الكتابة المطلوبة لانعقاد التصرف القانوني والكتابة المطلوبة لإثباته
التمييز بين الكتابة المطلوبة لانعقاد التصرف القانوني ، والكتابة المطلوبة لإثباته :
يخضع إثبات التصرفات القانونية إلى حد كبير لمبدأ الإثبات القانوني حيث ترسم الأنظمة القانونية الوضعية - وعلى اختلاف مذاهبها ، واتجاهاتها - طرقا محددة تحديدا دقيقا للإثبات ، وتجعل لكل طريق قيمته ويتقيد بكل ذلك الخصوم في الدعوى القضائية ، والقاضي العام في الدولة الحديثة .
وطرق الإثبات التي رسمتها الأنظمة القانونية الوضعية - وعلى اختلاف مذاهبها ، واتجاهاتها - وبينت إجراءاتها ، وقوة كل طريقة منها هي : الكتابة ، الشهادة ، الإقرار ، اليمين ، القرائن ، والمعاينة .
وتعد الكتابة من أقوى طرق الإثبات . ومن مزاياها ، أنه يمكن إعدادها مقدما للإثبات منذ نشأة الحق ، دون الإنتظار لوقت المنازعة فيه . ولذلك فقد سميت بالدليل المعد Prave preconstituee ، وقد أوجبها المشرع الوضعى المصرى بوجه عام طريقا للإثبات ، فى الأحوال التي يكون فيها مصدر الحق تصرفا قانونيا مدنيا ، فالمادة ( ٦٠ ) من قانون الإثبات المصرى رقم ( ٢٥ ) لسنة ١٩٦٨ تنص على أنه :
" في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على مائة جنيه ، أو كان غير محدد القيمة ، فلا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجوده ، أو انقضائه مالم يوجد اتفاق أو نص يقضى بغير ذلك ..
ولا يختلف الوضع كثيرا فى القانون الوضعي الفرنسي . فالكتابة تعد القاعدة العامة في إثبات التصرفات القانونية المدنية . فالمادة ( ١٣٤١ ) من القانون المدنى الفرنسي تنص على أنه :
" يجب إعداد ورقة رسمية لإثبات الأشياء التى تزيد قيمتها على مائة وخمسين فرنكا ، ولو كانت ودائع اختيارية ، ولاتقبل البينة فيما يخالف أو يجاوز مشتملات هذه الأوراق ، أو فيما يراعى أنه وقعت قبل كتابتها أو في أثناء الكتابة أو بعدها ، ولو كانت القيمة تقل عن مائة وخمسين فرنكا وهذا كله دون إخلال بأحكام قوانين التجارة " .
والكتابة المطلوبة لإثبات التصرف القانوني تختلف جذريا عن الكتابة التي تستلزمها الأنظمة القانونية الوضعية - وعلى اختلاف مذاهبها واتجاهاتها - لانعقاد بعض التصرفات القانونية ، حيث تكون هذه الكتابة شرطا لوجود ، وصحة التصرف الشكلي ، بحيث يؤدي تخلفها إلى انعدام التصرف القانونى ذاته . في حين أن الكتابة المطلوبة لإثبات التصرف القانوني ، لاعلاقة لها بصحته ، فتخلفها لايؤدى إلى أكثر من صعوبة إثباته والتمييز بين الكتابة المطلوبة لانعقاد التصرف القانوني ، وتلك المطلوبة لإثباته لاتقتصر أهميته على الناحية النظرية فقط ، وإنما تكون له أهمية من الناحية العملية كذلك .
وفيما يلى أعرض للتمييز بين الكتابة المطلوبة لانعقاد التصرف القانوني وتلك المطلوبة لإثباته من الناحية النظرية ، ثم أبين النتائج العملية المترتبة على ذلك:
أولا :
التمييز بين وجود التصرف القانوني ، وإثباته :
إن التمييز بين وجود التصرف القانوني ، وإثباته يعد أحد المسلمات الأساسية في علم الأنظمة القانونية الوضعية - وعلى اختلاف مذاهبها واتجاهاتها - فتحقق الوجود القانوني لاتصرف يكون أمرا مستقلا ، ومتميزا عن اثباته ، فلا ينبغي الخلط بين الأمرير .
