دراسة فقهية قانونية مقارنة، تسلط الضوء على مصطلح التحكيم الإسلامي، وفق ما تضمنه المعيار الشرعي رقم /32/ الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بشأن التحكيم، لعام 2007م، ووفقاً للقرار رقم: 91 (9/8) بشأن مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي، الصادر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي 1995م، من جهة، ومقارنته بنظم وقواعد التحكيم الوضعية، ومدى مقاربة وانسجام قواعده مع قواعد التحكيم الدولية، من جهة أخرى.
في هذه الدراسة سنلقي الضوء:
أولاً- على نصوص المعيار الشرعي رقم /32/ الصادر عن هيئـة المحاسبة والمراجعـة للمؤسسات المالية الإسلامية بشأن التحكيم، لعام 2007م، والقـرار رقـم: 91 (9/8) بشأن مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي، الصادر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي لعام 1995م، ومقارنة هذه النصوص بنظم وقواعد التحكيم الوضعية، ومدى مقاربـة وانسجام قواعده مع قواعد التحكيم الدولية.
ثانياً- أهم القواعد الجديدة التي تضمنها المعيار الشرعي رقـم (32) والقـرار رقـم: 91 (9/8)، وأهم القواعد التي أغفلها.
تمهيد:
إن الإسلام أقر التحكيم، بل حبذه وفضله دون رفع التخاصم إلى القضاء، وسبقت الـشريعة الإسلامية القانون الوضعي في كثير من قواعد التحكيم ومميزاته. فالتحكيم لو طبق، وخاصة فـي فض نزاعات المؤسسات المالية الإسلامية، لكان باب خير عظيم لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. وبرزت الحاجة في السنوات الأخيرة، لفض النزاعات الخاصـة بالمعـاملات التجاريـة عمومـاً والمتعلقة بالصناعة المالية الإسلامية خصوصا، إلى إيجاد آليات تعتمـد علـى مبـادئ الـشريعة الإسلامية، في فض نزاعاتها، وذلك لتعاظم دور المؤسسات المالية الإسلامية على الساحة الدوليـة، وعدم قدرة القوانين الوضعية على استيعاب بعض خصائص العمل المصرفي الإسلامي.
يقول البروفسور إبراهيم فضل الله: "إن التذرع بأنتفاء قابليـة الـشريعة للتطبيـق علـى المعاملات والاتفاقات التجارية أو المصرفية يتنافى مع تطور القطاع المالي الإسلامي".
ويهدف المعيار الشرعي رقم /32/ إلى بيان المراد بـالتحكيم وشـروطه ومجالـه وصـفات المحكمين وصك التحكيم وقراره، وطرق التحكيم وتنفيذه، وتطبيقاته لدى المؤسسات المالية الإسلامية، ويتناول هذا المعيار التحكيم في المعاملات المالية والأنشطة والعلاقات التي تتم بـين المؤسسات، أو بينها، وبين عملائها، أو موظفيها أو أطراف أخر سواء كانوا في بلد المؤسسة أم في بلد آخر.
حيث أن هذا المعيار تضمن العديد من قواعد إجراءات التحكيم المطبقة دوليا، بينمـا كـان القرار 91 (9/8) بشأن، مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي، الصادر عـن مجلـس مجمـع الفقـه الإسلامي الدولي مختصرا، ولم يواكب قواعد التحكيم الدولية.
إن القواعد التي تضمنها المعيار الشرعي رقم /32/ الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بشأن التحكيم، لعام 2007م، والقرار رقم: 91 (9/8) بشأن مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي، الصادر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي 1995م، تعتبر نقلة نوعية، كونهما (المعيار الشرعي والقرار) يشكلان أول تقنين لهذا العلم بحيث يمكن الرجوع إليه كقانون يطبق على الإجراءات، وتضمن العديد من القواعد التحكيمية المتطورة، المتوافقة مع قواعد قانون اليونسترال، التي وضعت عام 1985 (القانون النموذجي للتحكيم)، وتعديلها الأخير عام 2010، والذي أخذت عنه أغلب قوانين التحكيم الحديثة
أولاً- نصوص المعيار الشرعي رقم /32/ الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بشأن التحكيم، لعام 2007م، والقرار رقم: 91 (9/8) بشأن مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي، الصادر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي 1995م:
- تعاريف:
- التحكيم: عرف المعيار رقم (32) التحكيم: اتفاق طرفين أو أكثر على تولية من يفصل في منازعة بينهم بحكم ملزم.
بينما عرف القرار رقم (91-9/8) التحكيم: التحكيم اتفاق طرفي خصومة معينة، على تولية من يفصل في منازعة بينهما، بحكم ملزم، يطبق الشريعة الإسلامية.
يقصد بالتحكيم الإسلامي: التحكيم الذي تطبق فيه أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية.
طرفا التحكيم: هما المتنازعان طالباً التحكيم، وقد يكونان أكثر من اثنين.
وأورد المعيار رقم (32) في ملحق (ج) التعريفات التالية:
الصلح: طلب التنازل عن بعض ما يراه المحكمون حقاً لأحد أطراف النزاع. يمنع اتخاذه إذا كان أحد أطراف النزاع وكيلاً، إلا بتفويض خاص بذلك، والأولى أن يستند إصدار قرار الصلح إلى النص الصريح في مستند التحكيم بصلاحية المحكمين للحكم بالصلح.
التسوية الاتفاقية: وهي اتفاق أطراف النزاع على تسوية النزاع – خارج مهمة التحكيم- على نحو يقبلونه، ويطلبون من المحكمين إصدار قرار بتلك التسوية، وعلى المحكمين إجابة طلبهم ما لم تكن التسوية على وجه غير مشروع أو مخالفة للنظام العام.
مستند التحكيم: هو الوثيقة التي يوقعها طرفا النزاع بالمصير إلى التحكيم عند نشوبه.
