تظهر التطبيقات العملية في التحكيم التجاري الدولي وجود قواعد نظام عام عبـر دولـي تستهدف الحفاظ على مصالح المجتمع الدولي، وهي لا شك أنها مصالح أسمى وأعلى من مصالح العاملين في ميدان التجارة الدولية.
وفي ضوء التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية المتعلقة بمكافحة الفساد، وما جرى عليـه القضاء وهيئات التحكيم يتبين أن الرشوة تخالف النظام العام لمختلف الـدول3، وأيـضاً تخـالف النظام العام عبر الوطني وبالنظر إلى الآثار السلبية للرشوة سواء لجهة الثقة بالمؤسسات الـسياسية والإداريـة فـي الدولة، أو لجهة آثارها الهدامة على لعبة أو قواعد المنافسة، تلحظ القوانين الداخلية جرائم خاصة بالرشوة في القطاع العام التابع للدولة، كما أن بعضها يجرم الرشوة في القطاع الخاص – علـى سبيل المثال – قانون العقوبات اللبناني في المادة 351 وما يليها؟.
وبالرغم من هذا التجريم في القوانين الداخلية، فالملاحظ أن هذا التجريم لا يطـال جـرائم الرشي المدفوعة لموظفين تابعين لدولة أجنبية، بمعنى آخر إن إقدام مواطن تابع لدولة ما علـى رشوة موظف تابع لدولة أخرى لا يقع تحت طائلة قانون العقوبات في الدولة الأولى، وإنما تحت طائلة قانون العقوبات في الدولة الثانية، وعلى سبيل المثال في لبنان، فإن العبـرة لقيـام جـرم الرشوة هو اعتبار المرتشي موظفا تابعا للدولة اللبنانية. والسبب في ذلك قد يكون عـدم مبـالاة الرأي العام بشأن الرشوة في العقود الدولية، إذ يختلف تعاطي المواطنين والمجتمع المدني اختلافاً بينا بشأن الرشوة الحاصلة داخل الإقليم، وبين تلك الحاصلة خارجه، كما قد يكمن بمفهوم حصر دور القوانين الوطنية بحماية وتحصين المؤسسات السياسية والإدارية الوطنية.
الاستثناء الوحيد على ما تقدم، يكمن في تشريع الولايات المتحدة الأميركية، فبعـد حـدوث فضيحة شركة Lok Heed لصناعة الطائرات التي دفعت رشي لأشخاص يمارسون سلطة عامة في دولة أجنبية للتوقيع معها على صفقة بيع طائرات، عمد المشرع الأميركي سـنة 1977 إلـى إقرار القانون المعروف اختصاراً .foreign corrupt practices act F.C.P.A والمعدل سـنة 1988 الذي يلحظ تجريم الرشي المدفوعة لموظفين تابعين لدولة أجنبية.
لتلافي النقص التشريعي الداخلي بخصوص الرشي وسائر أنواع الـدفع غيـر المـشروع Paiement illicite، حاولت المجموعات والهيئات، كمنظمة الأمم المتحدة ومنظمـة التعـاون والتنمية الاقتصادية وغرفة التجارة الدولية، والمجلس الأوروبي وضع آليات للحـد مـن هـذه الظاهرة.
بالنسبة الى الأمم المتحدة، فقد تبنت الجمعية العامة فيها بتـاريخ 15 كانون الأول 1975 القرار رقم 3514، الخاص بالتدابير الواجب اتخاذها ضد أعمال الرشـى المرتكبـة مـن قبـل الشركات عبر الدولية وسواها، وتضمن إدانة كل عمل ينطوي على رشوة بمفهوم قانون وأنظمة الدولة المتلقية، وكذلك حق كل دولة في اتخاذ الإجراءات القانونيـة المناسـبة ضـد الـشركات والمؤسسات والأطراف الذين قاموا بالرشوة.
وعلى صعيد منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية .O.C.D.E فإن الدول الأعـضاء فيهـا، متجاوبة مع مطالب الولايات المتحدة بشأن الدفع غير المشروع، توافقت على إدانة هذا النوع من الدفع، ووضعت عدة مبادئ توجيهية بهذا الشأن، حيث جاء في المقطع السابع من هذه المبـادئ بأنه: "يجب على المؤسسات عدم منح أو توسل أو قبول أي دفع غير مشروع مـن قبلهـا أو أي منفعة غير واجبة مباشرة أو غير مباشرة لأي موظف أو مكلف بوظيفة عامة".
