الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم في الشريعة الإسلامية / المجلات العلمية / المجلة اللبنانية للتحكيم العربي والدولي العدد 26 / التحكيم في منازعات عقود التمويل الإسلامي

  • الاسم

    المجلة اللبنانية للتحكيم العربي والدولي العدد 26
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    18

التفاصيل طباعة نسخ

التحكيم في منازعات عقود التمويل الإسلامي 

يثير التحكيم في الصناعة المالية الاسلامية عدة تساؤلات هامة ومستحقة، وتتمحور تلك التساؤلات حول ماهية وطبيعة التحديات والصعوبات التي تواجهها هذه الصناعة وخصوصا في مجال تسوية المنازعات؟ وما هي أسباب وعوامل تلك الصعوبات ؟ وهل يمكن لنظام التحكيم اليوم أن يلعب دورا محوريا في تفاديها والتغلب عليها ؟

 في الحقيقة ، شهدت الصناعة المالية الاسلامية اليوم تطورات كبيرة ومتسارعة، وإنتشرت كمأ بعدد مؤسساتها وفروعها في شتى دول العالم، وكيفا في تنوع أدواتها ومنتجاتها وإختلاف أنشطتها، بينما لم يصاحب هذا التطور، تطورا مماثلا على مستوى التشريعات المنظمة لهذه الصناعة من الناحيتين الموضوعية والإجرائية، فلم نشهد إلى الآن إطار قانوني متكامل ينظم أعمالها وأنشطتها، وخصوصا فيما يتعلق بمجال تسوية المنازعات، وهذا بلا شك، شكل تحديا كبيرا أمام المؤسسات المالية الاسلامية لكونها تعمل في بينة قانونية ومحيط تشريعي لم يرتكز على أسس وقواعد تتناسب مع طبيعتها، ويعترف بخصوصيتها.

 وترتب على الوضع القائم، آثار سلبية ونتائج خطيرة على هذه الصناعة، ومما يؤكد على ذلك، أن المؤسسات المالية الإسلامية واجهت العديد من الإشكاليات عندما عرضت منازعاتها أمام القضاء، ومن أبرزها : أنه في ظل غياب المحاكم المختصة ولائيا بهذا النوع من المنازعات، أظهر قصور النظام القضائي بإعتباره نظام غير مؤهل للنظر في العقود المركبة والمعقدة فنيا من ناحية الإطار التعاقدي الذي تخضع له تلك العقود، وقد صعب على القاضي فهم طبيعة تلك المنازعات الناتجة عن الطبيعة الخاصة للصناعة المالية الاسلامية ذاتها، لكونها تستند على فلسفة دينية وأخلاقية خاصة ولها أهدافها ورسالتها في إحياء مقاصد الشريعة الاسلامية في حفظ الأموال وكيفية التعامل بها ، فعلى هذا الأساس ؛ حرمت التعامل بالريا، وجعلت الأموال أداة لقياس القيمة، ووسيلة للتبادل وليست سلعة في ذاتها، وترتكز جميع أنشطتها وأعمالها على مبدأ المشاركة في الريح والخسارة، وغيرها من المفاهيم والمرتكزات التي تميزها عن غيرها من المؤسسات التقليدية.

وتتمثل الإشكالية الأكبر الناتجة عن غياب المنظومة القانونية الرصينة، أنه في حال اللجوء الى القضاء، وفي ظل عدم وجود قوانین خاصة تنظم أحكام وقواعد عقود التمويل الإسلامي بشكل متكامل، فإن القاضي يجد نفسه في هذه الحالة مضطرة التطبيق القوانين المعمول بها، وذلك عن طريق إعادة تكييف تلك العقود بغرض توافقها مع القوانين المنظمة العقود التمويل التقليدي. ومن أمثلتها؛ تم إعادة تكييف عقد الإيجارة المنتهية بالتمليك الى بيع بالتقسيط، وإعادة تكييف الصكوك على أنها سندات وعقد المرابحة الى عقد قرض، وهذا بلا شك يؤدي إلى نتائج خطيرة جدا على تلك الصناعة، وإفراغا لقصد الإطار التعاقدي المبرم بين طرفيه من محتواه، وتؤدي إلى أن يحكم القاضي بعدم صحة المعاملة قانونا مع صحتها شرعا، أو أن يحكم بصحتها قانونا مع حرمتها شرعا. وهذا الأمر يعتبر تحریف حقيقي المسار المالية الاسلامية وتفريغها فعلا من محتواها. 