اتفاق التحكيم: هو الشرط أو العقد السابق لنشوب النزاع، بالمصير إلى التحكيم عند نشوبه.
الأخطاء المادية: ماوقع سهواً في الأسماء أو الأرقام، إذا دلت القرينة أو المستندات على وجه التصحيح.
التحكيم المؤسسي: هو اختيار مؤسسة تضم مؤهلين للتحكيم، للفصل في النزاع، وحينئذ لا يشترط تعيين شخص المحكم.
* نلاحظ أن التعاريف الواردة في المعيار رقم (32) والقرار رقم (91-9/8) لا تختلف بمدلولاتها عن التعاريف الواردة في النظم الوضعية، إلا أنه في الفقه الوضعي مصطلح اتفاق التحكيم هو أشمل ويقصد به كل صور الاتفاق على التحكيم.
- مشروعية التحكيم:
أجمع فقهاء الشريعة الإسلامية على مشروعية التحكيم مستندين في ذلك إلى ما ورد في القرآن الكريم:
قوله تعالى:( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيرا ) [النساء: 58].
وقوله تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) [النساء: 65].
وقال جل جلاله: ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله و لا تكن للخائنين خصيما﴾ [النساء: 105].
وقال أيضاً: « وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ﴾ [المائدة: 49].
وفي السنة النبوية المطهرة:
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حكـم وتحكـم، وشهد ونقل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي بتحكيم سعد بن معاذ رضي الله عنه في أمر اليهود من بني قريظة، حين جنحوا إلى ذلك ورضوا بالنزول على حكمه. (صحيح البخاري- 2816)، وفي الحديث الذي رواه النسائي وغيره عن أبي شريح أن قومه كانوا يكنونه أبا الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: "إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟" فقال: "إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن هذا".
وإجماع الصحابة:
كما ثبت أن الصحابة هم كذلك حكموا وتحكموا في بعض ما كان يثور بينهم من اختلاف وتباين حول أمور حياتهم، كالتحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، في موقعة صفين.
ووفق المادة الرابعة من المعيار (32) "فالتحكيم مشروع، سواء تم بين شخصين طبيعيين أم اعتباريين، أم بين شخص اعتباري وشخص طبيعي". وكذلك وفق المادة الأولى من القرار (9/8-91) "هو مشروع سواء أكان بين الأفراد أم في مجال المنازعات الدولية".
- صفة التحكيم:
تطرق المعيار لمدى إلزامية عقد التحكيم بالنسبة للأطراف وللمحكم، فوفق المادة 5/1 نص المعيار (32): "على أن التحكيم لازم في حق الأطراف في الحالات التالية:
أ- إذا نص في العقد على اشتراط التحكيم.
ب- إذا اتفقا على التحكيم بعد نشوء نزاع وتعهدا بعدم الرجوع عنه.
أما بالنسبة للمحكم: فالتحكيم غير لازم في حق المحكم بغير أجر، فيجوز للمحكم أن يعزل نفسه بعد قبوله. أما إذا كان التحكيم بأجر فهو لازم للمحكم فإن عزل المحكم نفسه وترتب على ذلك ضرر فعلي، فإنه يتحمل مقدار الضرر".
أما المادة الثانية من القرار (91-9/8) فقد نصت على أن "التحكيم عقد غير لازم لكل من الطرفين المحتكمين والمحكم، فيجوز لكل من الطرفين الرجوع فيه ما لم يشرع المحكم في التحكيم، ويجوز للمحكم أن يعزل نفسه – ولو بعد قبوله – ما دام لم يصدر حكمه، ولا يجوز له أن يستخلف غيره دون إذن الطرفين لأن الرضا مرتبط بشخصه".
- إن ما جاء به المعيار الشرعي (32) يتوافق مع ما هي عليه قواعد التحكيم الدولية، وذلك بالنسبة لإلزامية التحكيم بحق الأطراف بمجرد توقيعهم اتفاق التحكيم، سواء كان بصورة شرط قبل وقوع النزاع، أو مشارطة بعد وقوع النزاع، أما بالنسبة لما جاء به القرار (91-9/8) من أنه يجوز للطرفين الرجوع عن التحكيم ما لم يشرع بالتحكيم، وأنه عقد غير لازم في حق الأطراف، فهذا يتنافى مع الإرادة المشتركة لطرفي التحكيم عند اختياره ابتداء كوسيلة لفض نزاعاتهم، فلا يجوز الرجوع عنه بإرادة منفردة، لأن العقد شريعة المتعاقدين. أما آراء الفقهاء بالنسبة للرجوع عن التحكيم:
فقد ذهب الحنفية إلى أن لكل خصم أن يرجع عن التحكيم قبل صدور الحكم، ولا حاجة لاتفاق الخصمين على ذلك، فإن رجع كان في ذلك عزل للمحكم، أما بعد صدور الحكم، فليس لأحد حق الرجوع عن التحكيم، ولاعزل المحكم.
أما عند المالكية: لا يشترط دوام رضا الخصمين إلى حين صدور الحكم، وقال ابن الماجشون: ليس لأحدهما الرجوع ولو قبل بدء الخصومة.
وعند الشافعية: يجوز الرجوع قبل صدور الحكم، ولو بعد إقامة البينة. وعليه المذهب، أما بعد الحكم فلا يشترط رضا الخصم به كحكم القاضي .
وعند الحنابلة: لكل من الخصمين أن يرجع عن التحكيم قبل الشروع في الحكم، أما بعد الشروع فيه، وقبيل تمامه، ففي الرجوع قولان:
أحدهما: له الرجوع لأن الحكم لم يتم، أشبه قبل الشروع.
والثاني: ليس له ذلك، لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع فبطل مقصوده، فإن صدر الحكم نفذة.