وإزاء عدم فعالية هذا الإجراء، وشكوى الشركات الأميركية بأنها ضـحية منافسة غيـر مشروعة من نظيراتها في الدول الأعضاء في المنظمة، طلبت الولايات المتحدة الأميركيـة مـن الدول الأعضاء في .O.C.D.E في أيار 1989 الشروع في العمل بغية وضع اتفاق دولي بشأن الأعمال المنطوية على رشي. وبالفعل فقد انتهت هذه الأعمال بتبني مجلس المنظمة فـي أيـار 1994 توصية حول الرشوة في نطاق الصفقات التجارية الدولية، تضمنت وجوب أن تتخذ الدول الأعضاء في .O.C.D.E الإجراءات الفعالة لمكافحة هذه الظاهرة على الصعيد الدولي، إن لجهة تحريم التصرفات المنطوية على رشي، أو لجهة عدم وضع إعفاءات ضـريبية علـى الأم المدفوعة كرشي لموظفين عموميين أجانب.
وقد جددت المنظمة في أيار 1997 توصيتها القاضية بضرورة قيام الدول بمكافحة وتجريم الرشي المدفوعة في الخارج. وعلى أثر هذه التوصية وقعت في كانون الأول مـن تلـك الـسنة اتفاقية دولية بهذا الشأن وتضمنت وجوب أن تعمد الدول الموقعة على الاتفاقية إلى تجريم دفـع الرشي إلى موظفين عموميين أجانب.
المجلس الأوروبي التابع لدول الاتحاد الأوروبي، تعرض بدوره لهذه المسألة. ففي المـؤتمر التاسع لوزراء العدل طلب هؤلاء في قرارهم الأخير إنشاء مجموعة عمل وتكليفها بوضع برنامج عمل ضد الرشوة، وقد قرر وزراء المجلس في جمعيتهم إنشاء .G.M.C أي Groupe Multi disciplinaire sur la corruption، وأوكلت إليها عدة مهام من بينها وضع برنامج عمل بشأن مكافحة الرشوة على الصعيد الدولي، وقد وضعت هذه المجموعة الأخيرة اقتراح تجريم رشـوة الموظفين الأجانب والدوليين، إضافة إلى الرشوة والتمويل غير المشروع للنشاطات السياسية.
وأخيراً بخصوص غرفة التجارة الدولية، فإنها قد تنبهت الى هذه المسألة وخطورتها علـى صعيد التجارة الدولية فشكلت سنة 1975 لجنة خاصة في إطارها، أوكلت إليهـا مـهمـة وضـ توصيات بشأن مكافحة الرشوة، وقد أعدت هذه اللجنة عـدة مقترحـات رفعتهـا إلـى الغرفـة وضمنتها.
1- توصيات تتعلق بالإجراءات الواجب اتخاذها من قبل الحكومات.
2- قواعد سلوك لمحاربة الرشوة موجهة بشكل أساسي الى المتعاملين في ميدان التجـارة الدولية، وضرورة أن يطبقها هؤلاء عفواً، كونها ذات طبيعة عامة تستهدف وضع أسس لممارسة تجارة دولية سليمة.
ولعل من أول التطبيقات التحكيمية الخاصة بهذا الموضوع حصلت سنة 1963 عندما قضى المحكم Lagergren بصدد نزاع ناشئ بين شركة بريطانية ووسيط أرجنتيني حول دفع العمولـة لهذا الأخير من قبل الشركة البريطانية نظير مساعدتها في الحصول على عقد أشغال عامة فـي الأرجنتين، بأن النزاع غير قابل للتحكيم كونه يتعلق بعقد سببه غير مشروع فـي ضـوء الآداب العامة والنظام العام الدولي، وأنه بالتالي غير مختص بالنظر في هذا الموضوع.
- ثم القرار التحكيمي الصادر في مادة الرشي والذي أورد صراحة مصطلح النظام العـام عبر الدولي Ordre public Transnational وتمثل بالقرار الصادر في:
- قضية Hilmarton سنة 1988:
ملخص هذه القضية هو أن الشركة الفرنسية O.T.V كانت ترغب في المشاركة في مناقصة دعت إليها السلطات الجزائرية لتطوير وتحديث مدينة الجزائر وذلك سنة 1980، فأبرمت لهـذه الغاية عقداً مع شركة Hilmarton تعهدت فيه هذه الأخيرة بتقـديم الاستشارات الاقتـصادية والضرائبية وبالتنسيق في النطاق الإداري بين المشاركين في تنفيذ المشروع وذلك لقاء مبلغ حدد بــــــــ 4% من القيمة الكلية للصفقة. بعد فوز شركة O.T.V بالصفقة سنة 1983 دفعت لـشركة Hilmarton نصف الأتعاب المستحقة، وامتنعت عن دفع النصف الثاني عند استحقاقه في العـام التالي، متذرعة بأخطاء ارتكبتها شركة Hilmarton، ما دفعها إلى التدخل مباشرة ودفع مبـالغ للممثلين المحليين بغية إزالة العوائق التي اعترضتها أثناء التنفيذ. عمدت شركة Hilmarton إلى إعمال بند التحكيم الوارد في العقد وطالبت بمستحقاتها، فدفعت شركة O.T.V ببطلان العقـد، لمخالفته القانون الجزائري الصادر سنة 1978، الذي يلحظ احتكار الدولة قطاع التجارة الخارجية وحظر اللجوء إلى الوسطاء والسماسرة، وذلك رغم اتفاقهما في العقـد علـى تطبيـق القـانون السويسري عليه.
