في البداية يمكننا أن نقول أن نظام التحكيم الدولي هـو نـظـام لفـض المنازعات وهو ليس بجديد بالطبع فهو نظام قديم الأزل استعان به الأفراد لفض وحل المنازعات التي بينهم وكان ذلك كله قبل ظهور الدولة وتنظيمها لسلطاتها ومنه السلطة القضائية فنظام التحكيم الدولي وعلى حد قول البعض "قديم قدم الزمان ويعد التحكيم الصورة الأولى لتسوية المنازعات بين الأفراد ويتضح لنا أن التحكيم في المجتمعات البدائية كان هو النظام القضائي الأوحد لهذه المجتمعات. إذن فمن الواضح أن هذا النظام ليس بجديدا ولا مستحدثا وهو نظام له تاريخ طويل في القيام أو في الاستعانة به في حل المنازعات التي تنشأ بين الأفراد عن طريقه وبعد اختيار حكمه للقيام بهذه المهمة.
ولمعرفة الفرق بين التحكيم وقضاء الدولة علينا أن نعلم أولا ما هي الطبيعة القانونيـة لنظام التحكيم الذي تعرض له الفقه واختلف فيه هل هو نظام تعاقدي أم أنه نظام قضائي أم أنه نظام مستقل.
ونعرض في عجاله إلى هذه الاتجاهات والآراء لكي نصل إلى ماهية هذا النظام أولاً وكي نستطيع أن نفرق بينه وبين النظام القضائي الداخلي للدولة.
فذهب فريق من الفقه إلى القول بالطابع الإرادي والتعاقدي لنظام التحكيم الدولي.
فطالما أن نظام التحكيم يقوم على أساس إرادة الأطراف فإن له طابع تعاقدي، فالأطراف باتفاقهم على التحكيم يتخلون عن بعض الضمانات القانونية والإجرائية التي يحققها النظام القضائي وذلك بهدف تحقيق مبادئ العدالة والعـادات التجاريـة وإتباع إجـراءات سريعة وأقـل رسـميـة مـن إجـراءات المحاكم. فيذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن هذا النظام يجد أساسه في إرادة الخصوم واتفاقهم على حسم النزاع من خلاله إذن فإن قوة هذا النظام هي في إرادة الخصوم وليست فيما قام به المحكم من حل لهذا النزاع أو بمعنى أدق فيما خرج من رحم هذا الاتفاق الأولى من حكم أصدره محكم. ووفقا لذلك إن إرادة الخصوم هي التي تقوم بكل شيء في العملية التحكيمية فهم يختارون القانون الذي يحكم النزاع إجرائيا وموضوعيا بل هم من يختارون المحكمون أنفسهم الذين يقومون بالفصل في النزاع. ومن ذلك فإن إرادة الخصوم هي التي تضفي الطابع التعاقدي على نظام التحكيم، على حد ما ذهب إليه أنصار هذا الاتجاه.
توثيق هذا الكاتب
ونرى أن هذا الاتجاه قد أخذ المعيار الشكلي في حكمه على الأمور وتناسى كافة الأمور الموضوعية التي يحتوي عليها نظام التحكيم. نسى أنصار هذا الاتجاه أن إرادة أطراف النزاع تقف عند حد معين ألا وهو تشكيل هيئة التحكيم ولكن عندما يبدأ العمل وتشرع هيئة التحكيم في ممارسة عملها إلى أن تصل إلى الهدف المبتغى وهو صدور حكم منهي للخصومة بالطبع في حين ذلك كله لا يكون للأطراف إرادة تذكر ولا يستطيعون التدخل في عمل هيئة التحكيم. فأين إرادة الأطراف إذن.؟
ويمكننا أن نقول أيضا أن الأمر قد اختلط على أنصار هذا الرأي ووقعوا في خلط بين دور إرادة الأطراف في إطلاق (شرارة التحكيم) البدء في التحكيم وتشكيل هيئة تحكيمية تسعى في الوصول إلى الحقيقة والحل الأمثل في نزاع قائم بين طرفين. وبين ممارسة هذه الهيئة التحكيمية لعملها بعد تشكيلها فالتشكيل في حد ذاته مستمد من إرادة الأطراف ولكن بعد التشكيل يأتي دور العمل الذي لايكون للأطراف إرادة فيه.
