التحكيم / مزايا التحكيم / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / اتفاق التحكيم وفقاً لقانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية رقم 27 لسنة 1994 / ايجابيات التحكيم
يمكن النظر الى أسباب انتشار التحكيم من زاوية الايجابيات التي يتحلى بهـا البـت بقضية تجارية معينة سواء على المستوى الداخلي أو الدولي علـى يـد مـحكـم اختاره اصحاب العلاقة أو وافق على اختياره وهو يمارس مهمة هي في كونها قضائية دون أن يكون منتميا الى السلك القضائي وينتهى دوره عند تقريره حكم التحكيم واليك مجملها:
( أ ) لعل أول ما يذكر في هذا الصدد هو ما يحققه التحكيم للخصوم من التجار ورجال الأعمـال والمستثمرين من سرية عزيزة عليهم. حقيقة أن العلانية "publicite التي تحيط القضاء العادي من ضمانات العدالة، ولكنها تتقلب وبالا عليهم اذا كـان مـن شـأنها اذاعة أسرار صناعية أو اتفاقات خاصة يحرصون على ابقائها سرا مكتوما. وكم من تاجر أو مستثمر يفضل خسارة دعواه على كشف أسرار تجارته أو صناعته والتي تمثل في نظره قيمة أعلى من قيمة الحق الذي يناضل مـن أجله في الدعوى. وعلى سبيل المثال: علاقة تجارية قديمة العهد بين مصنع المـاني لصنـع السيارات "المرسيدس" ووكيل لها بمصر هو شريف عفت يتولى تصريف منتجات المصنع في منطقة الشرق الأوسط، فاذا قرر المصنع لهذا الوكيل باتفاق سرى نسبة من الأرباح تربو علـى مـا يقرره لغيره من الوكلاء في المناطق المجاورة، ثم نشب نزاع بينهما بشأن احدى الصفقات، فمـن الواضح أن الخصمين يحرصان على الا يكون من شأن الخصومة اذاعة سر الاتفاق لكيـلا يخسر الوكيل المصري ما ينال من مزايا خاصة ولا يفتح المصنع على نفسه بابا لوكلاء السيارات في المناطق الأخرى بطلب الحصول على مزايا مماثلة. وليس طريق القضاء العادي هو الذي يحقق لهما ما يبغيان وانما هو طريق التحكيم.
هذه السرية التي صارت من معالم التحكيم هي التي تفسر قلة الاحصائيات المتعلقة به وندرة ما ينشر من قرارات المحكمين، الأمر الذي يعوق الدراسات النظرية بشأن التحكيم، كبحـث مدى انتشار وطبيعة المنازعات التي يلائمها وهيئات التحكيم التي يفضل التجار ورجال الأعمـال والمستثمرون الالتجاء اليها والأمكنة التي يؤثرون اجرائه فيها، كما أن الاحجام عن نشـر قـرارات المحكمين يحول دون تكوين قضـاء تحكيم يسهم في تطور قانون التجارة الدولية غير أن هذه الاعتبارات النظرية لا تعادل في نظر التجار والمستثمرين ما قد يترتب على التخلى عن السرية من أضرار عملية بالغة. ولا شك في أن التحكيم التجاري الدولي يفقد كثيرا من انصاره اذا تجـرد عن طبيعته السرية.
وجدير بالذكر أن قانون التحكيم المصري الجديد قد نص صراحة على تأكيد هذا المبدأ بنص (المادة ٢/٤٤) والتي تقضى بأنه لا يجوز نشر حكم التحكيم أو نشر اجزاء منه الا بموافقة طرفي التحكيم. ولا يوجد مقابل لهذا الحكم في القانون النموذجي الذي يعتبر علـى أيـة حـال، تطبيقا لما جرى عليه التعامل في التحكيم التجاري وخاصة الدولي.
(ب) يحقق التحكيم العدل لما يتوافر لدى المحكمين من خبرة وتخصص في النزاع محل التحكيم دون ما حاجة الى الاستعانة بخبراء المحاكم، فالأطراف في التحكيم يمكنهم أن يراعوا في اختيار المحكمين درجة التخصص المطلوبة في موضوع النزاع فهم أعضاء يختارهم الخصوم بأنفسهم ويثقون في عملهم وخبراتهم فعلى سبيل المثال: اذا كان النزاع خاصا بالتأمين يمكنهم أن يختاروا متخصصا في التأمين، وهكذا في مجال المقاولات أو البنوك أو النقل البحرى أو غير ذلك مـن أنواع التخصصات وهذه ميزة لا تتوافر في قضاء الدولة حيث ينظر القاضي كل أنواع المنازعات دون أن يكون متخصصا في موضوع النزاع.