خلال المحاكمة التحكيمية تبين للمحكم أن شركة Hilmarton مارست أساساً نشاطاً قريبـاً من نشاط الاستخبارات التجارية، والتي تتسم بطابع سري، وأن نشاطها تمثل بممارسة نفوذ لـدى السلطات الجزائرية من أجل تفضيل العرض المقدم من شركة O.T.V على العروض الأخـرى المنافسة، لقاء دفع مبالغ لهذه السلطات، الأمر الذي دفع هيئة التحكيم إلى القضاء بأن العقد المبرم بين شركتي O.T.V و Hilmarton يخالف القانون الجزائري الصادر سنة 1978، الذي يحارب استغلال النفوذ وهو هدف يتفق عليه القانون الجزائري مع غالبية القوانين الأوروبية، وبالتالي يعد مخالفاً للنظام العام عبر الدولي.
- وفي القضية بين مواطن إيراني وآخر يوناني:
في هذه القضية قضى المحكم، بصدد نزاع ناشئ بين مواطن إيراني وآخر يوناني حول دفع عمولة للأول جراء حصوله على عقود مع الدولة الإيرانية ببطلان العقد، مـستندا إلـى مبـادئ القانون المعترف بها من قبل الأمم المتحضرة، والتي بموجبها تعد الاتفاقات التي تخـرق الآداب العامة والنظام العام الدولي باطلة، أو على الأقل لا يمكن تنفيذها، مضيفاً أنه حتـى وإن كانـت رشوة الموظفين في بعض البلدان وسيلة مقبولة في العلاقات التجارية، فإنه لا يمكن مـن ناحيـة الأخلاق في التعاملات الدولية صرف النظر عن الأثر الهدام لهذا التصرف.
الملاحظ أن هذه القرارات استخدمت مصطلح النظام العام الدولي، ومن المستبعد أنها قصدت النظام العام الدولي الخاص بدولة معينة، إذ أنه في جميع القرارات السابقة تمت الإشـارة إلـى النظام العام الدولي الخاص بدولة معينة. إذ أنه في جميع القرارات السابقة تمت الإشـارة إلـى النظام العام في دولة معينة إلى جانب تعبير النظام العام الدولي. ثم أن استخدامها لتعـابير مثـل النظام العام الدولي المعترف به من قبل غالبية الدول ومبادئ القانون المعترف بها من قبل الأمم المتحضرة إلى فهم هذا النوع من النظام العام، كما ورد في القرارات التحكيمية المنوه عنها ضمن سياق عبر دولي حسب توجهات الفقه الحديث.
وفي القضية رقم 3913 سنة 1981 بين شركة بريطانية وشركة فرنسية:
في هذه القضية اعتبر المحكمون أن العقد المبرم بين الشركتين البريطانيـة والفرنسية، والذي تتعهد فيه الشركة البريطانية بتقديم كل المعلومات والمساعدة من أجـل تـسهيل حـصول الشركة الأخرى على صفقة أشغال، في دولة أفريقية لقاء عمولة محـددة فـي العقـد، أن هـذه الأخيرة تشكل رشوة كون الشركة البريطانية ستدفع قسما منها للمسؤولين المحليــن هـو سـبب التزام الشركة الفرنسية، وبالتالي بطلان العقد، ومؤكدين أن هذا الحل لا يتطابق فقط مع العام الداخلي الفرنسي، بل يستنتج أيضاً من مفهوم النظام العام الدولي المعترف بـه مـن قبـل النظـام غالبية الدول.
أما قضية: Gulf Leaders for Management and Services Holding:
وتتلخص وقائع القضية بأن شركة فرنسية (Credit Foncier de France (CFF أبرمـت ت مع الشركة السعودية Gulf Leaders for Management and Services Holding (Gulf (Leaders اتفاق قرض لتمويل مستشفى في السعودية بشكل جزئي، ونظرا إلى نشوء نزاع بـين الطرفين، قدمت شركة CFF طلب تحكيم تطبيقاً لشرط التحكيم المنصوص عليه في العقـد، وأنّ الشركة طالبة التحكيم تطلب بطلان العقد بسبب دفع عمولة قـدرها 4،5 دولار أميركـي لـكـي يساعدها مديرها السيد X في إبرام عقد قرض مع Leaders، وأن الشركة السعودية تـدعي أن السبب وراء دفع العمولة لم يكن اختصاص السيد X في إبرام عقد قرض مـع Gulf Leaders بل إن السبب وراء دفع السيد X للعمولة هي علاقته الوطيدة بالشيخ F.