ومن الإشكاليات كذلك، وجدنا عدة أحكام قضائية، إستبعد القاضي فيها تطبيق الشريعة الاسلامية كقانون واجب التطبيق، وذلك بحجة عدم وضوحها، وكثرة الآراء والمدارس الفقهية، أو أن القاضي فشر شرط التحكيم المزدوج والمدرج في العقد على أساس إنه إختياري. 

يعتبر الأمر في غاية التناقض، عندما يتم إقصاء الشريعة الاسلامية وإبعادها بعدما تم إختيارها من قبل الأطراف كقانون واجب التطبيق على منازعاتهم. وذلك لأن الصناعة المالية الإسلامية ترتكز أساسا على إلتزام جوهري؛ وهو أن تكون جميع أعمالها وأنشطتها متوافقة مع قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية، والأطراف كذلك تعاقدوا وفق مبادئهم الدينية والأخلاقية عندما إختاروا التعامل بعقود التمويل الاسلامي . 

فلا يعقل ولا يصح أن ما تم بناؤه من الإلتزام بالقواعد الشرعية عند التعاقد، يتم إقصانه وهدمه في النهاية عند التنفيذ وتسوية المنازعات. وبناء على ما سبق، فإنه ينضح فعلا، بأن هذه الإشكاليات قد تسببت في تفريغ الصناعة المالية الإسلامية من محتواها ومضمونها، وأعاقت تطورها وإنتشارها، وعرقلة تحقيق أهدافها وغاياتها .

لذلك، فإن التحدي اليوم ، يكمن في كيفية إيجاد آلية مناسبة لحسم المنازعات، تضمن إحترام مبادئ وأسس المالية الإسلامية وتأخذ بعين الإعتبار لخصوصيتها وطبيعتها الخاصة، وتساهم في تطورها وتحقيق غاياتها المرجوة؟ ومن هنا تظهر أهمية التحكيم كالية فعالة لحسم منازعات عقود التمويل الإسلامي، لكونه يحقق لها الضمانات القانونية التي تصبوا إليها .

 وتجدر الإشارة إلى أن الدوافع والمزايا التي تبرر اللجوء إلى التحكيم في الصناعة المالية الإسلامية عديدة، ومنها : أنه يتمتع بالشرعية المتجذرة بالدين الإسلامي، فالإسلام قد حث على اللجوء إلى التحكيم، وفضله على القضاء. ولأنه أيضا يستند إلى فلسفة خاصة، ترتكز على حرية إرادة الأطراف في تنظيم كل قواعده وأحكامه ، وما يتميز به من إمكانية إختيار القوانين واجبة التطبيق على الجانبين الإجراني والموضوعي. ولكونه كذلك يحقق مقاصد الشريعة في حسم المنازعات، من خلال السرعة في إسترجاع الحقوق لأصحابها، وضمان توافر السرية، ومراعاة التخصص والخبرة ، ويعتني بالعلم والدراية والفهم الدقيق لطبيعة النزاع. 

ومما يجعل للتحكيم هذه المكانة المتميزة ، أنه يستجيب لخصوصية الصناعة المالية الإسلامية من زاويتين، دينية وتقنية، فهو ضامن لتطبيق قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية، مع مراعاة جميع الجوانب الفنية والتقنية المنتجات وعقود التمويل الإسلامي، والتي تتطلب التخصص الدقيق الفهمها وإستيعابها. 

ويلعب التحكيم في هذا المجال دورا كبيرا في التصدي للمماطلين ومنع نظرية الإثراء بلا سبب، باعتبار أن المؤسسات المالية الإسلامية ممنوعة شرعا من أخذ غرامات التأخير، ولذلك فهي بأمس الحاجة الى صدور حکم سريع لإسترجاع حقوقها بالتنفيذ المباشر على المدين. 

ومن المرتقب اليوم، أن يتم نشر وتفعيل ثقافة التحكيم في الصناعة المالية الإسلامية و زيادة اللجوء إليه.

ومن أجل تعزيز دوره وزيادة فعاليته، وجعله الطريق المفضل الحسم منازعات عقود التمويل الإسلامي ، سنتطرق لمجموعة من الإقتراحات وسوف نقتصر في هذا المقال على ثلاث مسائل محل الإقتراحات وتتعلق بالآتي

 أولا: إتفاقية التحكيم في الصناعة المالية الاسلامية

 ثانيا: تشكيل هينة التحكيم. ثالثا: القانون الواجب التطبيق .