فالقاضي في محاكم الدولة قد يكون فقيها بارعا ولكن قليل الخبرة بشئون التجارة الدولية فيتعذر عليه الفصل في المنازعات المتعلقة بها الا بالاستعانة بخبير يرشده ويكشف له ما استغلق من جوانب النزاع. فاذا اقتضى الأمر تعيين شبير واضاعة الوقت في انتظار تقريره وتعمـل مـا ينجم عن ذلك من نفقات، أفلا يكون من الخير أن يلجأ الخصوم الى الخبير مباشرة واقامته محكمـا ليفصل في النزاع في وقت أقصر ونفقات أني؟ خذ مثلا نزاع في بيع تجاري دولي حول مطابقة البيع للاتفاق يدعي البائع أنه مطابق، ويدعى المشتري أنه غير مطابق، فكيف يستطيع القاضي العادي مع سعة علمه بالقانون أن يفصل في مثل هذا النزاع اذا كان لا يعرف كيف يميز مثلا بيـن الجبن الفرنسي (محل الاتفاق) والجبن الألماني (السلعة التي مسلمت وننا لإدعاء المشترى)... وهكذا، من البديهي أن القاضي يضطر في مثل هذا الظرف الى الاستعانة بخبير متخصص.
(جـ) القضاة في المحاكم العادية مكبلون بالقانون، يلتزمون بمراعـاة نصوصه ومماشاة روحـة اذا اقتضى الأمر تفسيرها بحيث اذا جاءت أحكامهم على خلاف النص أو منافية لروحه، فهي أحكـام معيبة واجبة النقض ولو كانت تناسب ظروف الدعوى وتتجاهل مصلحة الخصوم. هذه العدالة الصماء وان كانت تحول دون الميل والهوى، قد تحدث في مجال التجارة الداخلية والدوليـة مـن الاضرار ما يحمل الخصوم على تفضيل التخلي عنها الى عدالة مرنة تراعى مصالحهم قبل الاعتبارات القانونية المحضة. خذ مثلا وكالة تجارية تعطيها منشاة فرنسية لصناعة العطـور لوكيل مصرى هي المهندسة نيفين عفت تقوم بتصريف منتجاتها في منطقة الشرق الأوسط مقابل نسبة معينة من الثمن. فاذا نشب نزاع بين الطرفين بمناسبة احدى الصفقات وكان الحق كلـه فـي جانب الوكيل، فانه يفضل مع ذلك بحساسيته التجارية أن ينال بعض الحقى مع الابقاء على العلاقة مع المصنع، على الحصول على الحق كاملا مع نقدانها، فماذا يجنيه كسب دعوى اذا كان مـن شأن ذلك اثارة موكله وحفزه على حرمانه من التوكيل مورد تجارته؟ اليس من الأوفـق لـه حـكـم يعطيه ويأخذ منه، يرضيه ويرضى خصمه فلا تكون الخصومة قطعية بينهما وانما سحابة تنقشـع اذا عالجها محكم صقلته التجربة في الشئون التجارية ليعالج الوضع بأسلوب تجاري يجـامل الطرفين ويبقى على ما بينهما من صلات عمل.
( د ) يحقق التحكيم العدالة السريعة وذلك عن طريق تبسيط اجراءات الفصـل في المنازعة محل التحكيم والحكم فيها بسرعة. كما تنص أيضا مراكز التحكيم الدولية على تحديد مدة قصيرة يجب خلالها الفصل في النزاع، وهذا لا يتوافر في الاجراءات المطولة المعتادة أمام المحاكم بشكل لا تتحمله طبيعة التجارة الداخلية والدولية.
كما أن حرية الاختيار في التحكيم تؤدى الى أن يبقى طرفي العقد أسياد الوقت اذا أنهما يعرفان أكثر من سواهما مدى الفترة الزمنية اللازمة للصفقة المعروضة على المحكمين فيحددان في ضوء ذلك مهلة اصدار الحكم، علما بأنه يعـود لهمـا وحدهمـا أن يحددا هذه المهلة، اذا بـدا لهما أن طلب مـد مـهـلـة الحكم هو مبرر، والا أدخلنا نظريا في اطار مسئولية المحكمين في حـال استنكفهم عن التقيد بالمهلة ورفض أصحاب العلاقة مدها.
وجدير بالذكر أن قانون التحكيم المصرى الجديد قد حسم هذه المسألة وذلك بمقتضى (المادة 45 ) منه.