وقد ردت الشركة المحتكم ضدها Gulf Leaders حيث أدلت بدفع أن نشاط الـسيد X يكن سرياً أبداً، وأنه شارك إلى جانب مدراء شركة CFF.
وقد رأت هيئة التحكيم أن الرشوة لم تكن مثبتة من الناحية المادية، وأن تدخل السيد X. لـم يكن سرياً البتة بما أنه كان حاضراً إلى جانب شركة TFF خلال الاجتماعات التي عقـدت مـع .Gulf Leaders
إضافة إلى أن هذا التدخل كان مبرراً بخبـرة الـسيد . فـي مجـال العمليـات الماليـة في السعودية، وهي خبرة يؤديها مصرف Dresdner في جنيـف الـذي أوصـى بـالـسيد X. إلى CFF.
وأنه مع ذلك لم يتم الادعاء إطلاقاً بـأن لا الـسيد X مـارس وظيفـة إداريـة أو عمـلاً لـ Gulf Leaders ولا الشيخ F وهو مساهم بـ 95 % ورئيس ومدير عام Gulf Leaders تلقى أي عمولة أو فائدة، أكان بشكل مباشر أو غير مباشر، وأنه يبدو إذا أن Gulf Leaders لم تبين العناصر المميزة للرشوة.
وقد ردت هيئة التحكيم طلب إبطال عقد القرض وقضت بأن الفسخ من جهة CFF كان قائماً على أساس وحكمت على المقترضة أن تعيد الأموال مع الفوائد والمصاريف.
ولكن الشركة السعودية Gulf Leaders لم ترضخ لحكم التحكيم وطعنـت فيـه بـدعوى البطلان أمام محكمة استئناف باريس متمسكة أيضاً بأن حكم التحكيم خالف النظام العام الدولي.
وقد رفضت محكمة الاستئناف دعوى البطلان، مما دفـع Gulf Leaders إلـى الطعـن بالنقض.
إلا أن محكمة النقض رفضت الطعن معللة قرارها بأنه عندما يتم التذرع بأن حكم التحكـيم يعطي أثراً لعقد تم الحصول عليه بالرشوة يعود الى قاضي الإبطال الذي رفع أمامه طعن مبنـي على المادة 1520 – 5 من قانون المرافعات المدنية، أن يبحث في الواقع وفي القانون عن كـل العناصر التي تسمح بإبداء الرأي حول عدم المشروعية المزعومة للاتفاق، وأن يقدر ما إذا كـان الاعتراف بحكم التحكيم أو تنفيذه يخالف بشكل فعلي وملموس النظام العام الدولي.
وبالنتيجة فقد رفضت محكمة النقض الطعن، وحكمت علـى شـركة Gulf Leaders for (Management and Services Holding (Gulf Leaders بدفع المصاريف.
- (محكمة التمييز الفرنسية، الغرفة المدنية الأولى، 24 يونيو 2015، طعـن رقـم 14 - (18706 )
والسؤال الآن، هل يجوز للمحكم أن يتصدى من تلقاء نفسه لمعاقبة التصرف المخـالف للنظـام العام؟
وللجواب عن هذا السؤال يمكن القول:
إن هناك من يرى أن سلطة المحكمين بمعاقبة التصرفات المخالفة للنظام العام ليست مطلقة يمارسها المحكمون عفواً متى تحققوا من وجود المخالفة أو الخرق للنظام العام، إذ يكون للطـابع التعاقدي لاتفاقية التحكيم والذي يستمد المحكمون منها سلطتهم دوره الكبير في هذا الإطار، بتعبير آخر، لإرادة الأطراف الدور الأساسي في تولية المحكمين سلطة معاقبة خـرق النظـام العـام. وعليه، فإنه حسب الفقه الحديثة، لا يكفي أن يمنح القانون المحكم سلطة معاقبة خـرق النظـام العام، بل يجب أن يسمح له الأطراف بذلك.
