بادر الفقه الحديث بالتعرض للتحكيم التجارى الدولى كأحد آليات فض منازعات التجارة الدولية التي فرضت نفسها بقوة منذ وقت طويل، ولعل الطبيعة القانونية للتحكيم كانت من أهم وأدق المسائل التي أثير بشأنها الجدل.
وقد تهون مسألة الوقوف على طبيعة التحكيم لو أن الأمر اقتصر على مجرا رصد المواقف الفقهية بشان تلك الطبيعة، بيد أن الواقع ينبئ خلاف ذلك، لما لهذه المسألة من نتائج هامة، سيما الوقوف على ذلك المصدر الذي يستمد منه التحكيم التجاري الدولي سلطته كمصدر للقواعد القانونية بمجال التجارة الدولية.
ومن ثم نعرض في الفرع الأول للاتجاهات السابقة، وفي الفرع الثاني للعوامل الأساسية لتأكيد طبيعة التحكيم التجارى الدولى كقضاء لمنازعات التجارة الدولية. الطبيعة القانونية للتحكيم صبع التحكم القانود )
إن تحديد الطبيعة القانونية للتحكيم يتطلب منا التعرض للاتجاهات الرئيسية، حيث يراه البعض ذو طبيعة تعاقدية والاتجاه الثاني يراه ذا طبيعة قضائية، أما الاتجاه الثالث فقد أثر المزج بين الاتجاهين السابقين فرآه ذا طبيعة مختلطة، وهناك من رآه ذا طبيعة خاصة أو مستقلة، ومن ثم نتناول تلك الاتجاهات على أن نعتبها
كذلك قيل في تبرير النظرية أن استقلال الأطراف بسلطة الاتفاق على التحكيم، إنما يتفقون ضمنا على التخلي عن بعض الضمانات القانونية والإجرائية التي يحتلها النظام القضائي حين اللجوء إليه، ويخولون للمحكم سلطة مصدرها إرادتهم، ومن ثم فهذه السلطة لا يمكن أن تكون سلطة قضائية. فاستبعادهم لاختصاص هذا القضاء بداية
رغم دوره في نفاذ انتقاقاتهم، يحمل التأكيد على سلطان هيئة التحكيم كما تحمله وثقته، وإذا كان في هذا التخلي ما يحمله من مخاطر، فهي مخاطر محسوبة، فيكون اساس التحكيم إذ ذاك إرادتهم، ويكون قرار المحكمين انعكاسا ودعما لسلطان هذه الإرادة وتنفيذا للعقد.
كذلك فالصفة التعاقدية يحتمها اعتبار التحكيم من متطلبات المعاملات الدولية، مما يتطلب التخلي عن بعض الضمانات التي يحققها النظام القضائي، فالتجارة الدولية يعترضها التشريعات والقضاء في مختلف الدول، ولا يمكن تحرير المبادلات إلا عن طريق الإقرار للتحكيم بطابع تعاقدي لتحقيق العدالة والابتعاد عن التعقيدات الإجرائية التي تثقل كاهل النظام القضائي ".
والنتيجة التي يصل اليها أنصار المفهوم التعاقدي، أنه طالما كان عمل المحكم لا يخرج عن كونه تنفيذا لعقد التحكيم والذي يعد عقدا كسائر العقود، فإن هذا العقد يستغرق المرحلة التحكيمية برمتها ويستقيم وكافة مراحلها حتى صدور قرار التحكيم فهو قاعدة وقمة العملية التحكيمية، ورضائهم بالحكم الصادر يعد محصلة نهائية الاتفاقاتهم وعنصرا تبعيا للعملية التحكيمية، ينسلخ عليه ما ينسلخ على اتفاق التحكيم، بل ان مسالة عدم الرضا عن حكم التحكيم والطعن فيه بای من اسباب البطلان، ترجع اسبابه في عمق فلسفتها لمخالفة حكم التحكيم الاتفاق الأطراف، والذي تتقيد هينه التحكيم باحكامه دون إمكانية خلق قواعد قانونية جديدة. أمانذييل قرار التحكيم بالصيغة التنفيذية فليس إلا إجازة شكلية لنفاذه، إذ إن مرجع قوتها التنفيذية هذا الاتفاق الخاص.