أولا: أهمية تجديد مفهوم إتفاقية التحكيم، وضرورة إدراج شرط التحكيم في الصناعة المالية الإسلامية. بناء على المشاكل والتحديات التي لمسناها، وجدنا أنه من الضروري، إعادة النظر في أهمية تعزيز إتفاقية التحكيم، وذلك من ناحيتين : باعتبار أن إتفاق التحكيم يلعب دورا كبيرا في ضمان تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية من المسلم به، أن تطبيق أحكام الشريعة يعتبر واجب ديني ، وبما أن عمل المؤسسات الإسلامية قائم على أساسها، ولكون نظام التحكيم يضمن تطبيقها، وإنطلاقا من القاعدة الأصولية : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فلذلك فإننا نوصي بأهمية نشر الثقافة التحكيمية وبضرورة وضع شرط التحكيم في عقود التمويل الإسلامي لكي نضمن تطبيق أحكام وقواعد الشريعة الإسلامية، مما يوجب - بلا شك - إحترام الفلسفة التي انطلقت منها هذه الصناعة.

ضرورة تحسين جودة إتفاق التحكيم. بحيث تكون صياغة إتفاق التحكيم واضحة ودقيقة، ولا تدع مجال للشك على إختيار الشريعة الإسلامية كقانون واجب التطبيق على موضوع النزاع ، وضروري جدة، الإبتعاد عن الصياغة الغامضة والفضفاضة، وكذلك تجنب الشرط المزدوج الذي يجمع ما بين تطبيق الشريعة والقانون، لكي لا يكون ذريعة الإستبعاد تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية.

ولذلك فالأولى ، إدراج شرط التحكيم في البداية، وذلك من منطلق الإلتزام الديني بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وفي حال لم يتم إدراجه، فإننا نحبذ اللجوء إلى التحكيم مباشرة دون القضاء لتفادي جميع الإشكاليات والمعوقات سالفة الإشارة.

ثانيا : فيما يتعلق بتشكيل هيئة التحكيم.

 من المعلوم أن المحكم يعتبر حجر الزاوية في نظام التحكيم، ويلعب دورا هاما جدا وأساسيا في جودة الأحكام والتطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية، وهذا كله يعتمد بشكل رئيسي على قدراته وإمكانياته ومدى تأهيله.

 وعلى ذلك فإننا نقترح، بضرورة وضع مشروع متكامل لإعداد وتأهيل وتدريب المحكمين وإعداد الكوادر المتخصصة في منازعات عقود التمويل الإسلامي. وتحتاج لوضع هذا المقترح موضع التنفيذ، وضع رؤية وخطة إستراتيجية، ونستعرض فيما يلي لبعض المقترحات التي تصب في هذا الميدان:

 البداية تكون على مستوى المؤسسات التعليمية المتخصصة والتي تعتبر نقطة الإنطلاقة للتوعية، وذلك عن طريق إدخال بعض المفاهيم والأفكار القانونية التي تتناول مبادئ الإقتصاد ، والمالية الإسلامية، وطرق حل الخلافات، ويتم تعميق هذه المبادئ تدريجيا في المراحل المتقدمة، وبالمرحلة الجامعية، وفي مجال الدراسات العليا: نضع مواد إختيارية تختص في المالية الإسلامية ومسائلها القانونية وخصوصا فيما يتعلق بتسوية المنازعات.

 إنشاء أكاديمية متخصصة على المستوى الوطني والدولي ، لتدريب وتأهيل المحكمين، وتضم مجموعة من التخصصات المساندة كعلوم الشريعة والقانون والإقتصاد، ويجب توفير معلمين أكفاء ذوي خبرة علمية وعملية، ويتم التنسيق مع المؤسسات المالية الإسلامية على التدريب الميداني لصقل المهارات وتنمية القدرات . وضع ميثاق أخلاقي وشرعي للتحكيم في المالية الإسلامية يضبط التحكيم، وسلوك المحكم، فيجب أن يكون المحكم صادقاء مخلصا، محايدا، مستقلا، عادلا، ومنصفا .

 هذه الصفات بلا شك تعزز الثقة في التحكيم وتقوي شرعية الحكم. ومن أجل ضمان فعالية التحكيم في عقود التمويل الإسلامي ، لا بد من مراعاة تغطية البعد الشرعي والقانوني والفني والتقني الموضوع النزاع وذلك عند إختيار هيئة التحكيم، وهنا نفرق بين فرضيتين: هينة تحكيم مشكلة من أكثر من محكم، فلا بد أن نراعي في تشكيلها الأبعاد الثلاثة (الشرعي والقانوني والفني )

هينة من محكم واحد، هنا من الضروري جدا أن يتم تعيين محکم متمكن ومتعمق في المجالات الثلاث ، وذلك لضمان تسوية سليمة لموضوع التراع ثالثا: فيما يتعلق بالقانون الواجب التطبيق.

