التحكيم / التحكيم بعد ظهور الإسلام / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / اتفاق التحكيم وفقاً لقانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية رقم 27 لسنة 1994 / العرب بعد الاسلام
وبظهور الاسلام في شبه الجزيرة العربية حصل تحول جذري رفع المجتمع العربي من نظام قبلي يطبق الأعراف والعادات بشكل عشوائي الى دولة ذات سيادة وسلطة تبشر بالاسلام وتطبق تعاليمه على كافة شئون الحياة يقودها النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم" ومن بعده الخلفاء الراشدون .
أ - مبدأ التحكيم في الشريعة الاسلامية
أقر الاسلام شرعية التحكيم حيث ورد ذكره في القرآن الكريم عدة مرات: منها قوله تعالى "ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكمـوا بالعدل وهذه الآية تكرس المبدأ العام للتحكيم في الاسلام وهي تتناول خطابا لكل المسلمين ليس موجها للقاضي فقط ولكن موجها لكل من ينظر في نزاع بين الناس.
كما نصت على مبدأ التحكيم آيـة أخـرى من القرآن الكريم حيث يقـول اللـه تعـالى "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وأخرى جاءت آية من القرآن الكريم تحدد بوضوح مـن ميادين التحكيم منها قوله تعالى " وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أن يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما ان الله كان عليما خبيرا .
وقد أجمع الصحابة على صحة التحكيم لفض المنازعات، عندما حدث نزاع بين عمر بن الخطاب ورجل من العامة يدعى أبي بن كعب فاتفقا على تحكيم زيد بن ثابت للفصل في النزاع، وعندما ذهب الخليفة مع خصمه الى زيد دهش وسأل الخليفة عن سبب عدم استدعائه اليه بدل مـن حضوره شخصيا، فأجاب الخليفة" عندما نحتكم نأتي الى بيت المحكم لنطلب اليه الفصل في النزاع - ثم دخل الخليفة وخصمه الى بيت زيد بن ثابت، فأعطاه وسادة ليرتاح اليها، فرفض الخليفة ذلك قائلا "هذا أول تصرف يفتقر الى الانصاف". ويتضح مما سبق أن الخليفة والرجل اتفقا على حل النزاع عن طريق التحكيم واختارا محكما وذهبا اليه في بيته وجلسا أمامه على قدم المساواة وعرض عليه النزاع وفصل فيه ورضيا بحكمه.
وفي عهد الخلفاء الراشدين جرى أول تطبيق عملي للتحكيـم وكـان فـي حالـة النزاع على السلطة وذلك عندما حصل نزاع حول الخلافة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن ابي سفيان ونشبت على أثر ذلك حرب أهلية بين المسلمين وطلب جيش معاوية الاحتكام الى القرآن وعيـن كل منهما حكما من جانبه.
وكذلك أجمع إنتهاء المسلمين على مشروعية التحكيم فالاجماع هو ثالث مصدر للشريعة الإسلامية.
ولم يختلف فقهاء المسلمين حول شرعية التحكيم وانما اختلفوا فقط فيما يتعلق بطبيعة التحكيم وميدان تطبيقه.
ويتقاسم هذا الموضوع نظرتان هما: النظرة الأولى: يرى أصحابها أن التحكيم هو نوع من الصلح، استنادا الى ما جاء بسورة النساء لفض الشقاق بين الزوجين، حيث يلزم اجماع المحكمين ليكون القرار نافذا. وقد استند انصار هذه النظرة الى أنه اذا اعتبر قرار التحكيم ملزما فان ذلك قد يمس القضاة الرسميين، وبالتالي يمس سلطة الامام.
وذهب المذهب الشافعي إلى أن قرار التحكيم لا يقبل التنفيذ الا بموافقة الخصـوم على تنفيذه. وبالتالى فالتحكيم طبقا لهذه النظرة ليس له طابع قضائي، بل هو أقرب للصلح.
والتحكيم عند غالبية فقهاء الشريعة الاسلامية قضاء، ولذا يشترطون في المحكم (أو الحكـم) ما يشترط في القاضي وقت التحكيم ووقت صدور قرار التحكيم. ومع ذلك فالتحكيم في نظرهم أقل شأنا من القضاء لأنه لا يجوز في أمور يجوز فيها القضاء وهي القصاص والحدود كما لا يجوز للمحكم – في القول الراجح – أن يحبس بينما الحبس من سلطة القاضي.
ونخلص مما سبق الى أن المذاهب الاسلامية قررت مبدأ التحكيم وأن هذا المبدأ ليس مقيـدا في تطور مفاهيمه وقواعده الا بما نصت على حظره مصادر التشريع الاسلامي وذلك مثـل حـظـر التحكيم في حقوق الله وحدوده كالحد والقصاص وغيرها.
ب – اتفاق التحكيم في الشريعة الاسلامية
يمكن اللجوء الى التحكيم باحدى وسيلتين: اما بنص في صلب العقد ذاته، واما باتفاق لاحق مستقل أي في عقد خاص بالتحكيم. ولكل من هذين النوعين شروطه في الفقه الاسلامي.
1 - شرط التحكيم الوارد في العقد التحكيم كما سبق القول عقد شأنه شأن سائر العقود فلابد فيه من احترام شروط المتعاقدين، ولم يتطرق الفقه الاسلامي بصورة مباشرة لشرط التحكيم الوارد في العقد ولكن يمكن تأسيسه على ضوء أراء النته الاسلامي للشروط المقترنة بالعقد.