وتبرير ذلك هو أنه مع وضوح الطابع القضائي لوظيفة المحكم في أدائه مهمته، فإنها تبقـى متولّدة، وناشئة عن أساس اتفاقي في مصدره، ويتمثل باتفاقية التحكيم التي تمنح المحكـم سـلطة فصل النزاع ضمن نطاق الحدود والأطر المرسومة من قبل الأطراف، سواء في اتفاقية التحكـيم ذاتها، أو في الطلبات والدفوع المقدمة أمامه، وفي ذلك تتميز وظيفة المحكم كقضاء خاص، عـن وظيفة القاضي في نطاق القضاء، الذي يجوز له إثارة المسائل المتعلقة بخـرق النظـام العـام عفواً.
وهكذا فإنه لا يكون للمحكم من سلطات سـوى تلـك الممنوحـة لـه مـن أطـراف الاتفاق التحكيمي، ومثل هذه الوجهة الراجحة فقهاً واجتهاداً، انتقدها Moitry، عندما نازع بمسألة منع المحكم من سلطته عفواً بشأن مخالفات وخروقات النظام العام، معتبراً أن مثـل هذا المنع أمر منازع فيه، فبعد أن أشار إلى موقف الفقه المتحفظ على منح المحكمين سلطة المعاقبة عفواً، والذي انتهى إلى وجوب أن يعلن المحكم عدم اختصاصه، إذا لم يثر أي مـن الأطراف مسألة خرق النظام العام، لأنه سيكون متجاوزاً حدود المهمة التـي أوكلهـا إليـه الأطراف.
وقد اعتبر Moitry أن العمل الحقيقي للمحكم هو إصدار قـرار مطـابق للقـانون يكـون مضمونه معبّراً عن الترابط الشامل للنظام القانوني، ومن غير أن يتعلق ذلك بتقصير الأطراف أو باتفاق خداعي بينهم. وهو في ذلك يلتقي مع 1Jarrosson، لجهة اعتبار أن المحكم على غـرار القاضي يجب أن يساهم في تحقيق الأهداف المتوخاة من قبل النظام العام الاقتصادي والاجتماعي، وأضاف أنه بالرغم من صمت المادة 1466 أ. الفرنسي فإنه يجب التـسليم بـأن للمحكـم الامتيازات نفسها التي تكون للقاضي في تطبيق قواعد القانون، وهذا يستدعي أحياناً إعادة التكييف بتطبيق قاعدة نظام عام.
ويضيف أن الأخذ بمثل هذه الوجهة يجد تبريراً له أيضاً في "التطابق المطرد لدور ومهمـة القاضي والمحكم والمتميز بالجذب المتبادل لنموذجه الخاص".
والجدير بالذكر أن الواقع التحكيمي يظهر أن المحكمين عرضت عليهم في عـدة حـالات أثيرت فيها مسألة الرشوة، وقد أخذوا بمفهوم النظام العام عبر الدولي أو الدولي الحقيق إلا أن موقفهم لم يكن موحداً بشأن التعابير المستخدمة للتدليل على هذا النوع من النظام العام، وكـذلك بشأن مدى سلطة المحكمين إزاء العقود المبرمة بفعل الرشي.
- وفي قضية بين السيد S. وجمهورية إندونيسيا:
وفي هذه القضية صدر الحكم رقم 007 تاريخ 15 م 2014/12 والتي تم النظر فيها أمـام إطار المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ICSID، وفي هذا الحكم هيئة تحكيم مشكلة في كانت الهيئة مشكلة من:
السيد Bernardo M.Cremades
السيد Michael Hwang
السيد Fali Nariman
وتتلخص وقائع القضية بأن المدعي السيد S يملك اسهماً فـي شـركة First Gulf Asia (Holdings Ltd 9 FGAH) وهي شركة تمتلك أسهماً في Century Bank في جاكرتا.
خلال عام 2008، اتخذت السلطات الاندونيسية إجراءات لإنقاذ المـصرف المـذكور مـن التعثر (Bailout)، وتمت ملاحقة المدعي S وأشخاص آخرين أمام القضاء الجزائي الاندونيسي، وأدين المدعي بموجب تلك الإجراءات القضائية بنتيجة محاكمة غيابية وتقرر مصادرة ثلاثـة مليارات روبية اندونيسية من أصوله.
خلال عام 2011 تقدم المدعي S. بطلب تحكيم بوجه جمهورية اندونيسيا توصـلاً إلـى إلزامها بتسديد العطل والضرر الذي حدده نتيجة الإجراءات المتخذة بحقه مـن قبـل جمهوريـة اندونيسيا، والتي اعتبرها غير قانونية، حيث يأخذ المدعي على المدعى عليها إقدام بعض المراجع الرسمية على التدخل في Century Bank بحجة إنقاذه من التعثر المالي، وهو يدلي بـأن مـا أقدمت عليه السلطات الاندونيسية قد ألحق به فعلاً أضراراً، إذ تأثرت بحـسب زعـم المـدعي، مساهمته في رأس مال المصرف المذكور سلباً.