أيضا تناسى أنصار هذا الاتجاه من وجهة نظرنا أن الدولة وهي المنظم للتشريعات والأنظمة الداخلية والذي منها نظام القضاء الوطني الداخلي قد أقرت ونظمت نظام التحكيم لكي يتاح لمن يريد الاحتكام إليه أن يحتكم إليه تحت مظلة وتنظيم الدولة، فمشروعية هذا النظام المبتدأة تستمد من تنظيم الدولة له مثله في ذلك مثل النظام القضائي للدولة. ومن ثم وما دامت الدولة كانت قد نظمته فإنها تكون قد اعترفت بأحكامه اعترافا كاملاً بعد وضع رقابة عليها وذلك عن طريق المحاكم العادية التي يتواجد بها موظفون عموميين معني بهم ومنوط بهم تحقيق العدالة بل وأيضا التأكد من تحقيقها وهذه الرقابة ليست خاصة بأحكام التحكيم وحدها ولكن أيضا أحكام المحاكم العادية وضعت تحت رقابة من قبل الدولة أيضا وذلك عن طريق محكمة النقض ورقابة على أحكام المحاكم الأدنى أو الأقل في الدرجة مثل المحاكم الجزئية أو الاستئنافية.
إذن فإن إرادة الأطراف هنا تكون قد اقتصرت فقط على الاتجاه إلى الإقرار والعمل بنظام أقرته الدولة وشرعته ونظمته للعمل به حينما يرغب في ذلك أي مواطن .
وقد ذهب أحد الفقهاء إلى أنه من الصعب النظر إلى التحكيم كعقد، فالعقد في حد ذاته لا يحل النزاع. وإن كان لا ينفي وجود اتفاق بين الأطراف على حل النزاع بالتحكيم فيجب عدم الخلط بین هذا الاتفاق وبين التحكيم ككل حيث أنه لو أمكن اعتبار التحكيم يتصف بالصفة التعاقدية فلا يمكن من هذه الصفة إلى حكم التحكيم الصادر لحل النزاع، وإنه إذا كان التحكيم لا يكون إلا باتفاق فيما بين أطرافه فإن هذا الأمر لا يعني على الإطلاق أن التحكيم مجرد عقد أو نظام تعاقدي.
وعلى ذلك فإن اختزال نظام التحكيم التجاري في إرادة الأطراف فقط هو مصادرة على الواقع ولا يذهب إلى ما ذهبت إليه إرادة الدولة نفسها من غاية ابتغتها في هذا النظام.
ولما كان ما تقدم وكان ما كان من انتقادات لهذا الاتجاه ظهر اتجاه آخر يقول بالطبيعة القضائية لنظام التحكيم.
ومؤدى هذا الاتجاه الذي ذهب إليه بعض الفقهاء أن التحكيم شأنه شأن قضاء الدولة وهو نظام قضائي وأن المحكم قاض مثله في ذلك مثل قاضي الدولة وأن الحكم الذي يصدر من المحكم هو حكم قضائي مماثل للحكم الذي يصدر من محاكم الدولة وقضائها.
أما عن موقف القضاء فإن القضاء المصري متمثلاً في محكمة النقض المصرية قد أقر بالطبيعة القضائية لمهمة المحكم إلا أن محكمة النقض الفرنسية رغم أنها هجرت نظرية الطبيعة العقدية إلا أنها لم تقر بالطبيعة القضائية مرة واحدة بل تحولت نظرتها لمهمة المحكم من أنه قاض مستقل التسليم بأنه قاض استثنائي.
وقد جاءت محكمة النقض الفرنسية بذلك من خلال أحكامها حيث قالت "إن التحكيم قضاء استثنائي يملك فيه المحكم سلطة ذاتية مستقلة للفصل في المنازعات التي يطرحها عليه الخصوم وقد أقرت بالطبيعة القضائية لمهمة المحكم حيث قررت أن حكم التحكيم هو محل قاض سماه الخصوم وقد تأثر هذا القضاء فيما تلاه من أحكام حيث قالت في حكم لاحق أن المفهوم الحقيقي لعملية التحكيم هو اتجاه إرادة الأطراف إلى منح المحكم سلطة قضائية.
وكانت تلك الأحكام هي المعبرة عن موقف القضاء المصري والفرنسي من مسألة قضائية نظام التحكيم ... إلا أن هذه النظرية لم تسلم كذلك مثل سابقتها من النقد.
ثوثيق هذا الكاتب
رأينا الخاص:
من المقرر كما تقدم أن نظام التحكيم هو نظام سابق في ظهوره على قضاء الدولة ولما كان هذا النظام تاريخيا هو النظام الأوحد الذي يعتمد عليه الأفراد في حل منازعاتهم فهم بذلك يعترفون ولو ضمنيا بأنه نظام قضائي ولكن ظهور الدولة وقيامها بتنظيم سلطاتها وبالأخص تنظيم السلطة القضائية بدأ يتراجع تدريجيا العمل بنظام التحكيم كنظام لفض المنازعات بين الأفراد.
