- اتفاق التحكيم والشكل الكتابي:
لا بد من أن يكون اتفاق التحكيم مكتوبًا. والاتفاق الشفهي لا يأبه به. هذا ما تؤكده مختلف أنظمة واتفاقيات التحكيم. فقانون التحكيم المصري، اقتضى ذلك، صراحة، في المادة ۱۲ منه التي جاءت ناصة على أنه "يجب أن يكون اتفاق التحكيم مكتوبًا وإلا كان باطلًا".
ومن الاتفاقيات الدولية التي اقتضت الكتابة في اتفاق التحكيم، نذكر اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري لعام ۱۹۸۷، التي نصت مادتها الأولى على تعريف اتفاق التحكيم بأنه "اتفاق الأطراف كتابة على اللجوء إلى التحكيم سواء قبل نشوء النزاع أو بعده".
ومن نظم ولوائح هيئات التحكيم التي فرضت الكتابة في اتفاق التحكيم، نذكر نظام مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي، الذي نص في المادة ١٢ منه على أنه "عندما يتفق أطراف العقد كتابة على أن المنازعات والخلافات التي تنشأ عن أو تكون على صلة بهذا العقد سيتم تسويتها عن طريق التحكيم تحت رعاية المركز... فإن هذه المنازعات والخلافات سيتم تسويتها وفقًا لقواعد المركز...".
وكذلك لائحة إجراءات التحكيم أمام مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لعام ١٩٩٤، التي عرفت اتفاق التحكيم بأنه "اتفاق الأطراف كتابة على الالتجاء إلى التحكيم سواء قبل النزاع (شرط التحكيم)
أو بعده (مشارطة)".
وعلي كل حال، فإن الخلاف حول مضمون النصوص المذكورة ينحصر في ما إذا كانت الكتابة المتطلبة في اتفاق التحكيم هي لإثبات الاتفاق أم لانعقاده ووجوده؟.
- الشكل الكتابي، طبيعته وعلته:
لأمراء في أن هناك من التشريعات ما جعل من اتفاق التحكيم اتفاقًا شكليًا ad solemnitatem، باستلزامه الكتابة ركنًا في اتفاق التحكيم لازم لوجوده، لا يقوم بدونه، ولا يصح من غيره ad validitatem، ولا ينتج آثاره، بالتالي. إن أي اتفاق تحكيم لا يكون مكتوبًا يكون باطلًا لا أثر له، كما يبطل اتفاق الأطراف على استبعاد الكتابة، أو استبدالها بغيرها.
وهذا هو ما اعتنقه قانون التحكيم المصري والعماني (م ۱۲) والإنجليزي (م ١/٥) والفرنسي بالنسبة لشرط التحكيم في القانون الداخلي (م ١٤٤٣ إجراءات مدنية) والجزائري لعام 1993 (م 458 مكرر (1) إجراءات مدنية) وقانون التحكيم اللبناني لعام 1985 (م 763 محاكمات مدنية بالنسبة لشرط التحكيم دون المشارطة).
وعلى العكس من ذلك، يتجه جانب آخر من التشريعات إلى جعل الكتابة، مع استلزامها في كل حال، مجرد وسيلة لإثبات الاتفاق على التحكيم ad probationem، بحيث إن انعدام الكتابة لا يستتبع انعدام الاتفاق، أو بطلانه، بل يجعله، عند إنكاره، غير ذي فعالية، ويتعين البحث عن وسيلة مأمونة لإثباته .
ومن تلك التشريعات نذكر، قانون التحكيم الموريتاني لعام ۲۰۰۰ الذي نصت مادته السادسة على أنه "لا يثبت اتفاق التحكيم إلا بالكتابة، سواء بمحرر رسمي، أو بمحرر عرفي أو بمحضر جلسة أو بمحضر تم تحريره لدى محكمة التحكيم المختارة"('). وكذلك نذكر قانون التحكيم الهولندي لعام ١٩٨٦ (م ١٠٢١ إجراءات مدنية)، وقانون التحكيم التونسي لعام ١٩٩٣ (م٦).
ومهما يكن من أمر تلك الاتجاهات، فالبادي أن علة استلزام الكتابة عمومًا، سواء لوجود اتفاق التحكيم أو لإثباته، تكمن في أن التحكيم والاتفاق عليه من التصرفات القانونية ذات الخطر، ويبدو ذلك من عدة نواح:
الأولى، أنه يرتب أثرًا في حق الدولة، حيث ينزع منها الاختصاص بفض النزاع بين طرفي الاتفاق، وتخويله قضاء ذاتي خاص. والإقبال على تصرف من ذلك يجب تقييده حتى يتمكن من ضبط أداء العدالة، وتحقيق رقابة الدولة على أنظمة التقاضي الموازية والخاصة.
الثانية، أنه يرتب أثرًا في حق الأطراف أنفسهم يمكن أن يتضمن مخاطرة ببعض حقوقهم، حيث لا يعلمون ما سينتهي إليه التحكيم، لا سيما إذا كان مفوضًا بالصلح، يقضى وفقًا لمبادئ العدل والأنصاف ولا يتقيد بقواعد قانونية محددة، ومن ثم يجب التحقق من أن إرادة الأطراف كانت على وعى بحقيقة ما تقدم عليه بإبرام اتفاق التحكيم.
