وحقوق خالصة للعبد ، وهي الحقوق التي شرعت لمصلحة دنيوية خاصة بالفرد دون المجمـوع ، وهي أكثر من أن تحصى ، كالديون والأثمان ، وحق الشفعة ، وحقوق الارتفاق ، وحق كل من الزوجين قبل الآخر ، وما شابهها مما تبرع لمصلحة دنيوية خاصة .
وما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب كحد القذف ، أو ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد غالب كالقصاص.
الشروط المتعلقة بموضوع التحكيم :
اشترط الفقهاء في الحق موضوع التحكيم شرطا واحدا ، وهو أن يكون الحق موضوع التحكيم مما يصح أن يكون موضوعا للتحكيم والتساؤل الذي يثور مباشرة ، ما هي الحقوق التي يجوز فيها التحكيم وتصح أن تكون موضوعاً له ؟
رأى الحنفية :
أجاز الحنفية التحكيم فيما يملك الأفراد فعله بأنفسها من حقوق العباد كالدعاوى المتعلقة بالأموال كالأعيان والديون ، والبيوع والاجارة والرهن ، ونحـوها ، وقال متأخروا الحنفيـة ان تخصيص الخصاف والقدورى الحدود والقصاص فيه دلالة على جواز التحكيم في سائر المجتهدات أي الحقوق التي يسوغ فيها الاجتهاد من حقوق العباد كالطلاق والنكاح
أما حقوق الله تعالى فلا يجوز فيها التحكيم الحدود التي توجب حقا لله تعالى كحد السرقة وحد الشرب وحد الزنا ، فإن المتعين لاستيفاء هـده الحقوق هو الامام أو نائبه لأن القاعدة أن ما كان نفعه أو ضرره عامة فان استيفاءه يكون للامام ، أي من له ولاية عامة ، فلا يجوز للحكم أن يقضى في شيء من ذلك ، لأن التحكيم تفويض ، ولا يصح التفويض الا فيما يملك المفوض فعله بنفسه كالتوكيل ، فمن لا يملك اقامة الحد على نفسه لا يملك تفويض اقامته لغيره .
والصحيح عند الحنفية أنه لا يجـوز التحكيم في حد القذف والقصاص، جاء في البحر : « أن ما جاء في المحيط من جواز التحكيم في لأنه من حقوق العباد ضعيف رواية ودراية ، لأن القصاص لم يتمحض حق العبد فيه بل هو من قبيل ما اجتمع فيه الحقاق ، وإن كان الغالب حق العبد » ، وما اختاره السرخسي من جواز التحكيم حـد القذف ضعيف بالأولى ، لأن الغالب فيـه حـق الله تعـالى على الأصح .
ولا ينفذ حكم المحكم بالدية على العاقلة ، لأن حكم المحكم لا ينفذ الا في مواجهة من رضي به . ولا رضا من العاقلة لعدم التحكيم منها ، واذا قضى بالدية على القاتل لا حكمه لمخالفته نص الشارع - لأن الدية انما تجب على العاقلة لا القاتل ، لقوله ﷺ ، فی حدیث حمل بن مالك : « قوموا افدوه » . الا اذا ثبت أن القتل خطأ باقرار القاتل ، اذ لا ولاية له على العاقلة فاقتصر على نفسه فيجب في ماله ،
رأى المـالكيـة :
يرى المالكية أنه يجوز التحكيم الأموال كالأعيان والديون ، فللحكم أن يحكم بثبوت ما سبق ذكره أو عدم ثبوته ، ولزومه أو عدم لزومه ، وجوازه أو عدم جوازه ، وكذا يجوز فيما يجرى مجرى المـال كالبيع والاجارة والرهن والاقرار والعصب وقتل الخطأ ، ونحو ذلك ، ولا خلاف بين المالكية في جواز التحكيم في هذه الأمور ابتداء ، واذا قضى المحكم فيها صح حكمه ونفذ .
وأضاف بعض المالكية على هذه الأمور العشرة : الطلاق واللعان والعتق ، وقالوا بعدم جواز التحكيم فيها ابتداءا ، لتعلق حق الله بها - وهـذا لا يستوفيه الا الامام أو نائبه ، أو لتعلق حق غير المحتكمين بها ، ولا ولاية للحكم عليهم ، ففي الطلاق يتعلق به حق الله ، اذ لا يجوز تبقى وكذا العتق لا يرد المعنق الى الرق وان رضى . واللعان بين الزوجين يتعلق به حق الولد في نفي وهو غير المحتكمين ولا ولاية للحكم عليه ، ولكن الخرشي ضعف الرأي بعدم جواز التحكيم في هذه الأمور الثلاثة الأخيرة ابتداء وقال هذه الأمور يحكم فيها القضاة وغيرهم.
رأي الشافعية :
اختلف الشافعية فيما يجوز فيه التحكيم على أقوال : الأول : ويرى أن التحكيم يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان ، كما يجوز حكم الحاكم الذي ولاه الامام ، وفي هـذا يقول الشربيني الخطيب : والصحيح عدم مال الاختصاص ، لأن من صح في غيره كالمولى من جهة الإمام والثاني : يرى أن التحكيم لا يجوز في حدود الله تعـالى وحقوقه المالية كالزكاة اذا كان المستحقون لها غير محصورین ، لأنه لا طالب لها معين وعليه المذهب ، يقول النووى : المذهب على أنه لا يجوز التحكيم في حدود الله تعالى لأنه ليس طالب معين ،فيجوز التحكيم في الأموال والنكاح والطلاق واللعان والفسخ بالعيوب والاعسار ، والقصاص وحد القذف وغيرها دون حدود الله تعالى » .
