التحكيم / التحكيم في المذاهب الفقهية الأربعة / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / المركز القانوني للمحكم في التحكيم التجاري الدولي / نظرة المذاهب الفقهية الإسلامية للتحكيم.
يعد التحكيم من فروع القضاء والمحكم أدنى مرتبة من القاضي ، وحجتهم في ذلك اقتصار حكمه على من رضي به، ولو حكم الخصمان من يصلح قاضياً بكونه أهلاً للشهادة ، فإن حكمه ينفذ في مواجهة الخصوم.
وقد ذهب الأحناف إلى القول بجواز التحكيم باعتباره عملاً مشروع، لكون القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الصحابة و الأئمة وما جاء عليه القياس قد أخذ بالتحكيم، و أجازت تلك المصادر العمل بالتحكيم والأخذ به.
وهناك اعتبارات أخرى تجعل نظام التحكيم جائزاً في الشريعة الإسلامية، وعند الأحناف هو أن التحكيم واللجوء إليه يعمل على تخفيف العبء الملقي على القضاء، وأن الإجراءات التي تتخذ في التحكيم هي أقل من الإجراءات التي تتخذ عند اللجوء إلى نظام القضاء.
ثانياً: التحكيم عند الشافعية:
يري أئمة الشافعية أن اختيار الخصوم فرداً من بين الأفراد ليقوم بحل وفصل الخصومات بين الخصوم، فذلك الفرد ليس من موظفي الدولة وليس بقاض من قضاتها، لذلك اعتبر الشافعية أن اختيار مثل ذلك الفرد عملاً صحيحاً وسليماً، لأن أئمة الشافعية يقولون بجواز التحكيم حيث تم استنادهم على وقائع التعيينات المحكمين في الدولة الإسلامية، ومن تلك التعيينات تعيين المسلمين لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاكماً ليفصل في خصوماتهم التي تحدث .
ويرى أئمة الشافعية بأن التحكيم له دور في الفصل في الخصومات التي قد تثور بين الأفراد، ولكن دوره لا يصل إلى مكانة وأهمية دور القضاء في الفصل في تلك الخصومات، حيث إن نظام التحكيم يجوز فيه عزل المحكم الذي يتم اختياره للفصل في الخصومة، بينما في القضاء يتعذر عزل القاضـي لكونـه معيناً من قبل الدولة، ولكي يتم ذلك لا بد وأن تتخذ إجراءات حتـى يـتـم عـزل القاضي من مهمة الفصل في الخصومة، وتزداد أهمية التحكيم والأخذ بـه عنـد تفشي الفساد في القضاء، وبذلك يكون اللجوء إلي التحكيم هو البـديل المناسـب للأطراف المتخاصمة .
وقد عرف الشافعية التحكيم بقولهم " ولو حكم خصمان رجلاً في غير حد الله تعالی جاز مطلقاً بشرط أهلية القضاء ". ويقصد بالتعريف أن التحكيم هو تولية الخصمين حكمة صالحة للقضاء ليحكم بينهما في خصومتهما، وأن الذي يصلح للقضاء فهو يصلح للتحكيم، ويكون محكماً له الحق في إصدار أحكامه و فرض قراراته على الخصوم.
ثالثاً: التحكيم عند المالكية:
إن أئمة المذهب المالكي قد ذهبوا إلى تخويل أحد الخصوم أن يكون حكم في قضيته، وذلك في حالة وجد موافقة من الخصم الآخر على توليته الفصل في الخصومة الواقعة بينهما، ولهذا الرأي عند المالكية مبرر بأن قيام أحد طرفي الخصومة بالفصل بينه وبين خصمه بعد موافقة خصمه على اختياره، بأنه قد يراجع نفسه ويعود إلى ضميره لكي يحكم بالعدل.
