اتفاق التحكيم / صلاحية الحق المتنازع عليه كمحل للتحكيم / الكتب / التحكيم وبطلانه بين التشريع الإسلامي والتشريعات الوضعية / جواز وامتناع التحكيم لدى المذاهب
لا يجوز التحكيم في الحدود و القصاص، والدية على العاقلة وقال بعض الحنفية إن هذا في الحدود الخالصة حقا لله تعالى، لأن الإمام هو المتعين لاستيفائها، وليس للمحكمين ولاية على سائر الناس ولذلك جاز التحكيم في القصاص في إحدى الروايتين عند الحنفية، وجاز في حد القذفلاتهما من حقوق العباد .
والإمام أبو حنيفة على عدم الجواز في القصاص ، ولكن قال الجصاص : ينبغي أن يجوز وعلل ذلك، بأن ولي القصاص لواستوفى القصاص من غير ان يرفع إلى السلطان جاز ، فكذا إذا حكم فيه : لأنه من حقوق بني آدم ، والصحيح عندهم عدم جواز التحكيم في الحدود والقصاص؛ لأن حكم الحكم بمنزلة الصلح ، ولا يجوز استيفاء القصاص وحد القذف بالصلح الأنه لا ولاية لهما على دمهما : ولأنهما يندرئان بالشبهات ، وفي حكم المحكم شبهة ، لأنه حكم في حقهما لا في حق غيرهما وهذه شبهة عظيمة .
وأما عدم جوازه في الدية على العاقلة : لأنه لا ولاية لهما على العاقلة ، فلو حكماء في دم الخطأ فقضى بالدية على العاقلة ، أو على القاتل في ماله لا ينفذ حكم من حكماء على العاقلة ، ولا على القاتل أما الأول : فلعدم التزام العاقلة حكمه وعدم رضا العاقلة به ، وحكم المحكم إنما ينفذ على من رضي بحكمه، ولكن لو أن العاقلة حكموه نفذ حكمه لولايته عليهم حينئذ .
وأما الثاني : فلكونه مخالفا لحكم الشرع ؛ لأن الدية تجب على العاقلة لا على القاتل ، لكن لو أن القتل ثبت بإقرار القاتل ، أو ثبت جراحته ببينة وأرشها أقل مما تتحمله العاقلة خطأ كانتا لجراحة خطأ أو عمدا ، أو كان قدر ما تتحمله العاقلة ، ولكن الجراحة كانت عمدا لاتوجب القصاص نفذ حكمه عليه ؛ لأن العاقلة لا تعقله .
جواز وامتناع التحكيم لدى المالكية :
حدد المالكية ما لا يجوز التحكيم فيه في الحدود مثل حد القذف والزنا والسرقة والسكر والجلد والرجم، والقصاص في النفس ، كما نصوا على عدم جواز التحكيم في قتل في ردة أو حرابة ؛ لأنه حق لله لتعدي حرماته، وكذا تارك الصلاة ، ولا في عتق ولا في ولاية لشخص على آخر ، ولا فينسب كذلك ، ولا طلاق وأيضا لا يجوز التحكيم في فسخ النكاح ونحوه، ولا في رشد وسفه ولا في أمر غائب مما يتعلق بما له ، وزوجته ، وحياته ، وموته ، ولا في حبس ، ولا في عقد مما يتعلق بصحته وفساده ؛ لأن هذه الأمور إنما يحكم فيها القضاة ، فلايجوز التحكيم فيها لتعلق الحق بغير الخصمين ، إما لله تعالى كالحدود لأن المقصود منها الزجر وهو حق الله لتعدى حرمانه تعالى ، والقتل لأنه إما لردة أو حرابة وكله حق الله لتعد بحرماته ، والعتق ، الطلاق البال لأنه لا يجوز رد العبد إلى الرق ولو رضي بذلك ، وكذا الطلاق البائن لا يجوز رد المرأة إلى العصمة ولو رضيت بذلك فالطلاق فيه حق الله تعالى إذ لا يجوز أن تبقى المرأة المطلقة البائن في العصمة .
وأما لآدمي كاللعان والولاء والنسب ، ففي اللعان حق الولد في نفي نسبه من أبيه ، وفي الولاء والنسب ترتيبأ حكامها من نكاح وعدمه ، وارث وعدمه ، وغير ذلك على الذرية التي ستوجد فلايسري ذلك على غير المحكمين ، ومن يسري ذلك إليه لم يرضى بحكم المحكم.
جواز وامتناع التحكيم لدى الشافعية :
مذهب الشافعية عدم جواز التحكيم في الحدود ، وبتعبير أشمل عدم الجواز فيما هو عقوبة لله تعالى ليتناولا لتعزير، وفي قول لا يجوز في قصاص ونكاح ونحوهما كاللعان وحد قذف وعللوا ذلك بخطر أمرها فتناط بنظرالقاضي ومنصبه.
