يعدّ مبدأ الاختصاص بالاختصاص (competence of competence) مبدأ جديداً في الفقه، لأنّ القضاء الوطني لم يتعود التنازل عن سلطاته بشكل عام ولا عن ولايته لحسم مسألة بت الاختصاص، لأي جهة. كما درج القضاء على إحالة النزاع إليه في كل مرة يثار فيها الدفع بعدم الاختصاص أمام هيئة التحكيم، لأنّ القضاء هو صاحب الولاية العامة.
وقد ثار جدل كبير بين الفقهاء قبل تقرير المبدأ، إذ رأى البعض أنّ التحكيم يشكِّل كياناً مكوّناً من ثلاث إرادات:
1- إرادة المشرِّع.
2- إرادة الأطراف.
3- إرادة المحكّمين.
وأنه نظراً الى تشابك هذه الإرادات فإنّ البعض يعترض على اختصاص المحكم في حالة لابد فيها من مواجهة الدفع ببطلان اتفاق التحكيم وعدم قابلية النزاع للتحكيم ، ويرى البعض الآخر أنه نظراً الى الطبيعة العقدية لمهمة المحكم فإنّ الخصوم لا يملكون منح هيئة التحكيم سلطة بت اختصاصها، فضلاً عن تضارب مصالح الأطراف في هذا الشأن. وهذا كله يثير صعوبة في الاتفاق على منح المحكم أهلية النظر في اختصاصه .
ولذلك كان رأي محكمة النقض الفرنسية بداية، أنّ القضاء الوطني هو الجهة صاحبة الولاية، الأمر الذي كان يستدعي وقف الإجراءات أمام الهيئة في كل مرة يثار الدفع بعدم الاختصاص حتى يفصل القضاء فيه. وبطبيعة الحال ينتج من هذا الرأي، أنّ البطلان اللاحق بالعقد الأصلي، يمتد إلى اتفاق التحكيم، كما أنّ إنكار وجود هذا الاتفاق يستدعي إنكار سلطة المحكم كلياً وحجب سلطته عن النظر في النزاع بمجرد الدفع بعدم الاختصاص.
وقد وجّهت سهام نقدية كثيرة الى هذا التوجه، إلى أن صدر قرار عن محكمة النقض الفرنسية في 29/10/1960، أكد أنّ التحكيم هو قضاء استثنائي يملك فيه المحكم سلطة ذاتية مستقلة للفصل في المنازعات التي تقوم بين الخصوم، وأنّ حكم المحكم إنما هو صادر عن قاضٍ أو هيئة مسمّاة من الخصوم. والمفهوم الحقيقي لعملية التحكيم هو اتجاه إرادة الأطراف إلى منح المحكم سلطة قضائية.
كما صدر اجتهاد لمحكمة النقض المصرية بالتأسيس لاختصاص الهيئة حيث ورد فيه ما يأتي:
"إنّ اختصاص جهة التحكيم بنظر النزاع، وإن كان يرتكز أساساً إلى حكم القانون الذي أجاز سلب اختصاص جهات القضاء، إلاّ أنه يبنى مباشرة في كل حالة على حدة، على اتفاق الأطراف" .
كما أنّ طعوناً عدة رفعت إلى المحكمة الدستورية العليا في مصر بداعي عدم دستورية نص المادة (22/1) من قانون التحكيم المصري، فرفضت جميعاً .
كان سردنا لهذا الجدل الفقهي سبيلاً للانتهاء إلى تقرير اختصاص هيئة التحكيم النظر في اختصاصها.
وبصدور التشريعات والقواعد التحكيمية الجديدة ورغبة المشرِّع في إعطاء هيئات التحكيم سلطات تبرّرها أسباب قيام التحكيم، وانتشار هذا الأسلوب في حسم المنازعات بحكم التطورات الاقتصادية والتقنية الدولية، فقد كان من الطبيعي منح المحكم ولاية النظر في اختصاصه في نظر النزاع قبل النظر في حقيقة النزاع
ويعتبر هذا منسجماً مع ما أقرّته محكمة العدل الدولية لجهة أنّ من يملك سلطة قضائية له الحق في أن يفصل بنفسه في اختصاصه كمسألة أولية .