كما يدلي المدعي S. بأن ما أقـدمت عليـه الـسلطات الاندونيسية لناحيـة الإجـراءات القضائية المتخذة ضده في اندونيسيا، والسير بمحاكمة ضده دون إبلاغه الإجراءات وتمكينه مـن الدفاع عن نفسه، قد أدى إلى صدور حكم جزائي بحقه بالصورة الغيابية، الأمر الذي ألحـق بـه ضرراً أكيداً.
في إطار معالجتها إدلاءات الفريقين خلصت الهيئة إلى أن المخالفات المرتكبة مـن المـدعى عليها جمهورية اندونيسيا والمتعلقة بمحاكمة المدعي جزائياً بصورة غيابية دون تأمين حق الـدفاع له، لم يؤثر في النتيجة النهائية التي انتهت إليها الهيئة التحكيمية في قرارهـا التحكيمـي، بعـد أن نظرت في تصرفات المدعي . - بصرف النظر عن طابعها الجزائي، معتبرة أن تلك التصرفات التي وصفتها بالاحتيالية وعددتها تفصيلا بالاستناد إلى تقرير الخبير Brattled قد تسببت بمـشكلة السيولة لمصرف Century، وهي مخالفة للنظام العام، ولاسيما القطاع المالي في اندونيسيا.
وقد استندت الهيئة التحكيمية، في هذا الإطار، إلى المادة 9 من المعاهدة والتي تنص على ما يأتي:
"يلتزم المستثمر بالقوانين واللوائح القائمة والسارية في الدولة المضيفة ويمتنع عن القيام بأي أعمال من شأنها الإخلال بالنظام العام والآداب العامة والإضرار بالصالح العام، ويمتنع كذلك عن ممارسة أعمال مقيدة وعن محاولة الكسب بوسائل غير مشروعة".
فقد تثبتت الهيئة التحكيمية من عدة أعمال غش صادرة عن المدعي S. بموجـب تقـارير صادرة عن جهات ثالثة محترفة، وتتميز بالموضوعية وهي أفعال تشكل مخالفة للقوانين المحلية الاندونيسية، ما يجعل المدعي في موقع لا يمكنه من الاستفادة من الحمايـة التـي تؤمنهـا لـه المعاهدة.
وقد جاء في الفقرة 648 من القرار التحكيمي ما يلي:
" The Tribunal concludes that although it has been established that the Claimant did not receive fair and equipment, as set out in paragraphs 555 to 603 above, however, by virtue of Article 9 of the OIC_Agreement the Claimant is prevented from pursuing his claim for fair and equitable treatment".
بالتالي، اعتبرت الهيئة التحكيمية أنه لا يمكن للمدعي الاستفادة من مبـدأ الدولـة الأكثـر تفضيلاً، مستندة بذلك إلى وجوب تمتع المستفيد منها بـ "أياد نظيفة" Clean hands وهو أمر غير متوافر في المدعي.
"The Tribunal finds that the claimants' conduct falls within the ، scope of application of the "clean hands" doctrine, and therefore cannot benefit from the protection afforded by the OIC Agreement".
مع الإشارة هنا إلى أن قاعدة " الأيادي النظيفة " تطبق على الاستثمار، وعلـى اسـتعمال الاستثمار على حد سواء.
- وفي تطبيق عملي آخر تقرر أنه لا شيء يمنع محكمة قضائية رفع أمامها طعن بإبطـال حكم تحكيمي من إحالة مسألة أولية أمام محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي. فهذا الحل اعتمد فـي دعـوى فريـدة Paris, 23 sept. 2014, no. 12/21810, Genentech Inc., Global Arbitration Review 6 oct. 2014, obs.L. Yong في هذه الدعوى، كانت المسألة تتعلـق بالإتاوات المدفوعة إلى شخص مأذون له لاستخدام اختراع لم يتم استصدار براءة به. قضى حكم التحكيم على هذا الشخص المأذون له بأن يدفع الإتاوات دون التحقق من تقليد هذه البراءة، وهـو ما كان منازع فيه في إطار الطعن بالإبطال على أساس أن قانون المجموعة الأوروبية للمنافسة يمنع دفع إتاوات مقابل استخدام اختراع لا يشكل تقليداً للبراءة. كان من المتوجب إذا على هيئـة التحكيم أن تتحقق من ذلك قبل القضاء بدفع الإتاوات، وهـذا مـا لـم تفعلـه. إلا أن