و كان التحكيم ولا يزال وسيلة مقبولة لتسوية المنازعات التجارية المحلية والدولية. وازدادت أهميته في الوقت الحاضر وخاصة في إطار العلاقات التجارية الدولية، بحيث يندر أن نجد عقدة مالية لا يتضمن شرط الإحالة للتحكيم في حال نشوب خلاف بين طرفي العقد. وما يعنينا هنا التحكيم الاختياري الذي يتم باتفاق الأطراف. ويثور التساؤل في هذا المقام عن موقف الشريعة الإسلامية بما في ذلك الفقه الإسلامي من التحكيم بهذا المفهوم، وهو ما سنحاول الإجابة عليه باختصار في ورقة العمل هذه.
أولا: القرآن الكريم والتحكيم
وردت عدة آيات قرآنية حول الوفاء بالتعهدات عموما بما في ذلك العقود، وآيات خاصة بالتحكيم بمعنی تسوية المنازعات بين الناس.
فبالنسبة للنوع الأول، هناك آيات كثيرة نستنتج منها ما يلي: 1- وجوب الوفاء بالتعهدات والعقود على
صيغة الأمر، ومن ذلك الآيات التالية:
- يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود..).
- وأفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا....
- وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم…
- .... وبعهد الله أوفوا... ).
۲- أن عدم الوفاء بالعهد يؤدي إلى المساءلة والجزاء سواء في الدنيا أو الآخرة أو كليهما معا، وهو ما يشير إليه القرآن الكريم في الآية التي سبق ذكرها ... إن العهد كان مسؤولا ). وبالمقابل، فإن من يفي بالعهد، ينال أجره «ومن أوفى بما عاهد الله فسيؤتيه أجرا عظيما، وعلى الأغلب يكون ذلك في الآخرة، وربما في الدنيا أيضا. .
3- إن الوفاء بالعهد واجب حتى مع غير المؤمنين أي المشركين، ما داموا قائمين على العهد لم ينقضوه. وفي ذلك، يقول القرآن الكريم إلا الذين عاهدتهم من المشركين ثم لم ينقصو کم شیئا ولم يظاهروا عليكم أحدة فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ). .
4- إن الوفاء بالعهد هو من الإيمان، إذ من صفات المؤمنين أنهم الأمانتهم وعهدهم راعون )، أي الذين هم ينفذون تعهداتهم. وجاء في موطن آخر من القرآن أن من صفات الأبرار أو المؤمنين والموفون بعهدهم إذا عاهدوا...»، إلى أن تصل الآية إلى القول، أن من تتوفر فيهم هذه الصفات، فإنهم أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون.
وبالنسبة للنوع الثاني، وردت آیات متعددة في الحكم بين الناس بمعنی القضاء في منازعاتهم. ومن مجمل هذه الآيات نستدل ما يلي:
1- إن القرآن الكريم لا يفرق في الحكم بين الناس بين القضاء الرسمي والتحكيم الاختياري بالمفهوم القديم الجديد.
۲- يجوز التحكيم في كافة المنازعات الإنسانية، وبشكل خاص في المنازعات المالية ومنازعات الأحوال الشخصية، وعلى التحديد، بالنسبة الأخيرة، المنازعات بين الأزواج، فبالنسبة للأولى، يقول القرآن الكريم وخصمان بغا بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها). وبالنسبة للثانية جاء في القرآن الكريم وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أن يريدا إصلاحأ يوفق الله بينهما....
٣- إن التحكيم يمكن أن يكون إجبارية يفرضه القانون الوضعي بصرف النظر عن نتيجة التحكيم، ويتضح ذلك من الآية المشار إليها في البند السابق حول نزاع الزوجين، أو إختيارية يلجأ إليه المتخاصمون بطوع إرادتهم، كما في تحكيم (الأخوين الخصمين، اللذين ذهبا إلى نبي الله داود ليحكم في النزاع بينهما حول نعاجهما، وفق ما ذكرته الآية المبينة في البند السابق.
٤- إن قرار التحكيم يجب أن يبنى على العدل والحق، دون تفرقة ما بين إنسان وآخر، أو مؤمن و کافر. ويقول القرآن الكريم في هذا الشأن:
- وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»
- وأمرت لأعدل بينكم).
- اولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا).
- وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربي ).
- وإن الله يأمر بالعدل والإحسان .
