واذا كان الله الرحمن الرحيم قد شرع التحكيم ، لرأب الصدع في كيان الأسرة وحفاظا على تماسكها، وعلى المودة والرحمة بين ركنيها ، وهي النواة الأولى لكيان المجتمع المسلم ، كان جوازه أولى فيما يقع بين أفراد المجتمع من خصومات ومنازعات ، حفاظا على كيان المجتمع المسلم وتماسكه والوحدة بين أفراده وقطع دابر الشر فيه ، وكان ذلك أدعى الى استقراره.
ولا خلاف بين الفقهاء على جواز بعث الحكمين اذا ما وقع الشقاق بين الزوجين أو خيف وقوعه ، بل وذهب البعض الى وجوب البعث لأن الأمر في قوله تعالى : ( فابعثوا » يفيد الوجوب ، ولا يصرف عن الوجوب الا بقرينة ، ولا قرينة ، فيبقى الوجوب على إيجابه .
أما الحاكم فهو الذي ينصب ويعين ممن له ولاية تعيينه للفصل بين المتنازعين ، وتنعقد ولايته لنظر النزاع دون الحاجة لرضا أي من الخصمين ، وكأن من يتولى الفصل في الخصومات باعتباره حاكما ومحكما.
وقيل أن الآية قد نزلت في شأن اليهودي والمنافق في خصومة بينهما فترافعا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي على المسلم فلم يرفض المنافق ، فقدما الى أبي بكر رضي الله عنه ، فقضى بما قضى به صلى الله عليه وسلم ، فلم يرض المنافق ، فقدما الى عمر رضي الله عنه ،
وأخرج البخاري عن عبد الله بن يوسف عن الليث عن شهاب عن عروة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، أنه حدثه : ( أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحره ، فقال عليه السلام للزبير : اسق يا زبير ثم أرسل الماء ، فغضب الأنصاري فقال أن كان ابن عمتك - أي أنك ما قضيت له الا لأنه ابن عمتك ، وهذا اتهام لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالجور في الحكم - فتلون وجهه صلى الله عليه وسلم ثم قال : أسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع الى الحذر ، قال الزبير : والله اني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك.
وجه الدلالة :
أن الله سبحانه وتعالى خير نبيه صلى الله عليه وسلم إذا ما جاءه أهل الكتاب محتكمين اليه ، طالبين منه التحكم في خصوماتهم ، خيره بين الحكم أو الاعراض عنهم ، وأخبره جل شأنه أن الأعراض عن المحتمين اليه لا يرتب عليه ضررا لا في الدين ولا في الدنيا ، وهذا هو عين التحكيم ، فللمحكم مطلق الخيار بين الحكم أو الأعراض عن المحتمين اليه ، واذا ما اختار الاعراض عنهم فلا سبيل لإلزامه ولا جزاء عليه ، خلافا للحاكم المنصب للفصل في الخصومات بين الناس فلا خيار له بين الحكم أو الاعراف بين الخصوم إذا ما ترافعوا أو أحدهما اليه .
ذهب البعض الى أن الآية محكمة ، وأن الحكم الوارد فيها ثابت لم ينسخ ، فالحاكم مخير اذا ما ترافع أهل الكتاب اليه بين الحكم أو الأعراض عنهم ، واختلفوا في مدى هذا التخيير من حيث الموضوع والأشخاص.
فالبعض منهم قال أن التخيير ثابت للحاكم في كل وقت وزمان فله الحكم بينهم أو الاعراض عنهم ، ذميين كانوا أو مستأمنين أو معاهدين ، وفي سائر الأحكام ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، روي ذلك عن الحسن البصري والشعبي وابراهيم النخعي في رواية.
وقال البعض أن التخيير الوارد في الآية تد نسخ بقوله تعالى : (( وأن أحكم
بينهم بما أنزل الله )) ، فيجب على الحاكم اذا ترافع اليه أهل الكتاب ، أن يحكم بينهم بما أنزل الله ، وليس له العدول عن ذلك للايجاب الوارد في وله تعالى : ( وأن أحكم بينهم )) ، ویگون تقدير الآية : شان جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله ، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخرساني على ما ذكره ابن كثير ، وهو مذهب الحنفية ، وابن حزم الظاهری والأوزاعی نقل ذلك عنه الطحاوى .
الترجيح
والذي أميل إلى ترجيحة" عدم نسخ التخيير ، لما في النسخ من اهمال للنص ، واعمال النص أولى من اهماله ، ولعدم وجود تعارض بين النصين ، فقوله تعالى : (( فان جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم )) و يعتبر نصا مطلقا ، يخير فيه الحق سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم .
وأن نطاق التخيير ومداه يتحدد في ضوء قوله تعالى : « يقولون أن أوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا » . فحيث يكونون مخيرين بين الأخذ بأحكامنا وعدمه ، وبين المجيء وعدمه يكون الحاكم مخيرا بين الحكم بينهم أو الأعراض عنهم ، وحيث يكونون ملزمين بأحكامنا وبالمجيء الينا ، يكون الحاكم ملزما بالحكم بينهم وعدم الاعراض عنهم
رابعا – قوله تعالى :
يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكمية أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذيك صياما ليذوق وبال أمره ، عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام )) .