محكمـة الاستئناف، بدلاً من أن تقضي كما دائماً، امتنعت عن القضاء طالما أنها لا تعرف مـا إذا تمـت مخالفة قانون المجموعة الأوروبية للمنافسة أو لا. وعليه، تبعاً لمسعى الطاعنة الجريء، أحالـت مسألة أولية أمام محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي. بالتأكيد، هذا الحل يشكل على كل حـال مفاجأة، إذ إنه يتميز بوضوح عن الحل الاعتيادي للقاضي النـاظـر بـالطعن الـذي لا يرحـب بالمسائل الأولية طالما أن أحكام التحكيم لا تخالف النظام العام الدولي. ما هو أفضل مـن ذلـك، حتى مؤخراً، هو أن محكمة استئناف باريس رفضت حتى أن تجرد أحكاماً تحكيمية من أي أثر، على الرغم من كونها مخالفة للنظام العام الدولي، نظرا إلى أنه لم يطعن فيها على هذا الأسـاس أمام هيئة التحكيم، رافضة التدخل إلا في حال مخالفة هذا النظام العام الـدولي بـشكل "فاضـح وملموس". حتى لو كان من الممكن إدراك تغير صارم أكثر في اجتهاد محكمة باريس منذ ينـاير عام 2012 (آخر اجتهاد هو اجتهاد محكمة Paris, 9 sept. 2014, no. 13 / 02594, Speza التي، بدورها، تتخلى عن شرط أن تكون المخالفة بشكل فاضح")، إلا أنه توجد هوة بينــه وبـين المقاربة المعتمدة في القرار المعلق عليه. فالمحكمة هنا تدخل في تفاصيل السبب المثار لتـستنتج عدم قدرتها على حل الصعوبة دون الحصول على رأي محكمة التمييز، التي سبق أن رفع إليهـا طعن، بهذا الموقف الجديد لمحكمة الاستئناف، لأن محكمة التمييز لا تزال حتى يومنا هذا مؤيـدة لرقابة محدودة للنظام العام الدولي، وهو ما ينازع فيه هذا القرار بما أنه يحيل هذه الرقابة إلـى محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي. بشكل عام أكثر، وحتى لو كان الأمر هنا يتعلق بمحكمـة الاستئناف وليس بهيئة التحكيم، سنبين أنه ليس من الجيد أبدأ بالنسبة إلى التحكيم المرور بقـاض نظامي أو بقاض نظامي اختصاصه عابر للدول لمعرفة ما يجب عليه القضاء به. هـذا يعـرض استقلالية التحكيم للخطر.
وفي قضية Grynberg:
- وفي هذه القضية المعروفة,.Grynberg v BP Exploration Operationg Co 172397 No.116840/04, 2015 WL حيث صادقت محكمة نيويورك العليا في 20 أبريـل 2015 على قرار استبعاد محكم رفض تنفيذ المحكمة جزءا من الحكم التحكيمي بالنسبة للمطالبات بين المدعية Grynberg والمـدعى عليـه BP Exploration OPERATION Company (Limited (BPX بشأن مسألة "دفع مكافآت التوقيع". وأعادت المحكمة القضية إلـى المحكـم لدراسة وتحديد "طبيعة الدفع" الذي قامت به BPX وقضت بأن اقتطاع مبلغ بقصد رشوة موظف عمومي يكون غير قابل للتنفيذ لأنه يمس بالنظام العام، إلا أن المحكم، على الرغم من أنه صرح بفهم أمر المحكمة، رفض تحديد طبيعة مكافآت التوقيع. بدلاً من ذلك، أكد عـدم موافقتـه علـى الاستنتاج القانوني للمحكمة. قررت محكمة البداية أن التخلف الصريح للمحكم عن التزام القـرار الواضح لشعبة استئناف يبرر إبطال القرار التحكيمي الأخير والإحالة الى محكم جديد.
- وفي قضية برنار تابي:
وبتاريخ 17 فبراير 2015 أبطلت محكمة الاستئناف بباريس القرار التحكيمـي بعـد سـبع سنوات من صدوره وتنفيذه:
والجدير بالذكر أن القرار التحكيمي بعد سبع سنوات من صدوره هو الحكم الـذي تتكـون أطراف المنازعة فيه من الوزير الفرنسي السابق" برنار تابي " بين برنار تـابي وCDR (وهـو كيان خاضع لوصاية الدولة الفرنسية).
وبرنار تابي هو وزيـر سـابق وهـو اليـوم رجـل الأعمـال الفرنـسـي الـذي يـدير مجموعةBernard TAPIE وفي هذا الحكم التحكيمي حصل برنار تابي على مـا يعـادل 403 مليون يورو بموجب حكم التحكيم الصادر عام 2008 والذي تم تنفيذه.