وتطبيقا للنصوص القرآنية السابقة وغيرها، فقد أجاز الفقهاء المسلمون، عموما، التحكيم مع اختلاف في التفصيلات والاجتهادات الفقهية، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من فقهاء القانون في كل زمان ومكان في تفسير النصوص ومجال تطبيقها). نوجز فيما يلي بعض أحكام التحكيم المستمدة من آراء الفقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم، دون تفرقة بين مذهب وآخر.
ثانيا: طبيعة التحكيم الاختياري
يعتبر التحكيم الاختياري اتفاق بين أطراف النزاع من جهة، وبينهم وبين المحكم من جهة أخرى، ففي المقام الأول، يجب أن يتفق المتخاصمون مع بعضهم على اللجوء إلى التحكيم مع تسمية المحكم. وبعد ذلك، يجب عليهم أن يعرضوا اتفاقهم على المحكم الذي اختاروه لقبول هذه المهمة.
وتطبق الأحكام الفقهية العامة على عقد (اتفاق) التحكيم شأنه في ذلك شأن أي عقد، ومن هذه الأحكام ما يلي):
1- إن انعقاده بحاجة لإيجاب من أحد طرفيه وقبول من المطرف الآخر، بتطبيق هذا المبدأ على التحكيم، لا بد من إحاب من أحد المتخاصمين للجوء إلى التحكيم وقبول من المتخاصم الأحد. وبعد اتفاقهما على هذا النحو، لا بد من إيجاب آخر منهما معا وقول من المحكم الذي اختاراه للتحكيم في منازعاتهما، ويستوي في ذلك أن يكون الاتفاق الأول في شرط التحكيم وارد في العقد الأصلي قبل نشوب النزاع، أو في صيغة اتفاقية لاحقة على النزاع، وهو ما يطلق عليه في الاصطلاح الحديث بمشاطرة التحكيم). كما يستوي في الاتفاق الثاني أن يكون مباشرة بين المتخاصمين من جهة والمحكم من جهة أخرى، أو يتم ذلك بطريق غير مباشر، بأن يعهد المتخاصمان لطرف ثالث لتعيين محكم يرتضيانه أي غير مطعون فيه من أحدهما أو كليهما. وفي التطبيق الحديث، أكثر ما تتم الحالة الثانية والتحكيم المؤسسی، (institutional) مثل قواعد غرفة التجارة الدولية، أو في التحكيم الفردي أو المطلق أو الحر (ad hoc)، حيث يتفق الطرفان على سلطة ثالثة لتعيين المحكم في حال عدم اتفاقهما، كما هو الحال في قواعد اليونسترال للتحكيم لسنة 1976.
وتطبق القواعد العامة على عقد (اتفاق) التحكيم الخاصة بالإيجاب والقبول من حيث صور التعبير عن الإرادة، وضرورة مطابقة القبول بالإيجاب، والأحكام المشتركة لكل من الإيجاب والقبول وغير ذلك.
ثالثا: موضوع (محل) الاتفاق
يجب أن يكون محل الاتفاق التحكيمي قابلا للتعاقد شرعة أي، باختصار، أن يكون مالا بالمعنى الواسع. ويشمل ذلك المنقولات والعقارات والخدمات عمومأ بما في ذلك الحقوق المعنوية مثل الملكية الفكرية. وبناء عليه، إذا كان الشيء المتنازع عليه لا يعتبر مالا بالمفهوم الشرعي، فلا يجوز أن يكون محلا للتعاقد، مثل الميتة ولحم الخنزير ودین القمار، وعلى التحديد حيث يكون المتخاصمان من المسلمين، وهذا هو الرأي الفقهي التقليدي.
ومع ذلك، نرى أنه من غير المحظور شرعا أن يلجأ المتخاصمان للتحكيم التقرير طبيعة المعاملة بينهما وأثار ذلك حسب القانون الإسلامي. فعلى سبيل المثال قد يطلب من المسلم من (ب) المسلم مبلغا من المال ثمنا الخمرة باعها الأول للثاني ويرفض (ب) ذلك مما أدى إلى نشوب نزاع بينهما، في هذه الحالة، سيكون من حق (أ) أن يلجأ للقضاء بصرف النظر عن رأي القاضي في هذه الصفقة. فلا مانع إذن من الاتفاق على اللجوء إلى التحكيم بدلا من القضاء. وعندئذ، فإن المحكم، مثله مثل القاضي، قد يقرر تطبيقا للقانون .