الثالثة، أنه يرتب أثرًا في حق الغير، حينما يمتد اتفاق التحكيم إلى عقود أخرى وأطراف آخرين تتصل بذات المعاملة أو العقد الأصلي من ذلك امتداده في مجموعات الشركات، أو مجموعة العقود (3). ولن يكون مستطاعًا، هنا، الكلام عن مد اتفاق التحكيم الذي أبرمته الشركة الوليدة إلى الشركة الأم، أو من العقد التنفيذي إلى العقد الأصلي أو الإطاري، إلا إذا كان اتفاق التحكيم المراد مده مدونًا في محرر، بحيث يتعذر على من لا يرغب في المد إنكاره.
- كيف تتحقق الكتابة في القانون المصري: كانت المادة 501 من قانون المرافعات المدنية والتجارية لعام ١٩٦٨ تنص على أن "ولا يثبت التحكيم إلا بالكتابة". وهذا النص صريح في أن الكتابة مطلوبة للإثبات فقط. وعلى العكس من ذلك، استلزم قانون التحكيم الجديد أن يكون اتفاق التحكيم مكتوبًا، ورتب جزاء البطلان على تخلف الكتابة، مما يعني أن الكتابة ركن في اتفاق التحكيم، لازم لانعقاده ووجوده.
وإذا كانت الكتابة متطلبة، هكذا، في اتفاق التحكیم کی يوجد، فهي متطلبة كذلك في كل تعديل يتم إدخاله عليه بعد، إبرامه، ورغم أن الكتابة مستلزمة، هنا، لوجود وصحة اتفاق التحكيم، إلا أن القانون لم يستلزم أن تكون كتابة رسمية، تتم على يد موظف عام مختص، كالموثق في مكاتب التوثيق أو الشهر، فيكفي إفراغ الاتفاق في مستند عرفی موقع عليه من طرفيه، ولا يشترط في الكتابة العرفية أن تجرى بعبارات أو ألفاظ معنية المهم أن يكون المسطور نافيًا كل ريبة أو شك حول اتجاه إرادة الاتفاق على نزع الاختصاص من قضاء الدولة، وتخويله قضاء التحكيم.
وتتحقق الكتابة في اتفاق التحكيم إذا تضمنه ما تبادله الطرفان من رسائل أو برقيات مكتوبة، وكذلك الرسائل الإلكترونية E. mail عن طريق شبكة المعلومات الدولية الإنترنت، والتي أصبح يعتد بمستخرجاتها في إثبات معاملات التجارة الدولية، وغير ذلك من وسائل الاتصال السلكي واللاسلكي. كما يعتمد باتفاق التحكيم، إذا ورد ما يشير إليه في تبادل الأوراق والمستندات المتعلقة ببيان الدعوى أو مذكرات الدفاع، التي يدعى فيها أحد الطرفين وجود الاتفاق ولا ينكره الطرف الآخر.
كما يتحقق ركن الكتابة في اتفاق التحكيم إذا تضمنه مستند مكتوب نقله طرف إلى الطرف الآخر، أو تم نقله عن طريق الغير إلى الطرفين والذي يعتبر، طبقًا للعادات والأعراف المقبولة في وسط أعمال معين، اتفاقًا على التحكيم، في حالة عدم الاعتراض على ذلك في الوقت الملائم.
ونحن نرى أن هذا خلاف نظري أكثر منه عملي. فالواقع أنه إذا اتخذ اتفاق التحكيم صورة بند أو شرط التحكيم، فهو بطبيعته يندرج في صلب عقد مبرم بين الطرفين، وهو لا بد موقع عليه منهما، أما إذا ورد الاتفاق في مستند مستقل، فلا يتصور عملًا أن يصدر عنهما دون أن يكون ممهورًا بتوقيعهما، وإلا كان محل شك في صدوره عنهما، وتيسر إنكاره في أي وقت.
أما عندما يتخذ اتفاق التحكيم صورة مشارطة تحكيم، فهو بطبيعته يتم بعد وقوع النزاع، ويفترض التفاوض حوله والاتفاق عليه، ويتعذر أن يصدر عن الطرفين دون توقيعهما.
وإذا كان القانون يستلزم أن يكون الاتفاق على التحكيم مكتوبًا، فهل يلزم في الوكالة أن تكون مكتوبة كذلك؟
ونحن، نرى أن الوكالة في إبرام اتفاق التحكيم لا بد من أن تكون مكتوبة.
فكما استلزمت ذلك صراحة المادة ١/٧٠٢ من القانون المدنى المصرى بقولها "لابد من وكالة خاصة في كل عمل ليس من أعمال الإدارة، وبوجه خاص فى البيع والرهن والتبرعات والصلح والإقرار والتحكيم...". فإذا كان القانون يستلزم الكتابة في اتفاق التحكيم ذاته، وهو الأصل، فإنه من باب أولى، يستلزمها في الوكالة في إبرامه، وهي فرع. والفرع يتبع الأصل.
(111).