والهدف من إقرار هذا المبدأ هو تمكين هيئات التحكيم من الفصل في النزاع دون إعاقة بسبب مباشرة دعوى أمام القضاء تتعلّق بوجود اتفاق التحكيم أو صحته أو سقوطه أو بطلانه.
وعلى المحكم تقيداً بهذا المبدأ أن يفصل أولاً في مسألة اختصاصه مع خضوعه للرقابة اللاحقة للقضاء المختص.
انطلاقاً من ذلك فقد كان نص المادة 16 من القانون النموذج (Uncitral) واضحاً في منحه الهيئة الحق في بت اختصاصها بما في ذلك بت أي اعتراضات تتعلّق بوجود اتفاق التحكيم أو بصحته. ولهذا الغرض ينظر إلى شرط التحكيم الذي يشكّل جزءاً من عقد كما لو كان اتفاقاً مستقلاً عن شروط العقد الأخرى. وأي قرار يصدر عن هيئة التحكيم ببطلان العقد لا يترتّب عليه بحكم القانون بطلان شرط التحكيم.
كما أنّ المادة (6/4) من قواعد التحكيم والتسوية الودية الصادرة عن غرفة التجارة الدولية (ICC) والسارية اعتباراً من 1/1/2012، نصّت على أنّ (هيئة التحكيم) هي التي تقرِّر ما إذا كان من الممكن الاستمرار في التحكيم وإلى أي مدى. ويستمر التحكيم إذا اقتنعت الهيئة من ظاهر الأوراق باحتمال وجود اتفاق تحكيم وفقاً للقواعد في حدود هذا الاقتناع.
كما أنّ المادة (6/9) من ذات القواعد تنص أنه لا يترتّب على الادعاء بانعدام العقد أو بطلانه، عدم اختصاص الهيئة بشرط أن تقرِّر الهيئة صحة الاتفاق. وتظل هيئة التحكيم مختصة بتحديد حقوق الأطراف والفصل في طلباتهم ودفوعهم حتى في الحالة التي يكون العقد ذاته منعدماً أو باطلاً.
وبذات التوجه مع توسّع تعرضت المادة 5/3 من معاهدة جنيف لعام 1961 لمسألة الاختصاص حين نصّت على ما يأتي:
"لا يلتزم المحكم الذي ينكر عليه الأطراف الاختصاص، أن يتخلّى عن نظر المنازعة، وله أن يفصل في مسألة اختصاصه وفي وجود وصحة اتفاق التحكيم أو في وجود وصحة العقد الذي يُعدّ هذا الاتفاق جزءاً منه، وذلك دون إخلال بالرقابة القضائية المنصوص عليها في قانون القاضي".
ومن هذه الروح جاء نص المادة (21) من قانون التحكيم السوري المطابق، بحد كبير، لنص المادة (22) من قانون التحكيم المصري رقم 27 لعام 1994، وكلاهما مستقى من الـ (Uncitral)، وقد نصّت المادة (21) سوري على ما يأتي:
"1- تفصل هيئة التحكيم في الدفوع المتعلّقة بعدم اختصاصها بما في ذلك الدفوع المتعلّقة بعدم وجود اتفاق تحكيم أو سقوطه أو بطلانه أو بعدم شموله موضوع النزاع. ويجب تقديم هذه الدفوع قبل أي دفع آخر وإلاّ سقط الحق فيها.
2- يجب تقديم الدفع المتعلّق بعدم شمول اتفاق التحكيم ما يثيره الطرف الآخر من مسائل أثناء نظر النزاع فوراً، وإلاّ سقط الحق فيه".
ومن النص يتبيّن أنه يتّجه إلى تقسيم الدفوع إلى فئتين هما:
1- الدفع المتعلّق بعدم اختصاص الهيئة.
2- الدفع المتعلّق بعدم شمول الاتفاق ما يثيره الطرف الآخر من مسائل أثناء نظر النزاع.