وإعمالا لهذا التمييز ، فإن الأنظمة القانونية الوضعية - وعلى اختلاف مذاهبها ، واجاهاتها - تضع قواعد تحكم إنشاء التصرف القانوني ، وأخرى تحكم إثباته .
فالأولى :
تبين العناصر التي يتكون منها ، والتي باجتماعها يتحقق للتصرف وجوده القانوني
أما الثانية :
فإنها تنظم وسائل ، وإجراءات إثباته أمام القضاء العام في الدولة الحديثة .
والشكل ينتمى إلى المجموعة الأولى . أما إجراءات الإثبات ، فإنها تنتمى إلى المجموعة الثانية .
فالشكل هو :
أسلوبا مفروضا للتعبير عن الإرادة ، تفرضه الأنظمة القانونية الوضعية - وعلى اختلاف مذاهبها ، واتجاهاتها - بالنسبة لتصرفات معينة . فإذا عبر المتصرف عن إرادته خارج الشكل المفروض قانونا ، فإن تعبيره لا ينتج أثرا قانونيا .
فالشكل يكون شرطا لتكوين التصرف القانوني ، يلزم توافره بالإضافة إلى سائر شروط تكوين التصرف ، تلك الشروط التى الأنظمة القانونية الوضعية - وعلى اختلاف مذاهبها ، واتجاهاتها - وحده بتحديدها ، دون تدخل من جانب الأفراد ، والجماعات ، وليس لهم أن يضيفوا إليها ، أو أن يستبعدوا منها . ولذلك ، فإن الإتفاق على استبعاد الشكل ، أو استبداله بآخر في اتفاق بين الأفراد ، والجماعات ، غير جائز قانونا.
أما دليل الإثبات ، فإنه على العكس من ذلك ، ليس عنصرا من عناصر تكوين التصرف القانوني . فالتصرف يتكون ، ويتحقق وجوده القانوني حتى ولو لم يتوفر بعد دليل إثباته .
ولذلك ، فإن تخلف الشكل ، يؤدى إلى عدم صحة التصرف القانوني وبطلانه . أما تخلف دليل الإثبات ، فلاتأثير له على صحته ، فيظل سليما تماما من الناحية القانونية ، وإن أدى ذلك إلى صعوبة إثباته من الناحية العملية :
ثانيا :
النتائج العملية المترتبة على التمييز بين وجود التصرف القانوني ، وإثباته :
تخلف الكتابة المطلوبة لإثبات التصرف القانوني ، لا يؤدي بالضرورة إلى جعله مستحيل الإثبات . ومن ثم ، عديم الفاعلية - كما هو الشأن عند تخلف الكتابة المطلوبة لانعقاد التصرف القانوني .
فمن ناحية ، يمكن إثبات التصرف القانوني عن طريق الإقرار ، أو اليمين ومن ناحية أخرى ، يمكن أيضا إثباته عن طريق البينة ، والقرائن ، متى توافرت إحدى الحالات الإستثنائية التي أوردتها الأنظمة القانونية الوضعية وعلى اختلاف مذاهبها ، واتجاهاتها - على قاعدة الإثبات بالكتابة .