يفرق فقهاء الاسلام بين فئتين من الشروط المقترنه بالعقد هما: الفئة الأولى وهي الشرط الصحيح، وهو شرط مشروع ويجب أن يكون: أ- شرط يقتضيه العقد. ب- شرط يلائم العقـد - ويتعين لصحته الا يكون محل العقد مجهولا أو يخفى مقامرة أو غررا وألا تكون فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد وألا يكون شرط يخفي ربا فيصبح الشرط فاسدا. جـ- شرط جری به تعامل بيـن الناس.
والفئة الثانية هي الشرط الفاسد وقد فرق الفقه الاسلامي بين نوعين من الشروط الفاسدة هما: أ- شرط فاسد يسقط ويبقى العقد صحيحا وهو الشرط الذي لا يحقق منفعة لأحد الأطراف ولا يمكن المطالبة بتنفيذه. ب- شرط فاسد ويؤدى سقوطه الى فساد العقد بكامله.
وبتطبيق القواعد التي أقرها الفقه الاسلامي على الشروط المقترنه بالعقد بصفة عامة فانـه يمكن اعتبار شرط التحكيم لا يقع ضمن دائرة الشروط الفاسدة المقترنه بالعقد بل يعتبر شرطا صحيحا لأنه يلائم العقد وخاصة في عقود التجارة الدولية حيث أصبح شرط التحكيم فيها من أهم الشروط وأكثرها شيوعا. فشرط التحكيم يلائم العقد وان كان سابقا للنزاع ويتضمن أحكاما للحق والعدالة ويحقق منفعة للفريقين على قدم المساواة في تحديد طريقة فض النزاعات الناشئة عن العقد وهو بذلك الوصف شرط صحيح مشروع لا يتضمن غررا أو مقامرة أوربا.
2- اتفاق التحكيم المستقل عن العقد
يرد شرط التحكيم عادة في العقد الأصلي بين الطرفين. على أنه لا يوجد ما يمنع من ورود هذا الشرط في عقد لاحق قبل نشوء أي نزاع، أو على أثر نشوب نزاع معين. واتفاق التحكيم اللاحق للعقد أو اللاحق للنزاع يعتبر منفصلا عن العقد السابق له فيما يتعلق بشروط صحته، ولا ينسحب الى اتفاق التحكيـم شـروط صحة العقد الأول أو مصدر النزاع، فاذا كان محل النزاع صحيحا وشاب اتفاق التحكيم اللاحق عيب من العيوب فانه يكون باطلا بالرغم من صحة العقد الأول والعكس صحيح، بل انه حتى عند ورود إتفاق التحكيم في صورة شرط في العقد الأصلي فإن صحته وبطلانه أيضا ينظر إليهما إستقلالا عن هذا العقد.
ويشترط لصحة اتفاق التحكيم باعتباره عقدا مستقلا ما يشترط لصحة باقي العقـود مـن الرضي، الأهلية، المحل والسبب.
ج- آثار اتفاق التحكيم في الشريعة الاسلامية
يرى الفقهاء أن العقد أو اتفاق التحكيم وان كان عقدا صحيحا الا أنه ليس ملزما لأطرافه وبامكان أي من الأطراف أن يتحلل منه طالما أن المحكم لم يباشر بعد النظر في النزاع، وسبب ذلك أن الفقه الاسلامي يتجه الى اعتبار اتفاق التحكيـم مـن الأمور المدنية والتجارية ذات طبيعة توافق مصالحه أكثر من كونه اختصاصا قضائيا تحكيميا.
والتحكيم في الشريعة الاسلامية اختياري يقوم على اتفاق الطرفين. واذا اتفقا عليه، جـاز لكل منهما الرجوع فيه طالما أن قرار المحكـم لـم يصدر، ولأن المحكم معين من جهتهما فلهما عزله قبل أن يحكم. ، أما اذا حكم، نفذ الحكم ولا يبطله العزل اللاحق هذا هو القول الراجح، وهنـاك غيره يقول لا يشترط دوام الرضا الى حين الحكم، فاذا أقاما البينة عنده (أي عند الحكـم) ثـم بـدا لأحدهما العدول قبل أن يحكم فانه يفصل بينهما ويصح حكمه. وقيل ليـس لأحدهمـا حـق الرجوع بعدما ناشب صاحبه الخصومة، وقيل في المسألة قولان والراجح لا يشترط دوام رضائهما حتى صدور الحكم أما اذا رجعا معا ولم يرتضيا قبل الحكم فلهما ذلك وليس له أن يحكم ولا يمضى حكمه أن صدر رغم ذلك.
وينظر المحكم النزاع كما ينظـره القاضي، يسمع البينة ويقضى بالنكول والاقرار وهو مصدق فيما يجبر به من اقرار أحد الخصمين أمامه بحيث اذا أنكر الخصم ورفع الأمر الى القاضي أخذ القاضي بقول المحكم.
ويرى الفقه الاسلامي أيضا أن اتفاق التحكيم (شرط التحكيم الوارد في العقد الأصلى وكذلك الاتفاق اللاحق على العقد أو النزاع) لا يجرد القـاضـي مـن اختصاصه الأصيل وأن العلاقة بين المحكم والأطراف في عقد التحكيم ترتكز الى تفويض منهم ويجـوز بالتالي لأي منهـم سـحبه قبـل الدعوى. وبناء على ذلك اذا لجأ أحد الأطراف الى القاضي فانه ينظر في النزاع دون أن يأخذ بعين الاعتبار اتفاق التحكيم.
ونخلص مما سبق أن اتفاق التحكيم سواء كان شرطا في صلب العقد أو اتفاقاً لاحقا على العقد أو النزاع في ظل أراء الفقه الاسلامي يظل عقدا معلقا على ارادة الأطراف المعنية ولا ينتـج أثره الالزامي الا عند نظر المحكم في النزاع المقدم من الخصوم.