 الشريعة الإسلامية تعتبر هي القانون الواجب التطبيق على منازعات المالية الاسلامية، لكن مفهومها عند البعض، يثير عدة تساؤلات حول طبيعة قواعدها وأحكامها، وذلك يرجع بسبب تعدد المدارس الفقهية، وكثرة الأراء المختلفة، والتفسيرات المتعددة، ولذلك كان التساؤل الهام، ما هي أحكام الشريعة الاسلامية التي تطبق على موضوع النزاع ؟ ولمعالجة هذه الإشكالية وضعنا عدة مقترحات لتطبيق الشريعة الاسلامية وستقتصر في هذا المقال على معالجة واحدة تتمثل في ضرورة تقنين فقة المعاملات المالية الإسلامية. 

 فالتقنين اليوم يرتبط ارتباطا وثيقا بموضوع تطبيق الشريعة الإسلامية، فمن خلاله يتم تحويل المسائل والقواعد المنتشرة في كتب الفقه الى قواعد قانونية مقننة وواضحة، ويمكن الوصول إليها بكل سهولة، فهو من جهة ؛ يتصدى للصعوبات والتحديات التي تتعرض لها المالية الاسلامية، ومن جهة أخرى، يساهم في تعزيزها وتنميتها، وذلك من خلال توحيد القواعد وتحديدها بشكل دقيق وفق الصيغ القانونية الحديثة بما يضمن لها النفوذ والإستقرار ضمن التنظيمات القانونية المعاصرة .

 لذلك نوصي بضرورة تقنين الشريعة الإسلامية من خلال نظام قانوني خاص يتيح للأطراف المتعاقدة الإتفاق على جعله الإطار القانوني الحاكم للعقود والإتفاقيات المبرمة بينهم، والإهتمام بهذا المشروع في صورة عصرية تنسجم مع التعاملات المالية الحديثة، حتى تكون مرجعة قانونية شاملا لكل العاملين في الميادين القانونية المختلفة.

 لكن التساؤل الهام هنا: ما هي آليات العمل لتقنين أحكام وقواعد الشريعة الاسلامية؟

 في الحقيقة، ينبغي تضافر الجهود وتنسيق الأعمال، عن طريق تشكيل فريق عمل متخصص، ويضم مجموعة علماء في المجالات الشرعية والقانونية والإقتصادية، ويعمل بمنهجية الوسائل المعاصرة الوضع التقنين، ويستمد نصوصه من مصادر التشريع الإسلامي ومقاصده، مع ضرورة الإستئناس بمستجدات القوانين المقارنة في هذه المجالات ليستكمل بناتها القانوني، وبالتالي تستطيع الإستمرار والصمود في مواجهة تحديات ومتطلبات العصر. ويستلزم عند الشروع والقيام بعملية التقنين، أن يؤخذ بعين الإعتبار مسألة التخير من الأحكام الشرعية ما يتوافق مع المقاصد الشرعية، ويراعي المصالح العامة، ويرفع الحرج والمشقة، عن طريق الإستفادة من المدارس الفقهية جميعها دون الإقتصار على مذهب واحد معين والإلتزام به.

 ومن بعد، يتم وضع إطار تنظيمي شامل ومتكامل للتحكيم في مجال الصناعة المالية الإسلامية، بحيث يراعي القواعد الفقهية والشرعية، ويأخذ بعين الإعتبار الخصوصية تلك العقود ، ويضمن أخيرة، مواكبة التطورات والمستجدات في المجالات الإقتصادية والمالية الإسلامية وفي الختام، نوصي جميع الجهات المعنية بضرورة التعاون والتنسيق فيما بينها، لتفعيل دور التحكيم في عقود التمويل الإسلامي ، وعلى مراكز التحكيم أن تولي إهتماما كبيرا بالتفكير، في كيفية إستقطاب المنازعات من خلال تقديمها النظام تحكيمي متخصص ، يراعي فيها خصوصية وطبيعة هذه الصناعة، ويحترم أسسها ويتوافق مع مبادئها، ويبعث الثقة في كفاءة هيئاته، من خلال التشكيل المتخصص، والسعي لتحقيق الأمن القانوني في إحترام إرادة الأطراف في تطبيق الشريعة الإسلامية كقانون واجب التطبيق، وكل ذلك يساهم في تعزيز فعالية الحكم التحكيمي ويضمن تنفيذه بشكل سليم.