( أ ) :
إثبات التصرف القانوني بالإقرار ، واليمين :
إذا كانت الأنظمة القانونية الوضعية - وعلى اختلاف مذاهبها واتجاهاتها - تتطلب الكتابة لإثبات التصرفات القانونية التي تزيد قيمتها على حد معين ، فإن ذلك لا يعنى أن الكتابة عندئذ هي الدليل الوحيد المقبول لإثباتها . فإذا تخلفت ، فإن التصرف القانونى يصبح من المستحيل إثباته ونص المادة ( ٦٠ ) من قانون الإثبات المصرى رقم ( ٢٥ ) لسنة ١٩٦٨ لا يسمح بذلك ، فهو يقرر أنه :
" في غير المواد التجارية ، إذا كان التصرف القانونى تزيد قيمته على مائة جنيه ، أو كان غير محدد القيمة ، فلا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجوده ، أو انقضائه ، مالم يوجد اتفاق أو نص يقضى بغير ذلك " .
فالنص القانونى الوضعى المصرى المتقدم يحظر إثبات التصرف القانوني بشهادة الشهود . وإذا كان إثبات التصرف القانوني بشهادة الشهود غير جائز فإن إثباته بالقرائن يكون أيضا غير جائز من باب أولى .
وعلى العكس من ذلك ، فإن إثبات التصرف القانوني بالكتابة ، أو ما يعادلها يكون جائزا . فالمادة ( ٦٠ ) من قانون الإثبات المصرى رقم ( ٢٥ ) لسنة ١٩٦٨ لاتنص صراحة على استلزام الكتابة كدليل وحيد لإثبات التصرفات القانونية الخاضعة لها ، وإنما فقط تحظر إثباتها بشهادة الشهود . وعلى ذلك فإن القول باستلزام الكتابة لإثبات التصرفات القانونية ، إعمالا لنص المادة ( ٦٠ ) من قانون الإثبات المصرى رقم ( ٢٥ ) لسنة ١٩٦٨ هـو قـولا مستنتجا عن طريق التفسير .
وأيا كانت صياغة النص القانوني الوضعي الذي يستلزم الكتابة لإثبات التصرفات القانونية ، فإنه يمكن الإثبات بالإقرار ، أو اليمين في حالة تخلف الكتابة ، وهذا هو الرأى أيضا ، حتى بالنسبة للنصوص القانونية الوضعية الأخرى المتفرقة الأكثر تحديدا ، والتي تستلزم الكتابة صراحة لإثبات بعض التصرفات القانونية .
(ب)-
إثبات التصرفات القانونية بالبينة ، والقرائن :
أورد المشرع الوضعى المصرى إستثناءات عديدة على قاعدة وجوب إثبات التصرف القانونى بالكتابة . بعضها يكون عاما ، يسرى على كافة التصرفات القانونية . والبعض الآخر منها يكون خاصا بتصرفات قانونية معينة - دون غيرها . والإستثناءات العامة فى هذا الشأن يمكن إجمالها في ثلاثة ، نص المشرع الوضعى المصرى صراحة على اثنين منها ، وهما :
الإستثناء الأول :
حالة وجود مبدأ ثبوت بالكتابة :
تنص المادة ( ١/٦٢) من قانون الإثبات المصرى رقم ( ٢٥ ) لسنة ١٩٦٨ على أنه:
" يجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بالكتابة إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة ... وتعرف ذات المادة في فقرتها الثانية مبدأ الثبوت بالكتابة بأنه :
"كل كتابة تصدر من الخصم ويتون من شأنها أن تجعل وجود التصرف المدعى قريب الإحتمال ".
وعلى ذلك ، فإنه يلزم توافر شروطا ثلاثة لكى نكون بصدد مبدأ ثبوت بالكتابة ، وهي :
الشرط الأول :
أن تكون هناك كتابة .
الشرط الثاني :
أن تكون هذه الكتابة صادرة من الخصم الذي يحتج بها عليه.
والشرط الثالث :
أن يكون من شأن هذه الكتابة أن تجعل وجود التصرف القانوني قريب الإحتمال .
الإستثناء الثاني :
حالة وجود مانعا من اثبات التصرف القانوني بالكتابة :
تنص المادة ( ٦٣ ) من قانون الإثبات المصرى رقم ( ٢٥ ) لسنة ١٩٦٨ على أنه:
" يجوز كذلك الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بدليل كتابي
أ - إذا وجد مانعا ماديا أو أدبيا يحول دون الحصول على دليل كتابي .
