يرى أصحاب هذه النظرية أن التحكيم ذو طبيعة خاصة مستقلة قائمة بذاتها، وبرروا ذلك في معرض ردهم على أصحاب نظرية الطبيعة العقدية، وذلك بالقول إن العقد ليس جوهر التحكيم، بدليل أنه لايوجد في التحكيم الإجباري، كما يرون أن المحكم يفتقد صفة القاضي، ويترتب على ذلك أن حكمه لا يعد عملا قانونيا، لا من حيث المضمون، ولا من حيث الشكل، إذ أن حكم المحكم لا يصدر بالأشكال الإجرائية المنصوص عليها في القانون، ويرون أن نظرية الطبيعة المختلطة قد سقطت بذات الانتقادات التي تعرضت لهما النظرية العقدية والنظرية القضائية، والتي كانت النظرية المختلطة هي مزيج من فكرتيهما، ويستند أصحاب النظرية المستقلة لعدد من الأسانيد تلخصها في الآتي:
أولا: أن العقد ليس هو جوهر الحكم التحكيمي، وإن كان الحكم التحكيمي هو نتيجة منطقية لعقد التحكيم.
ثانيا : أن التحكيم يختلف عن القضاء في بنائه الداخلي.
ثالثا: أن مهمة التحكيم ووظيفته تختلف عن مهمة القضاء ووظيفته.
رابعا: أن هيئة التحكيم لا تخضع لذات نظام القاضي في القانون.
خامسا: أن نشأت التحكيم مستقلة عن القضاء لأنه أسبق من القضاء.
سادسا: أن التحكيم بطبيعته الخاصة ينفر من القواعد المجردة، ويسلك طريقه في كل حالة على حدة حسب خصوصيتها، الأمر الذي يستوجب المحافظة على هذه الخصوصية والاستقلالية، وهذا هو الفرق بين التحكيم والقضاء.
ويترتب على الأخذ بهذه النظرية التسليم بوجود ثلاث وسائل قانونية مختلفة للفصل في المنازعات لكل منها غاية مختلفة عن الأخرى، وتنحصر هذه الوسائل في القضاء والصلح والتحكيم ، ومع ما لاقته نظرية الطبيعة المستقلة للتحكيم من قبول لدى بعض الفقه، فقد تعرضت هذه النظرية للنقد من بعض الفقه من وجوه أهمها ما يلي:
الوجه الأول: أن هذه النظرية ربطت بين مرفق القضاء كأحد السلطات العامة، وبين القضاء في معناه المجرد البسيط، الذي يقوم على أساس الفصل في المنازعات طبقا للقانون، وهذا الربط يفتقد التبرير، وعار من المنطق.
الوجه الثاني: أن هذه النظرية ربطت بين القضاء والقوانين من جهة، كما ربطت بين التحكيم وتطبيق العرف والعادات من جهة أخرى.
الوجه الثالث: أنه لا يمكن التسليم بأن التحكيم يهدف إلى تحقيق غاية اجتماعية اقتصادية فقط فالواقع أن هيئة التحكيم تطبق قواعد القانون الموضوعي.
الوجه الرابع: أن الاستدلال يكون التحكيم يقدم عدالة خاصة تختلف عن عدالة القضاء على استقلالية التحكيم، استدلال غير مقبول؛ لأنه لا يمكن التوصل لطبيعة التحكيم من الأثر الذي ينتجه مع ترك أصله، وذات النقد يوجه للقول بأن التحكيم يختلف عن القضاء كدليل على استقلالية التحكيم.
الوجه الخامس: أن اعتبار استقلالية الإجراءات في عمل التحكيم دليلا على استقلالية التحكيم غير مقبول، لأن استقلالية الإجراءات لا تنبئ بطبيعة العمل، بل العكس فإن طبيعة العمل هي التي تحدد استقلاليته من عدمها.
الوجه السادس: أن اختلاف التنظيم القانوني للقضاء عن التنظيم القانوني للتحكيم، واختلاف الوضع القانوني للقضاة عن الوضع القانوني لهيئة التحكيم، لا يدلان على اختلاف التحكيم عن القضاء، بل يدلان على أن الأول قضاء عام والثاني قضاء خاص . وقد أنبنى على هذا الاختلاف حول طبيعة التحكيم خلاف آخر حول طبيعة أثره؛ وهو الحكم التحكيمي؛ فمن فقهاء القانون من ذهب إلى أن له الطبيعة العقدية؛ لأنه نتيجة اتفاق بين أطراف النزاع .