- صور اتفاق التحكيم:
حدد المعيار الشرعي رقم (32) ثلاث صور لاتفاق التحكيم: "فالتحكيم إما أن يصار إليه باتفاق حين نشوء النزاع، أن يكون تنفيذاً لاتفاق سابق على اشتراط المصير إلى التحكيم بدلاً من اللجوء إلى القضاء، وقد يصار إلى الاتفاق على التحكيم بإلزام قانوني".
- هذه الصور المتعارف عليها حاليا وهي شرط التحكيم، ومشارطة التحكيم، والتحكيم بإلزام القانون (التحكيم الإجباري) كالتحكيم في سوق الأوراق المالية والسلع في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث أن من يتعامل بهذا السوق يرضى ضمناً بالتحكيم، مما ينفي الطبيعة الاتفاقية للتحكيم، فهو تحكيم إلزامي .
إلا أن هناك صوراً أخرى لاتفاق التحكيم لم يتضمنها المعيار وهي التحكيم بالإحالة، والاتفاق على التحكيم في الدعاوى المرفوعة أمام القضاء.
- مستند التحكيم (اتفاق التحكيم): تناولت المادة التاسعة من المعيار رقم (32) صور اتفاق التحكيم وما يجب أن تتضمن كل صورة، فحددت (مشارطة التحكيم) بعبارة مستند التحكيم، وأوضحت بالفقرة 9/1 "أنه ينشأ مستند التحكيم عن موافقة طرفي النزاع وموافقة المحكم على مهمة التحكيم ويسمى (عقد التحكيم) أو (اتفاق التحكيم)، ويجب أن يشتمل مستند التحكيم على أسماء طرفي النزاع والمحكم ومجمل موضوع النزاع، والأجل المحدد للتحكيم، وأتعاب المحكم إن وجدت".
- مما يؤخذ على هذه الفقرة: إنه يمكن الاتفاق على التحكيم في مشارطة التحكيم، دون الحاجة الى تسمية محكم باسمه أو الحصول على موافقته المسبقة، أو تحديد أتعابه.
وفي الفقرة 9/3 تم تعريف شرط التحكيم: "هو التزام طرفي عقد أو اتفاقية بإخضاع النزاعات التي تتولد عنهما للتحكيم، فإذا أدرج في أي اتفاقية أو عقد شرط التحكيم، فإنه يكتفى به عن الاتفاق عند نشوء النزاع".
كما يمكن تضمين اتفاق التحكيم وفق الفقرة 9/5 أي شرط مشروع يتعلق به غرض صحيح لهما، مثل: "إنجاز الحكم في زمن معيـن، أو وفقاً لمذهب معين أو قانون معين لا يخالف الشريعة الإسلامية، أو استشارة خبراء يتم تعيينهم بالاسماء والصفة ولا يلزم المحكم برأي الخبراء".
- القانون الواجب التطبيق على الموضوع:
والفقرة 9/4 "أوجبت على المحكم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وإذا قيد المحكم بقانون معين فيجب عليه عدم مخالفة أحكام الشريعة"، فإذا أختار الأطراف القانون المدني اللبناني، کقانون واجب التطبيق على موضوع النزاع، فعلى المحكم تطبيقه بما لا يخالف مبادئ الشريعة الإسلامية، فعلى المحكم عدم الحكم بالفائدة تطبيقا للقانون المدني اللبناني، وذلك مراعاة لمبادئ الشريعة الإسلامية التي تحرمها.
أما بالنسبة للقوانين التي لا يمكن تقييدها بعدم التعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، فيجب على الأطراف أن يضمنوا اتفاق التحكيم وجوب الرجوع الى التحكيم الإسلامي، حيث جاء بالمعيار بالفقرة 3/2 "يجب النص على وجوب الرجوع إلى التحكيم الإسلامي في الاتفاقيات التي لا يمكن تقييد الرجوع فيها للقوانين بعدم التعارض مع الشريعة الإسلامية".
فإن تضمن شرط التحكيم وجوب تطبيق القانون التجاري الفرنسي بما لا يخالف الشريعة الإسلامية، إلا إن القانون التجاري الفرنسي لا يمكن تقييده، ففي هذه الحالة يجب إبتداء وجوب النص على تحكيم الشريعة الإسلامية في اتفاق التحكيم، وهذا يتطلب دراية واسعة من رجل القانون الذي يقوم بصياغة اتفاق التحكيم.
- انتهاء أجل التحكيم:
كما تطرق المعيار الى تاريخ بدء سير العملية التحكيمية وانتهائها ولمسألة إنتهاء مدة التحكيم دون صدور قرار التحكيم، ففي الفقرة 9/6 "نص على أنه إذا انتهى الأجل المحدد لإصدار الحكم دون صدوره اعتبر المحكم معزولا إلا بموافقة طرفي النزاع على تمديد الأجل، ويعتبر لبدء المدة تاريخ اكتمال توقيع مستند التحكيم من جميع المحتكمين، ولانتهائها توقيع قرار التحكيم من جميعهم".
- الكتابة شرط لاتفاق التحكيم: -
أخذ المعيار بشرط الكتابة بالنسبة لاتفاق التحكيم، وذلك كشرط إثبات وليس كشرط صحة، وذلك عندما نص في الفقرة 9/7 على أنه يصح شرعا عقد التحكيم شفويا، وينبغي في المؤسسات توثيق مستند الحكم كتابياً".
أركان عقد التحكيم:
حدد المعيار رقم (32) في المادة 6/1 "بأن ركن التحكيم الصيغة (تبادل الإيجاب والقبول) بين طالبي التحكيم والمحكم. واشترط في المادة 6/2 لصحة التحكيم الشروط التالية:
أ- قيام نزاع بين طرفين أو أكثر حول حق مشروع.
ب- اتفاق طرفي النزاع على التحكيم، وتراضيهما على قبول حكم المحكم.
ج- قبول المحكم مهمة التحكيم".