فإذا لاحظنا اعتماد معظم التشريعات والقواعد اختصاص الهيئة ببت اختصاصها، إلاّ أنّ الحدود بين اختصاص الهيئة والمحكمة لم تزل موضوع حوار، إلى جانب الجدل الدائر حول الأطر التي تغلِّف كلاً منهما. فإلى جانب ولاية الهيئة ببت اختصاصها، فإنّ للمحكمة دوراً في حال طلب تسمية المحكم، أو إبطال اتفاق التحكيم، أو إبطال الحكم التحكيمي.
إنّ قانون التحكيم السوري عدّد في المادة (50) منه المعادلة للمادة (53) مصري الحالات التي يمكن أن تؤدي إلى إبطال الحكم التحكيمي، من خلال دعوى بطلان تقام بشكل مبتدئ لأنّ الأحكام تصدر بالصورة المبرمة وفقاً للمادة (49) من القانون.
وبالرغم من تعداد المادة (50) لثماني حالات للطعن بالبطلان، إلاّ أنّ الفقرتين (أ، ب) من المادة فقط تختصان بدعوى البطلان المتعلّقة باتفاق التحكيم.
إنّ موضوع بحثنا يتركز حول النقطتين الآتيتين:
1- هل يجوز مباشرة دعوى بطلان اتفاق التحكيم أمام القضاء قبل مباشرة إجراءات التحكيم؟
2- ما هي حدود الاختصاص بين هيئة التحكيم والقضاء ولأي مدى يمكن لكل من الجهتين مباشرة هذا الاختصاص؟
فعن السؤال الأول: يمكن القول إنه ليس هناك ما يمنع من مباشرة الدعوى أمام المحاكم في حال قيام منازعة تتعلّق باتفاق التحكيم وقبل إحالة النزاع إلى التحكيم وبدء الهيئة بالإجراءات. ولاسيما أنّ القول بغير ذلك يؤدي إلى فراغ بالاختصاص ومخالفة لحق الالتجاء إلى القضاء ويمكن مباشرة هذه الدعوى قبل بدء خصومة التحكيم بصفة وقائية .
ويشترط د. والي في هذه الحالة قيام المصلحة بالنسبة لمن يباشر هذه الدعوى، لكنه يرى أنّ هذه المصلحة قائمة دائماً بالنسبة الى مشارطة التحكيم. وبطبيعة الحال لا يؤدي رفع دعوى البطلان أمام الهيئة إلى منعها من النظر في مسألة صحة أو بطلان الاتفاق لتقرير اختصاصها. ونحن من هذا الرأي.
أما إذا تم اللجوء إلى القضاء في منازعة تتعلّق باتفاق التحكيم بعد بدء الهيئة إجراءات التحكيم، فإنّ انقساماً قام بين الفقهاء بين رأي يرى أنه إعمالاً لمبدأ الاختصاص بالاختصاص، فإنّ الأمر برمّته يغدو من اختصاص الهيئة ويمنع القضاء من النظر في المنازعة .
بينما يرى فريق آخر أنّ القانون لم يمنح هيئة التحكيم سلطة الفصل في المنازعات المتعلّقة باتفاق التحكيم، واختصاص الهيئة مقصور على الفصل في الدفع بعدم الاختصاص تحديداً. وهي في سبيل ذلك تدقّق في الاتفاق من حيث الظاهر فقط من أجل الفصل في مسألة اختصاصها. أما الفصل في وجود أو صحة اتفاق التحكيم فهو من اختصاص محاكم الدولة. ولعلَ الدكتور والي من أنصار هذا الاتجاه مستنداً في المرجع المذكور إلى الفقيه (فوشار) مشيراً بالإضافة لذلك إلى القانون الانجليزي والبلجيكي والهولندي والسويسري.
أما الإجابة عن السؤال الثاني من البحث المتعلّق بحدود الاختصاص بين هيئة التحكيم والقضاء والمتعلّق عضوياً بالسؤال الأول، فقد قامت مذاهب يُعدّ استعراضها من أهم ما يتغياه البحث لتبيان الصورة التي تظهر تباين آراء الفقهاء في المسألة.