بعد مضي خمس سنوات على صدور الحكم التحكيمي، قـدمت الدولـة الفرنسية طعنـاً بمراجعة التحكيم. ففي تاريخ 28 يونيو 2013، تقدم الـ CDR بطعن أمام محكمـة اسـتئناف باريس بهدف مراجعة تحكيم TAPIE، متذرعا بأن هذا التحكيم استند إلى ادلاءات تبين في بعد أنها كاذبة.
وقضت محكمة الاستئناف بأن المهلة المفروضة قانوناً بحسب قانون أصـول المحاكمـات الفرنسية قد روعيت، لأن المراجعة قدمت ضمن المهلة القانونية بتاريخ 28 يونيو 2013 (شهران من تاريخ الكشف عن الوقائع التي لم يعلم بها طالبو المراجعة إلا من تاريخ 7 يونيو 2013 وهو التاريخ الذي حصلوا فيه على ملف التحقيق الجزائي الذي يتعلق بالغش الحاصل فـي التحكـيم المذكور).
وبالنتيجة أعلنت محكمة استئناف في باريس أنها مختصة بالنظر في إعادة النظر في الأحكام التحكيمية الصادرة في قضية برنار تابي، وقضت بالرجوع عن القرار التحكيمي الصادر فـي 7 يوليو 2008، وعن القرارات التحكيمية الثلاثة الصادرة في 27 نوفمبر 2008 التي تكمل القرار الأول.
استندت محكمة الاستئناف إلى أن التحكيم داخلي وليس تحكيماً دولياً، وأنـه حـصـل فـي ظروف احتيالية عن طريق الغش بسبب وجود علاقة بين أحد المحكمين وبين برنار تابي.
وجاء في جانب من تعليق البروفسور برناردو کریمادس:
"نستطيع أن نستنتج من قراءة القرار أن سلوك القاضي السابق معيب، كما نفهم أن القـضـاة الباريسيين أصروا على إرسال الرسالة القائلة بأن القرارات التحكيمية التي تعتريهـا منـاورات احتيالية لن يتم تأييدها...".
الخلاصة:
لقد أصبح التحكيم التجاري الدولي إحدى وسائل اجتذاب الاستثمار الأجنبي، حيـث تمكـن التحكيم عبر آلية فض النزاعات وضمانة العدالة الدولية التي يؤمنها أن يكسب ثقة التجارة الدولية والاستثمارات. وأصبح التحدي الذي يواجهه الاستثمارات الدولية مـن نـوع أن تكـون أو لا تكون"، ففي حالة استحالة اللجوء إلى التحكيم كآلية لفض النزاعات، فإن الشركات الكبرى العائدة للبلدان الصناعية والتي وحدها القادرة على تقديم المشاريع والمعرفة الفنية العلمية الراقية لبلــدان العالم النامي سوف تتخلى في الغالب عن القيام بتلك الاستثمارات التي تحتاج إليها البلدان النامية.
وإن الجهود والنتائج التي انتهت إليها مختلف الهيئات والمنظمات لمكافحة الرشوة والفساد وإن كانت على شكل توصيات ومقترحات، إلا أنها تشكل توافقاً دولياً حـول ضـرورة حظـر ومكافحة الرشوة في نطاق التجارة الدولية، الأمر الذي يسمح باعتبارها قاعدة نظام عـام عبـر دولي، وذلك انطلاقاً من الأهداف السامية التي يتوخى هذا الحظر تحقيقها والمتمثل بشكل رئيسي بالحفاظ على الأخلاقيات والاستقامة في التعاملات التجارية الدولية.
ولقد عبرت أحكام التحكيم عن اتجاه قضائي، نراه آخذا في التبلور، يكشف عن تغيـر فـ قناعات المحكمين الدوليين لتلك الهيئات بشأن طبيعة المهمة الموكلة إليهم للاضطلاع بها. ويتمثل هذا التغير على ما يكشف عنه تحليل الأحكام الصادرة في السنوات الأخيرة، في ما يمكن اعتباره انحيازا من المحكمين الدوليين لمفهوم كونهم يقومون بمهمة الفصل في ما هو معروض عليهم من نزاعات، نيابة عن المجتمع الدولي على نحو ما آلت إليه القواعد المنظمة لـه، بالتجـاوز عـن النظرة التقليدية للتحكيم التي مؤداها أن المحكم إن هو إلا قاضي منازعة بعينها، جرى اختيـاره للفصل فيها وفق ما اتفق عليه أطرافها من أحكام.
ولعل الإحساس لدى المحكم أضحى يتزايد يوماً بعد يوم ويتلخص في ما مؤداه أن القانون لا الأطراف المتنازعة فقط، وإنما يحمي الجمهور في المقام الأول، وأن واقع المنازعات التي يتخللها الفساد والرشوة، والتي ينبغي معاقبتها، هو حماية للجمهور دافع الضرائب وغيـره مـن يحمي المواطنين.