ووجه الدلالة في هذا الحديث أن رسول الله (ﷺ) قد قبل تحكيم بني قريظة له ثم جعل الحكم فيهم إلي سعد بن معاذ برضاهم، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على جواز الأخذ بالتحكيم في الشريعة الإسلامية، لأنه لو لم يؤخذ بالتحكيم وحكم سعد بن معاذ في بني قريظة لما جاز التحكيم، ولقد أجمع الفقهاء على أن رسول الله (ﷺ) قد أخذ بحكم سعد بن معاذ في بني قريظة وأمر بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم وبهذا يكون قد نفذ حكم سعد فيهم، أما عن مثار و سبب تحكيم الرسول (ﷺ) لسعد بن معاذ في بني قريظة، فهي حادثة نقضهم عهدهم مع رسول الله (ﷺ) بألا يتحالفوا مع احد ضد المسلمين، و لكنهم نكثوا عهدهم و میثاقهم مع رسول الله (ﷺ) عندما عرضوا مساعدتهم على قريش المحاصرة المسلمين في غزوة الأحزاب (الخندق)، فلما انتهت المعركة وهرب المشركون توجه رسول الله (ﷺ) إليهم و حاصرهم خمسة عشر يوماً وهم في حصونهم ثم استسلموا، فقرر رسول الله (ﷺ) أن يكون سعد بن معاذ حكماً ليحكم في خيانتهم وغدرهم فرضي اليهود بتحكيم رسول الله (ﷺ) معاذا فيهم، فحكم سعد بن معاذ بقتل الرجال منهم و سبي النساء والأطفال وتقسيم أموالهم بين المسلمين.
وأيضا من الأدلة الواردة في السنة النبوية بجواز التحكيم ما رواه البخاري: قال حدثنا أحمد بن يعقوب: قال: حدثنا يزيد بن المقدام بن مشرع بن هاني الحارثي عن أبيه المقدام عن شريح بن هاني: قال: حدثني هاني بن يزيد أنه لما وفد إلى النبي (ﷺ) مع قومه فسمعهم وهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه النبي (ﷺ) فقال: إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلما كنیت بأبي الحكم؟ قال: لا ولكن قومي إذا اختلفوا في شيء آتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، قال رسول الله (ﷺ) ما أحسن هذا، ثم قال: مالك من الولد؟ قلت: لي شريح وعبد الله ومسلم، قال: فمن أكبرهم ؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح ودعا له وولده ، ووجه الدلالة أن رسول الله (ﷺ) قد استحسن وأقر بتنصيبه للفصل في الخصومات التي تقع بين قومه، وهذا يتضح من تغيير نبي الإسلام كنيته هاني من أبي الحكم إلي أبي شريح وهو اسم أكبر أولاده، وذلك حتى لا يوجد أية مشاركة من بشر في صفة من صفات الله عز وجل وذلك إقرار من الرسول (ﷺ) بصحة ما كان يقوم به أبو شريح من الفصل في الخصومات التي كانت تقوم بين قومه ويتم رفعها إليه من أطراف الخصومة برضاهم، وبذلك الإقرار من نبي الإسلام لهذا العمل الدليل واضح وقطعي على جواز التحكيم في الفقه الإسلامي، لأن أقواله (ﷺ) وأفعاله وإقراراته لأفعال وأعمال وأقوال الآخرين بمثابة تشريع للأمة الإسلامية، ويجب إتباعها وعدم مخالفتها.