وجه الدلالة :
نهى الحق سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عن قتل الصيد ماداموا حرما ، وجعل على من قتله الجزاء ، يحكم به عدلان ، وعموم الآية اعطى قاتل الصيد اقامة عدلين للحكم عليه بالجزاء وبغير إذن الامام ) ويجزىء اخراج الجزاء بناء على حكمهما ، فدل ذلك على أن الآية نص على جواز التحكيم
واذا كانت الآية قد أجازت التحكيم في حق من حقوق الله سبحانه وتعالى ، وهي حقوق لا تسقط بالإسقاط، إذ لا يملك الأفراد أو الجماعة الاتفاق على الإعفاء منها أو اسقاطها ، فدل ذلك على أن ما يملك الأفراد الاتفاق على اسقاطه أو الإعفاء منه ، يجوز فيه التحكيم ، فإن التقاضى حق الأفراد ، وليس حق القاضي ، فالآية تعتبر أسسا في جواز التحكيم ، ولقد استدل بها ابن عباس على جواز التحكيم في مخاصمته للخوارج بعد ما خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم بينه وبين معاوية ابن أبي سفيان .
أولا - لا يجزىء إخراج الجزاء إلا بناء على حكم :
توجب الآية الكريمة أن يكون الجزاء قد خرج بناء على حكم ، وذلك في قوله تعالى : ( يحكم به ) ، أي بالجزاء ، فلا يجزىء القاتل اخراج الجزاء بناء على فتوى ، أو على اشارة أو إذا أخرج الجزاء قبل الحكم ، فان فعل لزمه اخراج الجزاء ثانية بعد الحكم ، ويجب أن يصدر الحكم ممن هو أهل ، من فقهين عدلين ويكفي أن يكون عالمين بجزاء الصيد ، ولا يجزىء حكم الواحد ، وقيل يجزيء ولو كان القاتل الصيد ، واتباع النص أولى .
ما يحكم به انحاكمان في جزاء الصيد : -
أوجبت الآية الكريمة الحكم بالمثل جزاء للصيد ، بقوله تعالى : « ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم » ۰
فما هو المقصود بالمثل ، وما حكم ما ليس له مثل ؟.
المقصود بالمثل :
اختلف الفقهاء حول المقصود بالمثل الوارد في الآية ، فقال البعض أن المقصود بالمثل الوارد في الآية الكريمة هو المثل في الشبه والصورة لا المثل القيمی .
أولا – قوله تعالى : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم )) ، وقرأ جماعة من القراء « جزاء ) بالتنوين ، والمعنى أن عليه جزاء من النعم مماثل لما قتل من الصيد ، والدراهم ليست من النعم في شيء ، ومن قال بذلك فقد خالف النص . وعلى قراءه « فجزاء مثل ما قتل » بالاضافة ، يكون - المعنى ، فجزاء مثل ما قتل يجب أن يكون من النعم ، وأن الآية في قوله تعالى : ( يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ) صريحة في أن الجزاء الذي يحكم به العدلان يجب أن يكون هدياً بالغ الكعبة .
ثالثا - ما جرى به عمل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، اذ حكموا في وقائع عديدة ، وأماكن كثيرة ، وأزمان متغايرة تختلف ، معها قيم المتلفات ، ولم يخالفهم أحد فكان اجماعا .
وذهب آخرون إلى أن المقصود بالمثل في الآية هو المثل في القيمة لا الشبهة والصورة ، فمن قتل صيداً قومه بالدراهم واشترى بقيمته هدية ، اذا بلغت قيمة الهدى ، قاله أبو حنيفة وأبو يوسف، . واستدل أصحاب هذا الرأي بالآتي :
أولا - قوله تعالى : "
( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، فمن قتله منكم فجزاء مثل ما قتل من النعم » ۰
أن الشارع نهى عن قتل الصيد نهيا عاماً ، ما له مثل وما ليس له مثل في قوله جل شأنه : « لا تقتلوا الصيد » ، فالألف واللام لاستغراق الجنس ثم قال جل شأنه : « فمن قتله » أى من قتل الصيد فعليه مثلا ، وهذا يشمل ماله نظير وما لا نظير له وهذا هو المثل من حيث المعنى لا المثل من حيث الخلقة والصورة والا لما وجب الجزاء فيما لا نظير له ، وهذا ممتنع . فالجزاء واجب على قاتل الصيد فيما له نظير وما لا نظير له .
ثانيا - أن الله سبحانه وتعالي اشترط في الحكمين العدالة ، وذلك إنما يكون فيما يحتاج فيه إلى النظر والتأمل ، وهذا يكون في المثل من حيث المعنى واما المثل في الصورة فمتشابهة لأن يفتقر الى العدالة .
ثالثا – أن الله سبحانه وتعالى جعل الجزاء على التخيير بين الهدى والأحكام والصيام ، فتعين أن يكون قوله تعالى « من النعم » ليس تفسيرا للمثل والا كان الطعام والصيام مثلا لدخول حرف أو بينهما وبين النعم .