وقد أكدت ذلك الاتجاه محكمة النقض الفرنسية فقضت بأن " أحكام المحكمين التي تستمد أساسها من مشارطة التحكيم تدمج في هذه المشارطة وتأخذ نفس طبيعتها التعاقدية ويلتزم الخصوم بتنفيذها كما يلتزمون بتنفيذ العقود التي يبرمونها(
فالوقوف على طبيعة التحكيم لا يجب أن يقف عند حد المعايير الشكلية الصفة القائمين بامر العدالة وانتمائهم للنظام القضائي للدولة، أو الإعلاء من امر اتفاق التحكيم للحد الذي يطغى فيه على كل أثر القرار التحكيم. بل إن تحليل العملية التحكيمية منذ النشأة حتى النهاية، يدور وجودا وعدما حول فكرة المنازعة Litigue وكيفية حلها من قبل محكم يختاره الأطراف ليقول الحق أو حكم القانون بينهم. وإذا كانت بداية التحكيم عملا إراديا Act volontair هو اتفاق التحكيم، فلا صلة له بوظيفة التحكيم وطبيعته، إذ جاء بغرض اسمي هو الحصول على الحماية القضائية وحسم النزاع وهي غاية أي نظام قضائي. فهذا العمل الإرادي شأنه شأن اللجوء القضاء الدولة، فهما طريقان متوازيان، فكما يتم اختيار التحكيم لحسم النزاع بعمل إرادی من طرفيه، فاللجوء للقضاء كذلك يتم بعمل إرادي من جانب أحدهما ويتعلق بهذا العمل حق الآخر (۲) وإذا كان الأول يتجه نحو قضاء العدالة الخاصة
Justice Priveويتجه الثاني نحو قضاء الدولة أو العدالة العامة Justice Public، فإن جوهر النظامين يظل واحدا وهو فض المنازعة، فانتفاء العمومية لنظام التحكيم لا يعني بالضرورة إنكارا للطبيعة القضائية، فمكانة العمل الإرادي في العملية التحكيمية لا يعدو أن يكون مجرد فتيل لوضع هذا النظام موضع الحركة التي تهيمن عليه طبيعته القضائية ويتحرك بذائيتها الخاصة
التحليل السابق إن المعيار العضوي لا يكفي في ذاته لتمييز العسل القضائي ()، كما أن وجود فارق بين قرار التحكيم وحكم القاضي، لعدم شمول الأول الأمر التنفيذ إلا بعد اللجوء للقضاء، لا يعني اختلاف النتائج التي تترتب على كل منهما. إضافة إلى أن القول بان وجوب الأمر بالتنفيذ يعني أن حكم المحكمين ليس قضاء، يؤدی منطقيا إلى القول بان الحكم الأجنبي أيضا ليس قضاء وهو ما لم يقل به
احد.
كذلك ذهبت محكمة النقض الفرنسية في أحد أحكامها بأن " التحكيم بعد نضای استثنائيا، يملك فيه المحكم سلطة ذاتية ومستقلة للفصل في المنازعات التي يطرح عليه الخصوم .
كما اعتنقت محكمة النقض المصرية الطبيعة القضائية، عندما قررت بعدد من أحكامها أن " ولاية الفصل في المنازعات تنعقد في الأصل للمحاكم والاستثناء هر جواز اتفاق الخصوم على إحالة ما بينهم من نزاع لمحكمين يختارونهم للفصل فيه کرله طبيعة أحكام المحاكم
المهمة في إطار ما تحدده من ضوابط تتطلبها مصالح التجارة الدولية من إعلاه لك الإرادة في الاتفاق على التحكيم وإقرار مرحلته الأخيرة باكتساب قرارته حجية ذاتية در الحاجة لحكم يضفي عليها هذه الحجية . والتحكيم وفق هذا الملطق نوع من التوازن بين مقتضيات احترام سلطان الإرادة ومقتضيات الانصياع لأحكام التنظيم القانونی المجتمع، أو هي تجسيد لمبدا سلطان الإرادة وفكرة القضاء في آن واحد.