ففي حين ترى د. سامية راشد، أنه يتعيّن على القضاء الوطني أن يمتنع عن نظر المنازعات التي تقع في نطاق أحد اتفاقيات التحكيم، إذا ما بادر أحد الأطراف وتمسّك بوجود الاتفاق ليحول دون استمرار القضاء الوطني في نظر النزاع، وتنعقد سلطة التصدي لصحة اتفاق التحكيم للمحكم وحده أثناء نظر التحكيم، ولا يتصدى له القضاء إلاّ في مرحلة التنفيذ ، وتضيف أنه يجب على القضاء تقرير عدم اختصاصه إعمالاً لاتفاقية نيويورك بضرورة احترام التعهدات الدولية وعدم تشجيع التهرب من الاتفاقات الصحيحة على حساب سمعة القضاء.
بينما يرى البعض، بخلاف ذلك، أنّ اتفاقية نيويورك علّقت الحكم بعدم الاختصاص من قبل القضاء الوطني في الدول المنظّمة للاتفاقية على التحقّق من صحة اتفاق التحكيم، إذ لا معنى لاستمرار إجراءات محكوم عليها بالإبطال .
يؤيد ذلك ما أوردته المادة (10) من قانون التحكيم السوري التي تتحدث عن واجبات المحكمة في تقرير عدم قبول الدعوى والمتطابقة مع نص المادة (13 مصري) حين أوردت في متنها: "... ما لم يتبيّن لها أنّ الاتفاق باطل أو ملغى أو عديم الأثر أو لا يمكن تنفيذه"، وهذا يعني بطبيعة الحال، حق المحكمة في التعرض لصحة اتفاق التحكيم لوضوح النص.
وتورد د. هدى عبد الرحمن بهذا الصدد قراراً لمحكمة النقض الإيطالية، صادراً في 14/2/1980، مؤدّاه رفض قبول الدعوى التي ترفع استقلالاً لتقدير صحة اتفاق التحكيم تمكيناً لهيئة التحكيم من حسمها، ثم تحديد الخطوة التالية في ضوء ما تقرِّره الهيئة.
أي أنها لم تنفِ اختصاص القضاء بشكل مطلق، وإنما أرجأته احتراماً لاختصاص هيئة التحكيم.
وبينما يرى البعض أنّ سلطة القضاء مقتصرة على التحقّق من عرض النزاع على المحكم، أمّا حين لا يكون النزاع قد بدأ عرضه بالفعل على المحكم، فإنّ رقابة القضاء على وجود وصحة اتفاق التحكيم، تكون شكلية وتنصبّ على ظاهر اتفاق التحكيم تاركاً للمحكم عند تولي النزاع، التحقّق ممّا إذا كان هذا الوجود الشكلي يخفي وراءه سبباً للبطلان.
ويبدو من الواضح، أنّ كلمة (الشكلية) تفتح باباً واسعاً يحسن توضيحه كي لا يكون مفتوحاً على مصراعيه.
وهناك رأي يدخل في صلب عبارة "ظاهر الأوراق"، ويرى أنّ هذا لا يعني أنّ القاضي يكتفي بتحسس ظاهر الأوراق ولا يدقِّق في الاتفاق، بل عليه أن يتحقّق من كل الإدعاءات المثارة، لأنّ القضية تتعلّق باختصاص القاضي نفسه، ويتوجب عليه بهذا الصدد التثبت من عدم اختصاصه، وإلاّ عرّض حكمه للبطلان، لأنّ حكم القاضي بعدم الاختصاص مع وجود سبب للبطلان يكبِّد الخصوم مشقة وتكاليف إضافية، ولاسيما إذا كانت هيئة التحكيم لم تتشكّل بعد. وتمارس المحكمة هذه السلطة حتى في دعوى تسمية محكم، لأنّه يتوجب عليها أن تتحقّق من صحة شرط التحكيم وكفايته لتشكيل الهيئة. وينتهي أصحاب هذا الرأي إلى أنه قد يكون ما قصده المشرّع من تعبير (ظاهر البطلان) عدم التدخل في التفصيلات الدقيقة حين منازعة الأطراف بموضوع النزاع ذاته أو بنطاق سلطة المحكم أو نوعية التحكيم الذي تم اختياره، طالما تم التثبت من صحة الاتفاق ، ويخلص أصحاب هذا الرأي إلى أنّ القضاء الوطني هو صاحب الولاية للنظر في صحة اتفاق التحكيم في حالتين هما:
- حين ترفع دعوى أصلية ببطلان اتفاق التحكيم.