ب - إذا فقد الدائن سنده الكتابي لسبب أجنبي لايد له فيه " .
والإستثناء الثالث :
يكون مستنتجا من القواعد العامة ، وبعض النصوص القانونية الوضعية المصرية الخاصة ، وهو حالة وجود احتيال على القانون الوضعي المصرى :
الأصل هو وجوب إثبات التصرف القانونى بالكتابة فيما يجاوز مائة جنيه ، ولكن إذا كان المراد إثباته إتفاقا يخالف النظام العام ، والآداب في مصر ، فإن يجوز إثبات هذا الإتفاق بالبينة ، والقرائن ، ولو كان أصلا مما يجب إثباته بالكتابة ، تسهيلا للكشف عن مخالفة القانون الوضعي المصرى ، وتحقيقا لرغبة المشرع الوضعى المصرى في إبطال كل اتفاق غير مشروع . والقانون المدنى المصرى وإن لم يتضمن نصا يقرر هذا المبدأ صراحة ، إلا أن نص المادة ( ۷۳۹) منه يمكن أن يقرره ، فهى تقضى بأنه :
"يكون باطلا كل اتفاق خاص بمقامرة أو رهان ، ولمن خســر فــي مقامرة ، أو رهان أن يسترد مادفعه خلال ثلاث سنوات من الوقت الذى أدى فيه ماخسره ولو كان هناك اتفاقا يقضى بغير ذلك ، ولــه أن يثبــت ما أداه بجميع الطرق " . فهذا النص القانوني الوضعى المصرى لا يعدو في الحقيقة أن يكون سوى تطبيقا للمبدأ المذكور.
وبجانب ذلك ، فإن هناك استثناءات خاصة على قاعدة إثبات التصرف القانوني بالكتابة ، والتي سمح فيها المشرع الوضعى المصرى بالخروج على قاعدة إثبات التصرف القانوني بالكتابة . ومنها على سبيل المثال : المادة ( ٤٣ ) من قانون العمل الموحد المصرى ، والتى تجيز للعامل إثبات عقد العمل بجميع طرق الإثبات ، فهي تنص على أنه:
"يكون عقد العمل بالكتابة ، ويحرر باللغة العربية ومن نسختين ولكل من الطرفين نسخة ، وإذا لم يوجد عقد مكتوبا جاز للعامل إثبات حقوقه بجميع طرق الإثبات . " .
وبعد ، فإن إمعان النظر في الإستثناءات التي أوردها المشرع الوضعي المصرى على قاعدة إثبات التصرف القانوني بالكتابة ، ومواكبهــا مــن تطبيقات قضائية ، من شأنه أن يثير التساؤل عما تبقى من هذه القاعدة المنصوص عليها في المادة ( ٦٠ ) من أانون الإثبات المصرى رقم ( ٢٥ ) لسنة ١٩٦٨ ؟. فهل حقا مازالت بمثابة قاعدة عامة ؟ .
نعتقد أن الإجابة لابد وأن تكون بالنفي . وعلى ذلك ، ليس صحيحا القول بأن تخلف الكتابة المطلوبة لإثبات التصرف القانوني من شأنه أن يؤدى إلى جعله مستحيل الإثبات ، أو أنه لايمكن إثباته بغير اليمين ، أو الإقرار . ومن ثم يمكن لأطراف التصرف القانوني - وفي الغالب من الأحوال – إثبات وجود تصرفهم - وعلى الرغم من تخلف الكتابة المطلوبة لإثباته – عن طريق البينة ، والقرائن ، علاوة على الإقرار ، واليمين
ومما تقدم ، يتضح أن تخلف الدليل الكتابي المعد سلفا ليس من شأنه أن يجعل التصرف القانوني مستحيل الإثبات ، أو منعدم الفعالية .