إن ما جاء في المادة السادسة لجهة إن إتفاق المتخاصمين والمحكم على قبول مهمة التحكيم، هذان الاتفاقان يشكلان ركن التحكيم، وأما شروطه فهي نشؤ النزاع بين الأطراف واتفاقهم على التحكيم وتعيين محكم وقبوله بالمهمة، ينطبق على مشارطة التحكيم، ولا ينطبق على باقي صور اتفاق التحكيم الأخرى (شرط التحكيم).
- مجال التحكيم (ما يجري فيه التحكيم شرعاً) وما لا يجوز فيه التحكيم:
تناول المعيار رقم (32) في المادة السابعة نطاق التحكيم حيث نص على أنه "يجوز التحكيم في كل ما يصلح لكل واحد من الطرفين ترك حقه فيه، ولا يجوز التحكيم في:
- كل ما هو حق الله تعالى، مثل الحدود.
- ما يستلزم الحكم فيه إثبات حق ونفيه بالنسبة لغير المحتكمين".
أما المادة الثالثة من القرار (91-9/8) فقد نصت على أنه "لا يجوز التحكيم في كل ما هو حق الله تعالى كالحدود، ولا فيما استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه بالنسبة لغير المتحاكمين ممن لا ولاية للحكم عليه، كاللعان، لتعلق حق الولد به، ولا فيما ينفرد القضـاء دون غيره بالنظر فيه".
اختلف الفقهاء المسلمون فيما يصلح أن يكون محلا للتحكيم:
فعند الحنفية: لا يجوز التحكيم في الحدود الواجبة حقاً الله تعالى باتفاق الروايات، أما القصاص، فقد روي عن أبي حنيفة أنه لا يجوز التحكيم فيه، وليس للحكم أن يحكم في اللعان، ذلك أن اللعان يقوم مقام الحد.
وأما المالكية: فإن التحكيم عندهم جائز إلا في ثلاثة عشر موضعاً هي: الرشد، وضده، والوصية، والحبس (الوقف)، وأمر الغائب، والنسب، والولاء، والحد، والقصاص، ومال اليتيم، والطلاق، والعتق، واللعان، لأن هذه مما يختص بها القضاء ، وسبب ذلك أن هذه الأمور إما حقوق يتعلق بها حق الله تعالى، كالحد والقتل والطلاق، أو حقوق لغير المتحاكمين، كالنسب، واللعان.
وأما الشافعية: فإن التحكيم عندهم لا يجوز في حدود الله تعالى .
وأما الحنابلة: فقد اختلفوا في ما يجوز فيه التحكيم، ففي ظاهر كلام الإمام أحمد أن التحكيم يجوز في كل ما يمكن أن يعرض على القاضي من خصومات .
- أما في الفقه الوضعي: فإنه لا يجوز التحكيم في:
1- المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، فما يجوز فيه الصلح يجوز فيه التحكيم.
2- المسائل المخالفة للنظام العام (ما يكون فيه حجة على الكافة لا يجوز التحكيم فيه).
3- المسائل المتعلقة بالجنسية، منحها وسحبها.
4- المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية (الزواج وانحلاله، والولادة ونتائجها، والأهلية، والنيابة الشرعية، والوصية، والمواريث).
إلا أنه يجوز التحكيم في الآثار المالية المترتبة على هذه المسائل (كأن يتم اللجوء الى التحكيم في الدعاوى الجزائية بما يخص الشق المتعلق بالتعويض، وكذلك في الدعاوى الشرعية فيما يخص مقدار المهرين والنفقة وكافة الآثار المالية الأخرى).
صفات المحكم وتعيينه:
يشترط في المحكم أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً عدلاً معيناً بالاسم أو بالصفة، أهلاً للقضاء ويحمل الشهادة، غير خصم، وعالماً بموضوع الخلاف. فهذه الشروط مطلوبة التحقق في من تسند إليه مهمة التحكيم.
1- أن يكون المحتكم إليه مسلماً.
2- أن يكون بالغاً عاقلاً صحيح الفكر والتمييز، جيد الفطنة بعيداً من السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل.
3- أن يكون المحتكم إليه معلوماً ومعيناً بالاسمأ وبالصفة.
4- أن يكون ذكراً، وأجاز الحنفية تحكيم المرأة فيما تصح فيه شهادتها، وشد ابن جرير الطبري فجوز قضاءها في جميع الأحكام.
5- أن لا يكون بينه وبين أحد الخصمين قرابة تمنع من الشهادة؛ كأن يكون أحد فروعه أو أصوله أو زوجته؛ للتهمة.
6- العدالة: بأن يكون صادق اللهجة ظاهر الأمانة عفيفاً عن المحارم، متوقياً المآثم، بعيداً عن الريب، مأموناً في الرضا والغضب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه، فإذا تكاملت فيه فهي العدالة التي تجوز بها شهادته وتصح معها ولايته.
ولقد حددت المادة الثامنة من المعيار رقم (32) صفات وشروط المحكم وعدد المحكمين وتعيينه، حيث يشترط في المحكمين بحسب الأصل "شروط القضاء شرعا ومنها الحياد، ويغتفر عند الحاجة تخلف بعض شروطه، مثل شرط الإسلام، على أن يكون حكم غير المسلم بما لا يخالف الشريعة. حيث يشترط في المحكم أن تتوافر فيه أهلية الأداء الكاملة، والأصل أن يكون المحكم مسلما، وإذا دعت الحاجة المتعينة إلى اختيار محكم غير مسلم فيجوز ذلك للتوصل لما هو جائز شرعا".
أما المادة الرابعة من القرار (91-9/8) فقد نصت على "أن يشترط في المحكم بحسب الأصل توافر شروط القضاء".
أما بالنسبة لعدد المحكمين "يجوز تحكيم واحد أو أكثر، والأولى أن يكون العدد فردياً، فإن لم يكن كذلك فيعين أطراف النزاع أو المحتكمون أحد المحكمين رئيساً لهيئة التحكيم، ويكون رأيه مرجحاً عند تساوي الآراء".