- عند الردّ على الدفع ببطلان اتفاق التحكيم بمناسبة نظر النزاع الأصلي، لأنّ تحقّق القضاء من صحة الاتفاق هو فصل في اختصاص المحكمة ذاتها وهو يوفّر على الأطراف مشقّة تبنّي اتفاق سيبطل.
والواضح من هذا الرأي أنه يعطي القاضي فسحة من التقصّي والتحقيق، تتيح له التثبت تماماً من صحة الاتفاق.
وما دمنا في غمرة هذا النقاش فلا يمكننا تجاوز مذهب الدكتور والي الذي يلامس الموضوع بصورة أكثر دقة حين يرى أنّ هيئة التحكيم بالرغم من المبدأ المذكور (الاختصاص بالاختصاص) إلاّ أنه ليس لها سلطة الفصل في صحة الاتفاق أو بطلانه ما لم يتفق الأطراف على تخويلها هذه الصلاحية، لأنّ هذا من اختصاص محاكم الدولة. فإذا كان اتفاق التحكيم هو مصدر سلطة المحكم فإنّ من التناقض منحه سلطة الحكم في وجود أو صحة مصدر هذه السلطة .
كما يرى د. والي أنّ تفويض الهيئة بت الدفع بعدم اختصاصها لا يمنحها حق الفصل في وجود أو صحة اتفاق التحكيم (إلاّ بنص من المشرِّع)، ذلك لأنّ المنطق يقتضي أنّ الفصل في أمر الاختصاص يسبق الفصل في الموضوع، لذلك فإنها تبحث في وجود الاتفاق، وفي صحته من حيث الظاهر، بغية النظر في اختصاصها من عدمه فتقرِّر الاختصاص أو ردّ الدعوى لعدم الاختصاص.
أما إذا صدر حكم الهيئة بعدم اختصاصها، فإنّ هذا الحكم لا يحوز صيغة الحجية بالنسبة الى وجود الاتفاق أو صحته. ولا يمنع من العودة الى التمسك بالاتفاق أمام هيئة أخرى أو أمام المحكمة، ولكن إذا صدر حكم في الدعوى من المحكمة المختصة، فإنّ هذا الحكم ينال حجية كاملة أمام الهيئة ويقيّدها.
ويرى كل من د. الجمّال وعبد العال، أنّ ظاهر نص م/22/ من القانون يوحي أنه ليس للمدّعي الدفع ببطلان اتفاق التحكيم أو عدم شموله موضوع النزاع رداً على دفع المدّعى عليه بشرط التحكيم، وبالتالي فإنه ليس للمحكمة أن تفصل في صحة اتفاق التحكيم، إلاّ حين الطعن بحكم التحكيم، باعتبار أنّ المشرّع – كما يبدو من النص – أدخل هذه المسائل في ولاية الهيئة.
ومع ذلك يرى المؤلفان في ملخص لرأيهما التفريق بين حالتين:
- ففي حالة تشكيل الهيئة، على المحكمة الامتناع عن النظر في صحة اتفاق التحكيم.
- أما في حالة رفع الدعوى قبل تشكيل الهيئة فيكون على المحكمة النظر في الدفع ما لم يؤيِّد المدعى عليه دفعه بسبق الاتفاق على التحكيم بما يفيد اتخاذه ما يلزم لاتخاذ إجراءات التحكيم. كما أنّ الدفع أمام القضاء ببطلان اتفاق التحكيم أو عدم شموله موضوع النزاع لا يمنع المدعى عليه من تحريك إجراءات التحكيم.
وبرأينا أنّ هذا الرأي يترك الباب موارباً، بحيث يمنح المدعى عليه دائماً فرصة لبدء إجراءات التحكيم لإجهاض إمكانية اللجوء إلى القضاء.
