
والسبب في هذا الحكم على ما يبدو، يرجع إلى أن هذه القوانين، أجازت لطرفي النزاع تفويض هيئة التحكيم بالصلح بينهما. وفي هذه الحالة، تفصل الهيئة في موضوع النزاع على مقتضى قواعد العدالة والإنصاف، دون التقيد بأحكام القانون كما ذكرنا سابقاً. وعلى ذلك، لو لم يمنع القانون التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، لكان هناك احتمال للقول بأنه يجوز التحكيم حتى في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، مادام أن المشرع أجاز التحكيم بالصلح عموماً. ويترتب على مثل هذا الاستنتاج، القول بأنه يجوز للطرفين إجراء صلح في مسألة لا تخضع للصلح أصلاً، ولكن بطريق غير مباشر، وذلك بتفويض شخص ثالث بمثل هذا الصلح، أي عن طريق التحكيم. وهو أمر غير منطقي بداهة. لذلك، جاء المشرّع وحظر التحكيم في كل مسألة لا يجوز الصلح فيها. وعمومية النصوص، تشمل كلا النوعين من التحكيم: التحكيم بالقانون، والتحكيم بالصلح .
وحسب القواعد العامة في قوانين الدول العربية، فإن الصلح عقد يحسم به عاقداه نزاعاً قائماً بينهما ، أو يتوقيان به نزاعاً محتملاً، وذلك بأن يتنازل كل منهما على وجه التقابل ، عن جزء من ادعائه. فالصلح إذن اتفاق الطرفين على إنهاء نزاعهما وخصومتهما بالتراضي. ويفترض الصلح وجود حقوق مالية متقابلة ، ينشأ بشأنها أو بشأن بعض منهـا نـزاع معين، فيتفقان على تسوية هذا النزاع صلحاً، دون حاجة لحكم قضائي أو تحكيمي، بحيث يكون هناك تنازل كلي أو جزئي من أحدهما عن حقوقه، مقابل ما يأخذه من الطرف الآخر من تنازل كلي أو جزئي عن حقوقه، سواء في العقد ذاته أو في غيره من العقود.
ومثال ذلك أن يدعي البنك (أ) بأن له في مواجهة (ب) ديناً مستحقاً الفوائد بواقع (10) سنوياً، وينازعه (ب) في ذلك، بأن يدعي مثلاً بعدم استحقاق الدين، أو عدم ترتيب فوائد عليه في حال استحقاقه. فيتفقان على تسوية هذا النزاع صلحاً ، بأن يدفع (ب) لـ (أ) أصل الدين مع فائدة لـ (%5)، على أن يتم دفع الدين وفوائده دفعة واحدة. في هذا المثال، نجد أن (أ) تنازل عن جزء من ادعائه، أي المطالبة بفائدة (10%)، كما تنازل (ب) عن جزء من ادعاءاته، أي الادعاء بعدم استحقاق الدين، وعدم استحقاق فوائد على الدين.
ويلاحظ على القوانين العربية عموماً ، أنها لم تحدد المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، والتي لا يجوز بالتالي أن تكون موضوع اتفاق تحكيم،
وتركت ذلك للقواعد العامة. وبالرجوع لهذه القواعد، يمكن القول بأنه لا يجوز الصلح في ثلاثة أنواع من :الحقوق الأولى الحقوق غير المالية. الثانية: الحقوق المالية التي لا تقبل المساومة، وبالتالي لا تقبل التنازل ولو عن جزء منها الثالثة الحقوق المتعلقة بالنظام العام. وسنبحث مسألة النظام العام في موطن آخر من هذه الدراسة، ونشير هنا للنوعين الأولين من الحقوق.