وقد افرد المنظم السعودي نظاما خاصا بالتحكيم، وحدد له كل الإجراءات الكفيلة بأن تجعله حكما ملزما، ومنح المحكم سلطات قوية يمارس فيها تحقيقه في الدعوى، ومن ثم إصدار حكمه فيها، بل وانزل حكم المحكم منزلة الحكم القضائي من الدرجة الأولى في قضاء الدولة، فعقد التحكيم لا يكفي وحده ليكون أساسا لوظيفة المحكم وسلطاته، كما أن حكم المحكم يخضع لقواعد موضوعية وشكلية خاصة، وغالبا ما تكون هي ذات القواعد والإجراءات التي يصدر بها الحكم القضائي، فالمحكم يقوم بمهمة ذات طابع شخصي بحت، فهو لا يستطيع أن يشرك غيره معه في المداولة، أو اخذ الرأي، أما في حالة تعدد المحكمين، فيجري في حكم التحكيم ما يجري في الحكم القضائي من المداولة، واخذ الرأي ، ويجب أن يصدر الحكم بأغلبية الآراء، وتجـب كتابته، وتوقيعـه مـن أغلبية المحكمين، وإلا صـار حكم التحكيم بـاطلا وبتحليل ما ورد في نظام التحكيم السعودي نستنتج أن المنظم السعودي أضفى على التحكيم الطبيعة القضائية كطبيعة غالبة .
- نص نظام التحكيم السعودي على أن دعوى بطلان الحكم التحكيمي تنظر لدى المحكمة المختصة، وحظر عليها فحص وقائع وموضوع النزاع ، وعليه فقد اكسب الحكم التحكيمي بهذا الحظر الطبيعة القضائية في أقوى صورها.
- نص نظام التحكيم السعودي على أنه يشترط للمحكم الحياد والاستقلال كالقاضي .
من خلال تحليل النظريات التي تناولت طبيعة التحكيم نرى أن جميع النظريات تدور
حول محورين أساسين هما:
المحور الأول: اعتماد بعض النظريات على فكرة منشأ التحكيم وأصله في تحديد طبيعة التحكيم.
المحور الثاني: اعتماد بعض النظريات على الفروق القانونية والإجرائية والغائية والوظيفية في كل من التحكيم والقضاء .
ومن بين هذه النظريات نؤيد نظرية الطبيعة القضائية للتحكيم وحكمه، وأنها الأقرب للصواب والواقع، إذ هي الطبيعة الغالبة، وذلك لما يأتي:
أولا: يمكن الجمع بين القول إن القضاء منشاه القانون وإرادة الدولة متمثلة في الولاية العامة، وأن أطراف النزاع لا إرادة لهم في اللجوء للقضاء، والقول إن التحكيم منشأه إرادة الأطراف وانه- أي التحكيم- يستمد سلطته منها، يجب ألا يؤخذ هذا التصور على إطلاقه، لأن الولاية العامة تشمل أي ولاية خاصة، ولا يمكن أن يتصور وجود ولاية خاصة دون مباركة الدولة صاحبة الولاية العامة وإذنها، كما أن وجود الفرد في منظومة المجتمع وعلى اقليم معين بؤثر ويتأثر، إنما يفوض الولاية العامة للقيام بحمايته، وحماية حقوقه، وحفظ مركزه القانوني، والعيش في سلام بين أفراد الجماعة، بالشكل الذي تراه وتقرره في صورة تشريع تصدره تحت مسمى نظام التحكيم.
ثانيا: أن إرادة أطراف النزاع لها الدور الأكبر في تحريك إرادة الولاية العامة وخاصة
القضاء، وعليه تظل ولاية القضاء ساكنة جامدة إلى أن يعبر أطراف النزاع عن إرادتهم برفع دعوى يطلب فيها اللجوء للقضاء، وبدون تقديم طلب من أحد أطراف النزاع لا تتحرك الإجراءات، فهي لا تتحرك من تلقاء ذاتها، ولذا كان من مبادئ قانون الإجراءات أن أي إجراء يتم خلافا لذلك، لا يعد باطلا فحسب، بل قد يعد معدوما، وهذا ما يحدث في التحكيم.
ثالثا: أما القول بأن القضاء يحقق العدالة المجردة، وأن هدف التحكيم تحقيق وظيفة اجتماعية اقتصادية، فكذلك لا يمكن التسليم به على إطلاقه، بل يمكن الجمع بينهما، لأن العدالة المجردة أي وظيفة القضاء لا يمكن عزلها عن أهداف المجتمع، ولا يمكن القول إنها ليست وظيفة اجتماعية، بل هي من أهم الوظائف الاجتماعية، ومن أوائل الوظائف الاجتماعية التي بادرت المجتمعات لتنظيمها تجنبا للصراعات التي كانت تدور بين أفراد المجتمع، بسبب تضارب المصالح في القرون السابقة، وقد جنت البشرية ثمار تنظيم القضاء في إصلاح أحوال الناس، واستقرار الحقوق والمراكز القانونية، وتوفير الأمن والاستقرار والسلام.
رابعا: أما القول باختلاف القانون الموضوعي والإجرائي لكل من القضاء والتحكيم، فترى أن القضاء والتحكيم يتفقان في القواعد القانونية والإجرائية الأساسية، وإنما الاختلاف في الفروع التي يتطلبها موضوع النزاع وطبيعته، وتتغير بتغيره، وهذا يشبه تعدد القوانين والمحاكم حسب الاختصاص من مدني وإداري وجنائي وتجاري وأحوال شخصية وغيرها، لذلك فإن اختلاف القانون الموضوعي والقانون الإجرائي في التحكيم عنه في القضاء لا يقدح في طبيعة التحكيم القضائية، إنما يدل على خصوصية التحكيم كنوع من أنواع القضاء.