أما لجهة تعيين المحكم: "يجوز تعيين محكم واحد عن كل طرف من أطراف النزاع، كما يجوز للمحكميـن المعينين عن الطرفين أن يعينا محكماً فيصلا، إذا أذن لهما طرفا النزاع بذلك".
إذا لم يعين أحد طرفي النزاع محكماً عنه تنفيذاً لشرط التحكيم في العقد "يحق للطرف الآخر الرجوع للقضاء لاختيار محكم عن الطرف الممتنع إن لم يكن في شرط التحكيم نص لطريقة تعيين المحكم الآخر".
- يجوز للقاضي أن ينيب قاضياً آخر عنه للقيام بأحد أعماله، فهل للمحكم أن ينيب غيره في كل أو بعض مهامه؟ تطرق المعيار الى هذه المسألة فنص على أنه: "لا يجوز للمحكم أن يستخلف غيره إلا بإذن من اختاره للتحكيم، لأن الرضا به مرتبط بشخصه، إلا إذا كان التحكيم لمؤسسة أو لجنة تحكيمية، وكان تعيين أعضائها مراعي فيه شروط تشكيلها المعلنة".
كما ألزم المعيار الوكيل والمضارب، بإذن خاص لإبرام اتفاق التحكيم، وبالتالي الوكالة العامة، وعقد المضاربة لا يخولان الوكيل والمضارب إبرام اتفاق التحكيم، كما أن من يبرم اتفاق تحكيم عن شخصية اعتبارية يجب أن يمثلها رسمياً ومفوض بذلك، عندما نص على أنه "لا يحق للوكيل أو المضارب الموافقة على التحكيم إلا برضا الموكل، أو أرباب المال، أو بالنص على ذلك في شروط المضاربة مثل شروط حسابات الاستثمار، ولا يكون طرفاً في التحكيم عن المؤسسة ذات الشخصية الاعتبارية إلا من يمثلها رسمياً".
- طرق الحكم، والإجراءات والإثبات في التحكيم:
تناول المعيار رقم (32) في المادة العاشرة إجراءات التحكيم، ففي الفقرة 10/2,1 نص على أنه يحق "للمحكم الأخذ بجميع طرق الحكم المقبولة في القضاء، مثل الإقرار، والبينة (الشهادة)، والتحليف، والحكم بالنكول، ولا يحق له الحكم بعلمه الشخصي، وإذا رد المحكم الشهادة لم يمتنع قبولها في تحكيم آخر أو في القضاء وإنما يمتنع قبولها إذا ردت في القضاء، ويحق للمحكم طلب الوثائق والمستندات وكل ما يتعلق بموضوع النزاع أو صور عنها بعد مقارنتها بأصولها مع إطلاع الطرفين عليها لإبداء رأيهما فيها. كما يحق له طلب إفادات شفوية أو مكتوبة من طرفي النزاع أو من الشهود والرجوع إلى الخبراء عند الحاجة"، وفي الفقرة 10/4,3 تناول مسألة القانون الواجب التطبيق على الإجراءات، فنص على أنه "لا يطلب في التحكيم تطبيق الأصول الإجرائية المطلوبة في القضاء، كما لا يلزم المحكم التقيد بالقوانين ما لم تكن من النظام العام، ولا يقتصر المحكم على قواعد الإثبات المنصوص عليها قانوناً، بل يحق له الاستناد إلى أي دليل آخر لا يتنافي قبوله مع أحكام الشريعة". وهنا لم يتناول المعيار مسألة عند اختيار الأطراف القانون الواجب التطبيق على الإجراءات هل هو ملزم لهيئة التحكيم أم لا؟
وفي الفقرة 10/5 تناول المعيار مسألة إصدار حكم التحكيم، فنص على أنه" يصدر قرار التحكيم بالإجماع، أو بالأغلبية، وإذا تساوت الأصوات يرجح الطرف الذي فيه الرئيس، وإذا كان في مستند التحكيم أو لوائح الجهة المحتكمة ما ينظم ذلك على وجه آخر فیلتزم به".
مما يستخلص منه بأنه يمكن أن يكون عدد أعضاء هيئة التحكيم زوجياً.
- إصدار قرار التحكيم:
تناول المعيار رقم (32) في المادة الحادية عشرة الشروط الواجب توافرها في حكم التحكيم وهي:"
- يشترط لصحة قرار التحكيم اتفاق الحكم مع أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية.
- ينبغي أن يتضمن قرار التحكيم النهائي الفصل في جميع نقاط النزاع وتحديد حقوق أطرافه على أساس العدل. وإذا اقتصر المحكم على معالجة بعض جوانب النزاع فإن التحكيم لا يكون تاماً لعدم إغنائه طرفي النزاع عن الرجوع إلى القضاء.
- لا يجوز تجاوز موضوع النزاع، وتعتبر القضايا الخارجة عنه ليست من صلاحيات المحكم، إلا إذا وافق طرفا النزاع على إلحاقها بموضوع التحكيم.
- يشتمل قرار التحكيم على نص الحكم وأسماء طرفي النزاع وهوياتهم وعناوينهم والإشارة إلى مستند التحكيم وتاريخه، وملخص موضوع النزاع وملخص ادعاءات طرفي النزاع ومستنداتها، وأسماء الشهود والخبراء المستعان بهم إن وجدوا، وأسماء المحكمين إن كانوا متعددين، ومكان إصدار القرار وتاريخه، وتواقيع المحكمين، وكذلك توقيع طرفي النزاع إن أمكن، وأسباب القرار، إلا إذا تضمن مستند التحكيم الإعفاء من بيانها ولم يوجد اشتراط قانوني، فالأولى بيان المستند الشرعي والقانوني لقرار التحكيم (التسبيب) وليس شرطاً إلا إذا كان القانون يشترط ذلك".