أما الدكتور شرقاوي فيرى أنّ محاكم الدولة تظل هي الأصل في الفصل في المنازعات التي تقوم بين الأطراف، وأنه إذا ما رفعت دعوى أمام القضاء مع وجود اتفاق تحكيم فإنّ للقضاء قبل الحكم بعدم القبول، سلطة الفصل في وجود اتفاق التحكيم وصحته أو عدم سقوطه حتى إذا انتهى إلى نتيجة عدم وجود الاتفاق أو عدم صحته أو سقوطه فعليه تقرير ذلك والحكم في موضوع النزاع .
كما يخالف د. شرقاوي الرأي الذي يتبنّى أنّ لا ولاية للهيئة في أن تحكم بصحة أو بطلان اتفاق التحكيم، إلاّ إذا اتفق الأطراف على تخويلها هذه الولاية، لأنه يرى أنّ الهيئة لا يمكن لها الفصل في الدفع بعدم اختصاصها، إلاّ إذا قضت ولو ضمناً بوجود أو انعدام الاتفاق أو بسقوطه أو بقيامه، أو بصحته أو بطلانه ، ويستطرد د. شرقاوي بالقول إنّ مفهوم (م22) من القانون أعمّ من أن يشمل الدفوع المتعلّقة بصحة أو بطلان أو انعدام اتفاق التحكيم، بل يمتد إلى كافة الدفوع المتعلّقة بالاختصاص، ومن بينها الدفع بعدم صحة العقد الأصلي بدليل أنّ المشرّع أردف عبارة النظر في الدفع بعدم الاختصاص بعبارة (بما في ذلك) ممّا يدلّ أنّ صدر المادة أعمّ وأشمل، بحيث يمتد إلى أصل العقد المبرم بين الأطراف.
ومع ذلك فإننا نتحفظ عن الانضمام الى رأي الدكتور شرقاوي مع الاحترام الكبير، لجهة إنّ هيئة التحكيم لا تستطيع التدقيق والنظر في صحة العقد الأصلي إلاّ بتفويض صريح من الأطراف.
خلاصة الرأي:
يمكن تلخيص رأينا في المسألة، أنه في حال غياب نص صريح يحدِّد الحدود بدقة، فمن طبيعة الأشياء أن تتعدّد آراء الفقهاء في التفسير والتوجه وتنفتح مجالات للاجتهاد والعبارة موضوع الحوار في هذا البحث كانت:
" تفصل هيئة التحكيم في الدفوع المتعلّقة بعدم اختصاصها بما في ذلك الدفوع المتعلّقة بعدم وجود اتفاق تحكيم أو سقوطه أو بطلانه أو بعدم شموله موضوع النزاع...".
وكان محور النقاش:
- ما هي صلاحيات كل من هيئة التحكيم والقضاء؟
- وما هي حدود هذه الصلاحية بالنسبة الى كل منهما؟
ما يبدو من خلال استعراض الآراء أنّ هناك إجماعاً على اختصاص الهيئة ببت اختصاصها. وأنّ الهيئة تنظر في صحة وبطلان الاتفاق ظاهراً دون تعمّق، بحيث يقتصر التحري عن وجود وصحة الاتفاق للحدود التي يخدم فيها تقرير الهيئة لهذا الأمر مبدأ عدم الاختصاص. أمّا البحث في صحة الاتفاق وبطلانه وسقوطه وشموله لموضوع النزاع فيكون من اختصاص القضاء.
ولا نرى أنه يمكن للهيئة التطرق للعقد الأصلي والتحقيق في صحته أو بطلانه، إلاّ إذا كان هناك تفويض صريح من الأطراف بذلك.
كما نذهب مذهب الدكتور والي لجهة أنه من حق المدّعي بالبطلان أن يلجأ الى القضاء لتقرير وجود الاتفاق أو صحته أو بطلانه أو سقوطه لعدم شمول موضوع النزاع، وذلك قبل إحالة النزاع إلى التحكيم، وإلاّ كان هناك فراغ في الاختصاص لا يحسن وجوده، وتقييد لسلطة المتقاضين في اللجوء إلى القضاء.
كما أنّ للقضاء ولاية البحث في كل هذه المسائل في معرض النظر في دعوى البطلان.