وعللوا لعدم جواز التحكيم فيحدود الله تعالى بأن ليس لها طالب معين ، وعليه فحق الله تعالى المالي الذي لا طالب له معين لا يجوز فيه التحكيم
جواز وامتناع التحكيم لدى ظاهر كلام أحمد كما قال أبو الخطاب أن التحكيم في ما يتحاكم فيه الخصمان ، وقال القاضي : يجوز حكم المحكم فيالأموال خاصة ، فأما النكاح والقصاص وحد القذف فلا يجوز التحكيم فيها لأنها مبنية على الاحتياط فيعين للحكم فيها قاضي الإمام كالحدود، وفي المغنى قال القاضي : ينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء : النكاح ، واللعان ، والقذفو القصاص ، لأن لهذه الأحكام ميزة على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ، ونائبه يقوم مقامه . قال الشيخ تقي الدين ابن تيميه : خصوا اللعان لأن فيه دعوى وإنكار وبقية الفسوخ كإعسار.
هذا ويتفق الفقهاء على عدم جواز التحكيم في القصاص وفي الحدود على خلاف فيما كان حقا لله فلا يجوز فيه التحكيم ، ، أوحقا لآدمي فيجوز فيه التحكيم عند البعض .
وقد أجاز الحنفية التحكيم في كلما يملك المحكمان فعله في أنفسهما من حقوق العباد ، وبناء على هذا قالوا يجوز التحكيم في الأموال والطلاق ، والعتاق والنكاح ، وتضمين السرقة ، وفي سائر المجتهدات ، ومع أن هذا هو الصحيح في المذهب إلا أن مشايخ الحنفية امتنعوا عن هذا للفتوى كي لا يتجاسر العوام فيه ، كما سبقت الإشارة .
وأجاز المالكية التحكيم في كلما يصح لأحد المحكمين ترك حقه وبيع وشراء فيه ، فقالوا : بجواز التحكيم في الأموال من دين وبيكو شراء فللمحكم الحكم بثبوت ما ذكر أو عدم ثبوته ، ولزومه وعدم لزومه وجوازه وعدمه، كما يجوز التحكيم في الجرح عمدا أو خطأ ، ولو عظم كجائفة وأمة ومنقلة وموضحة ، أو قطع لنحويد .
وعند الشافعية يجوز التحكيم في حقوق الأموال ، وعقود المعاوضات، وما يصح فيه العفو والإبراء ، وعندهم قسم مختلف فيه ، كما قال الماوردي ، وهو أربعة أحكام النكاح واللعان ، والقذف والقصاص . ففي جواز التحكيم ، فيها وجهان : أحدهما: يجوز لوقوفها على رضا المتحاكمين .
والثاني : لا يجوز ؛ لأنها حقوق وحدود يختص الولاة بها ، وفي مغنى المحتاج وغيره جواز التحكيم في المال دونالقصاص والنكاح ونحوهما كاللعان وحد القذف .
أما الحنابلة فقد اختلفوا فيما يجوز التحكيم فيه فقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أن التحكيم يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان قياسا على قاضي الإمام ، وقال القاضي : يجوز حكمه في الأموالالخاصة كما سبقت الإشارة . ونص موفق الدين بن قدامه : على نفاذ حكم المحكم في المالو القصاص والحدود والنكاح واللعان ، قال المرداوي : وهو المذهب الجزاءات الموقعة على المحكم إذا حكم فيما لا يجوزله الحكم فيه :
إذا حكم المحكم فيما لا يجوزله الحكم فيه كالحكم في حد أو قصاص أو لعان أو غيره مضى حكمه ، ولا ينقضه الإمام ، ولا القاضي إن حكم صوابا ، لأن حكم المحكم يرفع الخلاف ، ولكن يؤدب المحكم إن أنفذ حكمه بأن قتل أو ضرب ، أما لو حكم ولم ينفذ ، فإن القاضي يمضي حكمه وينهاه عن لعودة ولا يؤدبه. أما إن لم يصب فعليه الضمان ، فإن ترتب على حكمه إتلاف عضو فالدية على عاقلته ، وإن ترتب عليها إتلاف مال كان الضمان في ماله .
وقال الشافعية والحنابلة ليس للمحكم أن يحبس ، بل غايته الإثبات والحكم ، وقال الغزالي : إذا حكم بشيء منالعقوبات كالقصاص، وحد القذف لم يستوفه ؛ لأن ذلك يخرم أبهة الولاية. وقالأبن أبي الدم : المذهب أنه لا يحبس ، بل ليس له إلا الإثبات ، ولا خلاف أنه ممنوع من استيفاء العقوبات إن جوزنا التحكيم فيها ، لأنها تخرم أبهة الولاية العامة.