ولكن يثور التساؤل هنا هل تراجع نظام التحكيم منذ ذلك الحين هو لعيب في هذا النظام أم هو محاولة لاحتكار من الدولة للسلطات، ونعتقد أنه وبحق احتكار من جانب الدولة للسلطات في ذلك الحين ومن أهمها السلطة القضائية ولسنا هنا محل بحث في نوايا مؤسسي الدول عن سبب احتكارهم لها ولكن الذي يعنينا في هذا المقام أن نظام التحكيم كان هو النظام الأوحد الذي يعتد به كنظام قضائي حتى ذلك الحين. وتجدر الإشارة هنا إلي أن هذا النظـام لـم يختفي تماما بل ظل متواجدا ولو بصورة بسيطة وعلي استحياء. ولكن بعد تطور مجالات التجارة الدولية والداخلية. وبعد تدهور الأنظمة القضائية خاصة في بعض دول العالم الثالث. وظهور مثالبها التي أضرت بالدولة نفسها قبل أن تضر بالمتقاضين ومن هذه المثالب مثلاً بل وأساسها هو قلة عدد القضاة مع الازدياد الهائل في عدد السكان مما ساهم في زيادة عدد القضايا المعروضة أمام هذه القله من القضاة مما أدي إلي التاخر في الفصل في القضايا. وأيضا تخلف التشريعات في مثل هذه الدول النامية عن مثيلاتها في الدول المتحضرة وغير ذلك من مثالب كثيرة استحوذت علي نصيب الأسد في هذه الأنظمة القضائية الداخلية كل ذلك جعل الكثير من المتقاضين خاصة المستثمرين ورجال التجارة خاصة التجارة الدولية يبحثون عن حلول أخرى وبديلـة لكـي يلجأوا إليها عند نشوب أية منازعات بينهم كي لا يدخلون في متاهات الأنظمة القضائية الوطنية التي قد يخرجون منها بدون أية مكاسب بل يتكبدون الكثير من الخسائر المادية والأدبيـة ومنها الوقت والجهد والنفقات...فوجـد هـؤلاء ضالتهم في نظام التحكيم وبدأ العمل به كنظام بديل لحل المنازعات ليست الدولية فقط بل الداخلية منها أيضا.
كل ذلك جعل الكثير والكثير من الدول تراجع سياستها تجاه سلطتها القضائيـة وتضيف بل وتقنن ذلك النظام بقوانين تعترف به وتنظم العمل بموجبه وتتيح لأي مواطن اختياره حين اقتضت مصلحته لذلك بل وتعترف بأحكامه وتعطيها حجية الأمر المقضى به دون تدخل من جانبها إلا بالتصديق فقط.
نعم فالدولة لا تستطيع أن تلغي حكم هيئة التحكيم إلا إذا طعن عليه فقط مثله في ذلك مثل أي حكم وبشرط أن يلاقي هذا الطعن قبولاً من المحكمة صاحبه الحق في ذلك وذلك على حسب النظام القضائي الداخلي الخاص بكل دولة على حدة.
وعند النظر إلى ذلك فسنجد أن هذا النظام هو نظام قننته الدولة للأفراد لكي يقوموا بحل منازعاتهم عن طريقه عندما يقومون باختياره وليس باختيار طريق القضاء العادي إذا فنحن أمام نظام شرعته الدولة للأفراد فهو متساو فى ذلك مع القضاء العادي فهذا أجازته الدولة وذاك أيضا كذلك.
وهذا النظام يتم من خلاله حل وحسم منازعات الأفراد والمواطنين والآخر أيضا كذلك.
أما وعن المحكمين في نظام التحكيم والقضاة في نظام القضاء فذهبت بعض الدول إلى إعداد قوائم بأسماء المحكمين عن طريق الوزارات المعنية بها وهذه الوزارات هي المنوط بها تحقيق العدالة في المجتمع وهي التي تشرف على تعيين القضاة وهي أيضا التي تراقب عمليـة قيـد أسماء المحكمين بقوائمها وصلاحيتهم لكي يصبحوا محكمين ويتولون الفصل في المنازعات.
وهذا بخلاف مراكز التحكيم التي بدأت في الانتشار بصورة كبيرة نظرا لما لهذا النظام من أهمية في عصرنا هذا وتقوم مثل هذه المراكز بإعداد قوائم بأسماء المحكمين ليختار الأطراف من بينها المحكمين الذين سوف يقومون بحل النزاع.
وعلى ذلك يصبح ويضحى نظام التحكيم هو نظام قضائی مستقل له خصائصـه التـي تميـزه على النظام القضائي التقليدي والتي جذبت رجالات التجارة الدولية من مستثمرين وأصحاب رؤوس أموال وقانونيون يفضلون العمل به عن غيره من الأنظمة القضائية الدولية الداخلية للدول هروبا من مسالبها التي أوضحناها سلفا.