(و) يتيح التحكيم للطرفين فرصة واسعة لتقديم وشرح وجهات نظرهم ومناقشتها مع المحكم ومـع الطرف الآخر وذلك لأن المحكم يقوم بنظر القضية على سبيل التفرغ لها في الجلسات التي يتفق عليها مع الأطراف. وللمحكم الحرية في اختيار مكان العمل وزمانه نهارا أو ليلا وأثنـاء العطلات الرسمية، بينما لانتاح هذه الفرصة أمام القاضي العادي حيث ينظر القاضي عشرات من القضايا ويعتمد على المذكرات أكثر من اعتماده على الاستماع الى الطرفين كما أن القاضي ملزم بالعمل في الأماكن والأوقات الرسمية للدولة.
(ز) تثير المنازعات في مجـال التجـارة الدوليـة صعوبات قانونيـة لا توجـد فـي شـأنها حلـول مستقرة فتشيع القلق في التعامل التجاري وتعرقله. وفي مقدمة هذه الصعوبات تعيين القانون الواجب التطبيق على النزاع والمحكمة المختصة بنظره. ففيما عدا الأحوال القليلة التي توجد فيها اتفاقيات دولية تبين الاختصاص والقانون الواجب التطبيق تضع قواعد موحـدة تزول معها هذا التعيين فان قواعد الاسناد في التشريعات الوطنية تتباين فيها تباينا يتعذر معه على أطراف العلاقة القانونية الاطمئنان الى مصير الحقوق النابعة عنها. يضاف الى ذلك أن قواعد الاسناد تودى دائما الى تطبيق قانون وطني يكون غريبا على أحد الخصمين ان لم يكن غريبا عليهما معا، وقـد يـكـون صالحا للمعاملات الداخلية ولكنه لا يناسب المعاملات الدولية لأنه لم يعد لها. وكذلك الشأن فيما يتعلق بالاختصاص فقد تحيل قواعد الاسناد الخصمين الى محكمة قاصية غريبة بالنظر الى أحدهما أو اليهما معا فاذا أضيف الى هذا القلق ما استقر في نفوس المشتغلين بالتجارة والصناعة منذ القدم من نفور من الاحتكام الى قضاء أو قانون أجنبي اتضحـت أهمية التحكيم بالنسبة اليهم حيث يجدون المجال رحبا لاختيار المحكم الصالح والقواعد المناسبة والمكان القريب.
(ح) يتجنب التحكيم الدولي الصعوبات الناشئة عن اختلاف النظم الاقتصادية والسياسية للدول والمبادئ التي تتأثر بها القواعد القانونية في كل دولة نالتحكيم التجاري الدولي يتعلق بمنازعات بين أطراف من دول مختلفة فهناك دولة اقتصادها حر، وا وأخرى تطبـق الاقتصاد الموجه، وتوجد دول صناعية كبرى ودول غير صناعية ودول عالية الدخل ودول منخفضة الدخـل، كما أن هنـاك خلافات بين وجهات نظر الدول من النواحي الثقافية واللغوية والتاريخية والسياسية وهم أيضا يعيشون في بيئات جغرافية متباينة.
ونحن نضيف الى مزايا التحكيم وخاصة الدولي منه فنقول، انه رغم أن التحكيم يدور في اطار قضائي، الا أنه عملية قائمة على الثقة بين الأطراف وبين هيئة التحكيم، وهذه الثقة تسعى دائماً إلى شيىء أبعد من مجرد اصدار حكم، بل هي غالباً تقيم نوعاً من الحوار بين هيئة التحكيم والأطراف وبذلك تزول الفجوة بين اختلاف الحضارات والثقافات القائمة على المعاملات التجارية الدولية.
وصفوة القول : يتضح مما سبق الأسباب التي تفسر انتشار التحكيم في العلاقات التجارية الداخلية والدولية حتى صار بالنسبة للأخيرة فن مقوماتها لنموها، ولا أدل على هذا الانتشار من ذيوع شرط التحكيم حتى لا يكاد يخلو منه عقد تجـاري دولي، وتضخم نشاط المنظمات الدولية المعنية بالتحكيم. فعامل السرعة من العوامل الهامة في تنفيذ المعاملات التجارية الداخلية وكذلك المعاملات الدولية التي تتأثر بتقلبات أسعار المواد والصرف. كذلك فـان نـمـو العلاقات التجارية والاستثمارية بين دول الغرب والدول النامية يتطلب حلـولا فعالة للمنازعات المحتملة بطريقة محايدة يتفادى بها، بقدر الامكان، تدخل الاعتبارات السياسية. لذلك فان التجار والمستثمرين يفضلون عادة أسلوب التحكيم على أسلوب التقاضي أمام المحاكم الداخلية، فالأسلوب الأول مـرن وسريع نسبيا يقوم عليه نخبة مختارة من المؤهلين المدركين لمتطلبات العلاقات التجارية الداخلية وعلى وجه الخصوص العلاقات التجارية الدولية.
وبالرغم من مميزات التحكيم الا أن البعض يرى أن فيه بعض سلبيات.