وقد أختلف الفقهاء في الاستدلال على الأساس الذي يمكن اسناد شرعية التحكيم إليه. وتعددت هنا الآراء والاتجاهات.
يذهب رأى آخر إلى القول بأن التحكيم من جنس القضاء والصلح من جنس العقد، وإن إرادة الأفراد لا تنصرف إلى فكرة النزول عن الحق بل تنصرف إلى فكرة طرح الادعاء على المحكم نفسه.
علاوة على ما سبق نجد أن التحكيم يستمد شرعيته من التطور المصاحب لازدهار المعاملات التجارية الدولية، حيث لابد من التحرر من القوانين التي تحددها قواعد الاسناد في القانون الداخلى مع الخضوع لقواعد بديلة يحددها القانون التجارى المهنى والعقود النموذجية والعادات السائدة والمبادئ العامة في التجارة الدولية. الأمر الذى أدى إلى ضرورة وجود نظام قضائي على علم ودراية بحقيقة العلاقات التجارية الدولية، مع الألمـام بالأعراف الحاكمة الأمر الذى لا يتوافر في القضاء الوطني.
والجدير بالذكر أن التراضى على التحكيم والمحكم قد صار شبه تسليم بشروط مقررة سلفاً في العقود الدولية النموذجية التى تحتوى على شرط التحكيم في العلاقات بين الشركات والدول في المعاملات الدولية.
ولعل العلاقات الدولية صارت خاضعة لقواعد موضوعية مستقلة عن القواعد الوطنية تجسدها العقود النموذجية المعمول بها في هذه العلاقات والعادات والأعراف، الأمر الذى يتطلب وجود قضاة أكثر تخصصاً وأكثر خبرة، وهذا ما يتوافر في قوائم المحكمين في هيئات التحكيم سواء الوطنية منها أو الأجنبية.
إضافة إلى واقع القانون نجد أن نظام التحكيم يستمد شرعيته من واقع المنازعات ذاتها، ويستدل على ذلك من الآتي:
ضرورة الاستعانة بخبراء متخصصين، لما تتسم به المنازعات من طابع فني، الأمر الذي تثار معه مسائل فنية وعلمية، كما هو الحال في مسئولية المقاول المهندس، الناقل البحرى ، أو الجـوى الـحـوادث البحرية ... الخ.
مدى ما تتسم به العقود المستخدمة في المعاملات التجارية الدولية من تعقيدات وتشابكات ودرجة عالمية من التطور مثال ذلك عقود التنمية والاستثمار، واتفاقيات البحوث، براءات الاختراع، عقود نقل المعرفة، عقود التعاون بين الدول أو المجموعات العقدية التي يوجد بها مسائل فنية شديدة التعقيد "Consortium“.
تغير الظروف الاقتصادية أثناء فترة تنفيذ العقد الأمر الذي يتطلب درجة عالية من الخبرة المتخصصة والمرونة تسمح بتطويع العقد حسب الظروف المتاحة.
إضافة لما سبق نجد أن نظام التحكيم يستمد شرعيته من واقع المعاملات وذلك في نطاق المعاملات التجارية الدولية، فالتحكيم يهدف إلى حسم المنازعات مع الحفاظ على استمرار هذه المعاملات، كما أن التجارة الدولية تهدف إلى الحفاظ على سرية المعاملات و استمرار التعاون بين الأطراف، ومن ثم فإن انتقال الثروات عبر الدول ينشأ بين الأطراف معاملات مستمرة، حتى وإن نشأ عنها منازعات.
كما أن المشاريع الاقتصادية العملاقة الناشئة عن الثورة الصناعية أدت إلى خلق كيانات قانونية مصاحبة لهذه المشاريع، حيث تتمثل هذه الكيانات في العقود النموذجية التى تنظم الحياة القانونية لهذه المشاريع، وليس الأمر يتعلق فقط بالعقود النموذجية، ولكن إدخال نظام قانوني موحد يقوم على المفاهيم السائدة في الغرب كما ينظم التحكيم عملية فض المنازعات في مثل هذه الأحوال.