وعند بعض أئمة المالكية أيضاً يجوز الرجوع عن التحكيم قبل الحكم، وإن دوام الرضا بالتحكيم ليس بشرط فيجوز رجوع أحد الخصوم عن التحكيم إذا . أقام بينة عند الحكم، وعلى ضوء ذلك فإن على المحكم أن يرفع الخصومة، ومن الأقوال لبعض أئمة المالكية أن لكل واحد من أطراف الخصومة الرجوع عن التحكيم ما لم تبدأ إجراءات الخصومة أمام المحكم فإن بدأت إجراءات التحاكم أمام المحكم تعين عليهم المضي في التحكيم حتى صدور الحكم في الخصومة، ومن أقوال بعض أئمة المالكية في التحكيم أنه لا يجوز الرجوع عن المضي في التحكيم ولو قبل البدء في الخصومة لأن هناك رضا مسبق على التحكيم.
رابعاً: التحكيم عند الحنابلة:
أجاز أئمة الحنابلة الأخذ بالتحكيم واعتبروا أن الحكم الصادر من المحكم له نفس القوة الإلزامية والحجة الكاملة التي يتمتع بها حكم القاضي، ويتمتع المحكم بأهلية الفصل في الخصومات التي تقع كالقاضي، وتكون أحكامه وقراراته ملزمة لأطراف الخصومة .
فالتحكيم يكون جائزا بين رجلين إذا اختارا ورضيا بشخص يكون أهلا للقضاء فلا بد وأن يكون اختيار الطرفين للشخص المحكم بينهما ممن يكون صالحة للقيام بمهمة القضاء..
ويجوز أن يتولى التحكيم بين الناس متقدمو الأسواق والمساجد، فلهم أن يقوموا بالوساطة و الصلح عند المخاصمة .
هذا و يجوز التحكيم في كل ما تحاكم فيه الخصمان قياسا على قاضي الأمام، وقال القاضي: يجوز حكمه في الأموال خاصة فأما النكاح و القصاص و حد القذف فلا يجوز التحكيم فيها، لأنها مبنية على الاحتياط فيعين فيها قاضى الأمام كالحدود" .
خامساً: التحكيم عند الزيديه
لقد جاء في كتاب السيل الجرار مانصه " فهو باب آخرليس من القضاء في شيء، لأن الخصمين ألزما أنفسهما بقبول ما حكم به المحكم بينهما، فكان هذا الإلزام هو سبب اللزوم، وقد فتح الله باب التحكيم في كتابه العزيز وثبت في السنة المطهرة، وهكذا استمر الأمر بعد انقضاء عصر الخلفاء الراشدين فلم يسمع بقاض إلا بولاية من سلطان زمانه إلى هذه الغاية ، لقد اعتبر الفقه الزيدي أن التحكيم ليس معناه القضاء، لكون طرفي الخصومة هم من يقرر تنفيذ حكم المحكم، ويلزما نفسيهما بذلك التنفيذ، وأن سبب لزوم الحكم هم الخصوم أنفسهم، بعكس أحكام القضاء فهي ملزمة للخصوم سواء ألزموا أنفسهم بها أم لا، لذلك ذهب الزيدية إلى القول بأن التحكيم ليس من القضاء في شيء، ومع ذلك فقد أقر أئمة الفقه الزيدي بالأخذ بالتحكيم والعمل به، لكون الله عز وجل أمر بالتحكيم، وأقرته السنة النبوية، وأن الإجماع عليه حاصل بين علماء الفقه الإسلامي الأوائل وحتى عصرنا هذا.
وعلى ضوء ما سبق عرضه نخلص بأن التحكيم جائز عند المذاهب الفقهية الإسلامية، ولقد أجمعت كلها على جواز العمل بالتحكيم كأحد الوسائل الهامة في حسم المنازعات وتسويتها وديا، وقد جاء التأكيد على العمل به بكتاب الله وسنته رسوله (ﷺ) وبإجماع الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين، وإن كان كل مذهب من تلك المذاهب اشترط بعض الشروط حتى يصح التحكيم، فالتحكيم يعد من أهم الوسائل التي اعتمد عليها الفقه الإسلامي في تسوية الخلافات التي قد تحدث في المجتمع المسلم .