رأى الحنابلة :
المعتمد عند الحنابلة ، أنه يجوز التحكيم في الأموال والحدود والقصاص والنكاح والمعان وغيرها ، وهو الظاهر من كلام أحمد على ما نقله أبو الحطـاب ، فيجوز ، أن يقضى الحكم في كل ما يرفـع اليـه كالقاضي المولى.
ونقل عن القاضي أبي يعلى الفراء ، أن حكم المحكم ينفذ في كل شيء الا في أربعة أشياء ، النكاح واللعان والقذف والقصاص ، فان هـذه الأمور يختص بها القضـاة دون غيرهم من الحكام ، لمـا لها من مزية خاصة على غيرها لعظمها وخطر تفويض النظر فيها الى غير ذی صاحب ولاية عامة.
خلاصة آراء الفقهاء :
انه لا خلاف بين الفقهاء على أنه يجـوز التحكيم في الأموال وما يجرى مجراه! وما عدا ذلك ، كحدود الله وحقوقه المالية - فان الجمهور على أنه لا يجوز فيها التحكيم لأنه لا طالب لها معين . أو لأن الشارع استلزم فيمن يباشر النظر فيها أن يكون صاحب ولاية عامة لخطرها ، ولما يعود على المجتمع بالضرر العام اذا أبيح لغير الحاكم النظر فيها .
ما نراه لتحديد النطاق الموضوعي للتحكيم
الأول : اذا كان التحكيم قد صدر من أشخاص عاديين ، ولم تكن لهم الصفة العامة ، أي اذا كان التحكيم قد صدر من شخص ليست له ولاية عامة ففي هـذه الحالة يفرق بين الأمور التي تستلزم فيمن يباشرها أن يكون صاحب ولاية عامة سواء بأمر السلطان أو نظر لطبيعتها . أي لكونها تتعلق بالصالح العام ، اذ أن القاعدة م ما كان نفعه أو ضرره عاماً فان أمر النظر فيه يكون للامام أو الى من يفوضه الامام اليه ، وهده تعرف في اصطلاح القانون الوضعي الأمور المتعلقة بالنظام العام ، والتي ينظمها القانون بقواعد آمرة ، وهـذه الأمور لا اتفاق الخصوم على التحكيم بشأنها كالتحكيم في الحدود التي تجب حقاً لله تعالى كحد السرقة والسكر والقتل أو الحجر على السفيه أو المفلس أو التصرف في مال اليتم وغيرها من الأمور التي تستلزم فيمن يباشرها أن تكون له ولاية عامة.
الثاني : اذا صدر التحكيم ممن له ولاية عامة ، وباعتبار تلك الصفة كالامام أو نائبه اذا كان مأذوناً له ، كالأمير أو الوزير أو صاحب ولاية الحرب أو الحسبة أو ولاية المظالم وغيرها من الولايات العامة ، فانه يصح وينفذ على الكافة ، بمعنى أن التحكيم في الأمور المتعلقة بالنظام العام يجب أن يصـدر ممن له ولاية عامة كالامام أو نائبه والدليل على جواز التحكيم في تلك الأمور على شرطه :
1- ما وقع من رسول الله ﷺ من تحكيمات ، التحكيم بينه وبين وفد أهل نجران ، اذ كان التحكيم بين أهل نجران كأمة والمؤمنين كأمة في بني قريظة ، فقد وقع بين المسلمين كأمة واليهود كأمة ، ويقول العيني تعليقاً على تحکیم سعد في بني قريظة: « ويلزم حكم المحكم برضى الخصمين سـواء كان في أمور الحرب أو غيرها »
۲ ـ ما وقع من صحابة رسول الله ﷺ من تحكيمات ، فلقد حكم عمر رضي الله عنه عشرة من الأنصار في قسمة سواد العراق عندما اشتد الخلاف بينه وبين الصحابة الذين كانوا يرون قسمتها على المحاربين كالغنائم . وتحكيم أهل الشورى عبد الرحمن بن عوف في الخلافة بعد موت عمر رضی الله عنه ، وهي أعلى مراتب الولاية وأعظمها والتحكيم الذي وقع بين على ومعاوية يوم صفين، كل هذه أمور تدل على أن التحكيم يجوز في مهام الدولة الاسلامية وأمورها العظام .
وبهذا نرى ان التحكيم أوسع نطاقا مما تناوله الفقهاء فی کتب الفقه ، ومرجع ذلك أن الفقهاء تناولوا التحكيم باعتباره ولاية مستمدة آحاد الناس ، وليس مستمدا ممن له ولاية عامة كما سبق أن أوضحنا ،و في هذا يقول ابن فرحون : « وأما ولاية التحكيم بين الخصمين فهي ولاية مستفادة من آحاد الناس ، ومثل ذلك في معين من الحكام .