- يصدر قرار التحكيم بتوقيع جميع المحكمين في حال تعددهم بمن فيهم المعارضون مع إثبات تحفظهم أو معارضتهم، ويمكن توقيعه من أكثرية المحكمين مع بيان سبب عدم توقيع الآخرين، شريطة صدور القرار بمعرفتهم جميعاً من خلال محضر جلسة إصدار القرار.
- لا يشترط إصدار قرار التحكيم في مواجهة طرفي النزاع وإن كان الأولى إصداره بحضورهما لاختصار إجراءات التبليغ.
- مداولة الحكم:
يصدر حكم التحكيم بعد المداولة مكتوباً في أغلب النظم الوضعية، أما المعيار الشرعي رقم (32) في المادة الحادية عشرة الفقرة /5/ فقد نص على أن "الأصل إصدار قرار التحكيم في مجلس يضم المحكمين إن كانوا متعددين أو أكثرهم بعد دعوتهم، ويمكن إصداره بالتمرير بعد إعداده من المحكم الفيصل أو رئيس هيئة التحكيم أو أحد المحكمين بتكليف منهم وإرساله إلى باقي المحكمين لإقراره شريطة تحقق الإجماع في حالة التمرير".
- إصدار قرار إضافي أو تفسيري أو تصحيح:
اجاز المعيار لأطراف النزاع "مطالبة المحكم باستكمال القرار بقرار تحكيم إضافي للفصل في النقاط التي لم يعالجها القرار الأصلي".
كذلك أجاز" للمحكم، بناء على تقديره أو بطلب طرفي النزاع، إصدار تفسير لقرار التحكيم، وكذلك تصحيح الأخطاء المادية التي وقعت فيه".
كذلك أعطى صلاحيات لهيئة التحكيم بحقها "تجزئة إصدار القرار بإصدار قرارات تمهيدية أو جزئية أو تحديد المسؤولية دون تقدير التعويض".
- التسوية الودية:
للأطراف الاتفاق على الصلح أثناء سير الإجراءات، وعلى الهيئة تثبيته، كما أغلب النظم الوضعية، حيث أجاز المعيار رقم (32) بالفقرة 11/13 على أنه "يجوز أن يصدر قرار التحكيم بالصلح بضوابطه الشرعية أو بالتسوية الاتفاقية".
- قرار التحكيم يصدر مبرما وواجب التنفيذ:
متى أصدر المحكم حكمه، أصبح هذا الحكم ملزماً للخصمين المتنازعين، وتعين إنفاذه دون أن يتوقف ذلك على رضا الخصمين، وعلى ذلك رأي الفقهاء، وحكمه في ذلك كحكم القاضي.
وجاء في المعيار أنه على هيئة التحكيم "الأولى تذييل القرار بالطلب أو التوصية للجهات القضائية والجهات الرسمية المختصة لتنفيذ قرار التحكيم بجميع الوسائل النظامية المتبعة، ولا يشترط رضا طرفي النزاع بقرار التحكيم، وهو ملزم لهما تلقائيا".
تصدر أحكام التحكيم طبقاً لأحكام القوانين الوضعية مبرمة غير خاضعة لأي طريق من طرق الطعن، ومع ذلك يجوز رفع دعوى بطلان حكم التحكيم، وفقاً لحالات محددة حصراً.
إبلاغ قرار التحكيم، ونفاذه:
حددت المادة الثانية عشرة من المعيار رقم (32) طرق تبليغ حكم التحكيم حيث نصت على أنه "ينبغي إبلاغ طرفي النزاع بقرار التحكيم بالطرق المعتادة، ما لم يحدد مستند التحكيم أو متطلب قانوني طريقة معينة للإبلاغ، ويتم إبلاغهما مع التوقيع عليه، ولا يشترط لنفاذ التحكيم الإشهاد على إبلاغ طرفي النزاع قرار التحكيم أو على رضائهما به، لكن الأولى الإشهاد لتجنب المنازعة".
وكذلك بينت بأنه "لا يشترط لنفاذ التحكيم التسجيل الرسمي لقرار التحكيم أو إيداعه في المحكمة المختصة، والأولى إجراء ذلك إذا كان إعطاء الصفة التنفيذية له قانوناً يتطلب التسجيل أو الإيداع مع مراعاة المواعيد المحددة لذلك، وأنه إذا كتب قرار التحكيم بأكثر من لغة فيجب تحديد اللغة المعتمدة عند الاختلاف، وينبغي تسليم نسخة موقعة من القرار لكل طرف من طرفي النزاع، احتفاظ كل واحد من المحكمين إذا كانوا متعددين بنسخة موقعة".
وهذا ما نصت عليه غالبية قوانين التحكيم والقواعد الدولية.
تنفيذ الحكم (الصيغة التنفيذية للحكم)، أو نقضه:
رسمت المادة الثالثة عشرة من المعيار رقم (32) سبيل تنفيذ حكم التحكيم بأن "الأصل أن يتم تنفيذ الحكم من المحتكمين طواعية، فان أبي أحد المحتكمين يحق للآخر رفع الأمر إلى القضاء لتنفيذه، وعليه لا يصار إلى التحكيم إذا كان لا يمكن تنفيذه، ويجوز الرجوع إلى المحاكم التي لا تلتزم الأحكام الإسلامية لإعطاء الصفة التنفيذية لقرار التحكيم الشرعي".
أما المادة الخامسة من القرار (91-9/8) فقد نصت على أن "الأصل أن يتم تنفيذ حكم المحكم طواعية، فإن أبي أحد المحتكمين، عرض الأمر على القضاء لتنفيذه".
وهذا ما عليه كافة التشريعات في حال عدم التنفيذ الطوعي لحكم التحكيم، ينفذ جبـراً عـن طريق القضاء.
- الطعن في قرار التحكيم:
يجوز الطعن في قرار التحكيم، وذلك في الحالات التالية:
1- إذا قضى المحكم فيما لا يجوز فيه التحكيم فحكمه باطل ولا ينفذ وفق المادة السابعة من المعيار رقم (32).
2- مخالفته أحكام الشريعة الإسلامية، وفق المادة الحادية عشرة من المعيار رقم (32).
3- مخالفته للنظام العام، وفق المادة الحادية عشرة من المعيار رقم (32).
4- أما المادة الخامسة من القرار (91-9/8) فقد نصت على "أن ليس للقضاء نقض حكم التحكيم، ما لم يكن جوراً بيناً، أو مخالفاً لحكم الشرع".
كما أن المعيار لم يبين الجزاء المترتب على إغفال أحد البيانات التي يجب أن يتضمنها حكم التحكيم، هل يدخل ضمن حالات البطلان أم لا.
- كما أن المعيار رقم (32) أنفرد عن باقي تشريعات التحكيم بمسألة رجوع المحكم عن الحكم حيث نص في المادة 13/3 على أنه "ليس للمحكم الرجوع عن حكمه إلا إذا صرح بأنه أخطأ فيه فله حينئذ إلغاؤه أو تعديله بمقتضى الشريعة وما يحقق العدل".
ونورد في هذا المقام جزءا من رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري حول القضاء "من عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري القاضي" . ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك إن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".
أما حالات البطلان التي نصت عليها النظم الوضعية هي:
أسباب البطلان التي تتعلق باتفاق التحكيم، وأسباب تتعلق بأهلية أطراف التحكيم، وأسباب تتعلق بضمانات حق التقاضي، وأسباب تتعلق باستبعاد حكم التحكيم للقانون الذي اتفق الأطراف على تطبيقه على موضوع النزاع، وطريقة اختيار هيئة التحكيم، وأسباب تتعلق بفصل حكم التحكيم في مسائل لا يشملها اتفاق التحكيم أو جاوز حدود هذا الاتفاق، وأسباب تتعلق بحكم التحكيم أو بإجراءات التحكيم أثرت فيه، وأسباب تتعلق بالنظام العام.
مصروفات التحكيم، وأجور المحكم:
ويعتبر المعيار قد خطا خطوة إيجابية في تفصيله مسألة مصروفات التحكيم وأجور المحكم، حيث نصت المادة الرابعة عشرة منه على أنه "يحق للمحكم إذا لم يكن متطوعاً أو موظفاً عاماً مخصصاً للتحكيم الحصول على أجرة (أتعاب) عن مهمة التحكيم يتم الإعلان عن مقدارها أو نسبتها في شروط التحكيم المؤسسي أو يتفق عليها في مستند التحكيم، وإذا كانت هناك مصروفات انتقال المحكم أو الشهود أو الخبراء أو مصروفات طباعة.. الخ أو أجور للمحكم (أتعاب) فيجب النص في القرار على الطرف الذي يتحملها، مع مراعاة أن المصروفات الناشئة عن طلب أي طرف يتحملها بمفرده، والمصروفات المشتركة تقسم على أطراف النزاع ما لم يثبت سوء النية أو التسبب الضار فيها من أحدهم فيتم تحميلها له، هذا ما لم يتم الاتفاق على تحميل المصروفات والأتعاب لأحد الطرفين أو للمحكوم عليه".
- التحاكم إلى محاكم غير إسلامية:
وفي المادة السادسة من القرار (91-9/8) يجيز المجمع الفقهي، إذا لم تكن هناك محاكم دولية إسلامية، احتكام الدول أو المؤسسات الإسلامية إلى محاكم دولية غير إسلامية، توصلاً، الى ما هو جائز شرعاً.
لكنه يوصي بدعوة الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إلى استكمال الإجراءات اللازمة لإقامة محكمة العدل الإسلامية الدولية، وتمكينها من أداء مهماتها المنصوص عليها في نظامه.
هذه هي قواعد ومبادئ التحكيم التي تضمنها المعيار الشرعي رقم /32/ الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بشأن التحكيم، لعام 2007م، والقرار رقم: 91 (9/8) بشأن مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي، الصادر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي لعام 1995م.
ثانياً- أهم القواعد الجديدة التي تضمنها المعيار الشرعي رقم (32) والقرار رقم: 91 (9/8)، وأهم القواعد التي أغفلها:
- القواعد الجديدة:
- مما تميز به المعيار بأنه بالنسبة للصلح: طلب التنازل عن بعض ما يراه المحكمون حقاً لأحد أطراف النزاع. يمنع اتخاذه إذا كان أحد أطراف النزاع وكيلاً إلا بتفويض خاص بذلك.
- أما بالنسبة لعدد المحكمين "يجوز تحكيم واحد أو أكثر، والأولى أن يكون العدد فرديا، فإن لم يكن كذلك فيعين أطراف النزاع أو المحتكمون أحد المحكمين رئيسا لهيئة التحكيم، ويكون رأيه مرجحاً عند تساوي الآراء"، وبهذا يكون للمحكم رئيس الهيئة صوتان، وهذا أحد الحلول المقترحة للوصول الى الوترية عندما يكون عدد أطراف النزاع فردياً (ثلاثة، خمسة).
- كما يمكن أن يكون عدد أعضاء هيئة التحكيم زوجياً، بدلالة ما نص عليه المعيار: "يصدر قرار التحكيم بالإجماع، أو بالأغلبية، وإذا تساوت الأصوات يرجح الطرف الذي فيه الرئيس".
- الإذن الخاص بإبرام اتفاق التحكيم: "لا يحق للوكيل أو المضارب الموافقة على التحكيم إلا برضا الموكل، أو أرباب المال، أو بالنص على ذلك في شروط المضاربة مثل شروط حسابات الاستثمار، ولا يكون طرفاً في التحكيم عن المؤسسة ذات الشخصية الاعتبارية، إلا من يمثلها رسميا".
- لا يجوز للمحكم أن يستخلف غيره إلا بإذن من اختاره للتحكيم، لأن الرضا به مرتبط بشخصه، إلا إذا كان التحكيم لمؤسسة أو لجنة تحكيمية، وكان تعيين أعضائها مراعي فيه شروط تشكيلها المعلنة.
- أنفرد عن باقي تشريعات التحكيم بمسألة رجوع المحكم عن الحكم حيث نص في المادة 13/3 على أنه "ليس للمحكم الرجوع عن حكمه إلا إذا صرح بأنه أخطأ فيه فله حينئذ إلغاؤه أو تعديله بمقتضى الشريعة وما يحقق العدل".
- قواعد التحكيم الدولية التي لم يتضمنها المعيار:
أبرز القواعد التي تم أغفالها: عدم الإفصاح عند قبول المهمة: حيث يتوجب على المحكمين عند قبولهم المهمة أن يصرحوا كتابة عن كل ما يثير الشكوك حول حيادهم واستقلالهم، وهذا مبدأ دولي مستقر، اختصاص هيئة التحكيم باتخاذ إجراءات تحفظية، والأخذ بمبدأ استقلال شرط التحكيم، وقاعدة الاختصاص بالاختصاص، ومبدأ المداولة، ومنع نشر حكم التحكيم، لم يتطرق الى مسألة سقوط اتفاق التحكيم، ولا الى مسألة انقطاع الخصومة التحكيمية، ولا إلى سرية الجلسات والمداولة، وعدم ذكر حالة عدم تمكن هيئة التحكيم من الاجتماع مجدداً لإصدار حكم بالتصحيح أو التفسير أو حكم إضافي، وتم إغفال مسألة إقفال باب المرافعة، ولم ينص على تحديد بدء مدة التبليغ، وعدم تناول عزل ورد المحكم، وتحديد مكان ولغة التحكيم، كما لم يتم التطرق الى: هل يمكن التظلم من القرار الصادر بمنح أو عدم منح الصيغة التنفيذية؟ كما لم يتطرق كذلك الى: هل يمكن التظلم من الحكم الصادر بالبطلان أو بعدم البطلان؟ وعدم ذكر حقوق الدفاع: حيث يجب على هيئة التحكيم احترام حق الدفاع، وهذا الحق هو من النظام العام، ومن هذه الحقوق المساواة واتاحة الفرص المتكافئة للأطراف لعرض أوجه دفاعهم، فعلى الهيئة أن تتمتع بالحياد والاستقلال تجاه الخصوم. ونورد في هذا المقام نموذجاً عن الحياد والاستقلال في التاريخ الإسلامي، حيث يشير بعض المراجع إلى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قد وقع له خصام مع رجل من عامة الناس يسمى إبن أبي كعب، فحكما زيد بن ثابت الأنصاري، وذهبا إلى المحكم الذي تفاجأ بحضور الخليفة إليه، وسأله عن سبب قدومه عليه مع أنه كان بإمكانه أن يدعوه إليه بدل القدوم، فأجابه عمر بأن الاحتكام يقتضي ذهاب الخصوم إلى مجلس الحكم، ثم أنه دعاهم للدخول الى بيته وقدم الى الخليفة وسادة ليجلس عليها، ولم يفعل ذلك مع خصمه، فرفض ما قدم له، معتبراً ذلك يحيد بالمحكم عن الانصاف كما نذكر بالرسالة التي بعثها إلى أبي موسى الأشعري عندما ولاه قضاء الكوفة: (آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك).
- الخاتمة:
ونورد أهم الملاحظات على القواعد التي تضمنها المعيار الشرعي رقم (23) والقرار رقم: :91 (9/8)
- مما يؤخذ على المعيار استخدام عبارات "لا يشترط، لكن الأولى"، و"يجوز والأولى" و"الأصل ويمكن" و "ينبغي" هذه العبارات لا يحبذ استخدامها عند صياغة القواعد القانونية، التي يجب أن تكون واضحة الدلالة والمعنى، كما لا يمكننا بذلك من تحديد القواعد الآمرة، التي لا يحق لأطراف النزاع الاتفاق على ما يخالفها، من القواعد غير الآمرة التي يمكن الاتفاق على مخالفتها من قبل الأطراف، أو من قبل هيئة التحكيم.
- التناقض بين الأحكام التي تضمنها المعيار والأحكام التي تضمنها القرار لجهة إلزامية التحكيم بالنسبة للأطراف.
لكنه بالمجمل يعتبر خطوة متطورة، تحتاج الى خطوات أخرى ليواكب التحكيم الإسلامي قواعد التحكيم الدولي، ويتم تقنينه لكي يمكن تطبيقه، فعلى المتخصصين من قانونيين وشرعيين أن يعكفوا على قراءة جديدة لهذا المعيار وفق القواعد الدولية الحديثة.
وفي الختام ننوه بما أعلنه الدكتور عبد الستار الخويلدي الامين العام للمركز الإسلامي الدولي للمصالحة والتحكيم، أن المركز اعتمد معلمة زايد للقواعد الفقهية والاصولية مصدراً مهماً ومرجعاً أساسياً في تنظيم أعمال التحكيم والعقود في الصناعة المالية الاسلامية.
وذكر أن ما يطرح اليوم أمام الخبراء ليس موضوعاً قانونياً بحتاً، لكن لا بد من الجمع بين الأبعاد القانونية والشرعية بسبب التداخل بينها، وقد وفرت معلمة زايد مرجعاً مهماً لفقه المعاملات.
هذه أبرز ملامح التحكيم الإسلامي وفق ما تضمنه المعيار الشرعي رقم /32/ الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بشأن التحكيم، لعام 2007م، ووفقاً للقرار رقم: 91 (9/8) بشأن مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي، الصادر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي 1995م، بما له وما عليه، وإن انتقاد أي نظم أو قوانين هو عمل أسهل بكثير من وضعها، لكن الهدف من النقد هو الوصول إلى نظم وقواعد تطبق على التحكيم الإسلامي تحاكي القواعد المعمول بها دولياً.