الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم في الشريعة الإسلامية / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 6 / حسن استضافة باريس للتحكيمات التي تطبق الشريعة الإسلامية

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 6
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    17

التفاصيل طباعة نسخ

  التقرير الذي تنشره "مجلة التحكيم" فيما يلي وضعه نخبة من القضاة واساتذة الجامعات والحقوقيين الفرنسيين، وبعضهم من أصل لبناني أو من أصل سوري. وهم أحبوا الشريعة الاسلامية قبل ظهور النفط.

   وهذا التقرير وضع ليسهل استضافة باريس، للتحكيمات التي تطبق الشريعة الاسلامية، لأن مكان التحكيم ليس اختياراً جغرافياً، بل هو خيار قانوني قضائي، يبحث عن مكان يجري فيه التحكيم بأمان وبدون اعتراض قضاء البلد الذي يجري فيه التحكيم، وبدون اختلاف بين القانون المطبق الذي هو "الشريعة الاسلامية" والقواعد القانونية الآمرة في هذا البلد. بحيث يجري التحكيم بأمان وسلام ويخرج الحكم التحكيمي محصناً، هذا ما تبحث عنه التحكيمات التي تطبق الشريعة الاسلامية، وهذا ما يؤكده التقرير ويبحثه بعمق. وهذا التقرير يستحق وقفة.

   فالتوفيق بين الشريعة الاسلامية والقانون الفرنسي بدأت مسيرته منذ زمن، وكان عالم القانون العربي والاسلامي الأول عبد الرزاق السنهوري، هو الذي قص شريط بداية هذه المسيرة، وبعده تطوع عدد كبير من علماء القانون اللبنانيين والتونسيين والمصريين ومن بلاد عربية أخرى.

    على سبيل المثال فإن علماء القانون المدني الفرنسي اللبنانيين من امیل تیان الی سلیم باز، اللذين احبا الشريعة الاسلامية قبل ظهور النفط، شرحا مجلة الأحكام العدلية العثمانية، التي كانت هي القانون المدني العثماني وجامعة الشريعة الاسلامية، وارستها في قانون مدني على المذهب الحنفي وتضمنت 99 مبدأ من المبادئ العامة للقانون. وقد شرح القاضي ثم الوزير اللبناني فؤاد عمون، الذي أصبح بعد ذلك نائباً لرئيس محكمة العدل الدولية في لاهاي، شرح المبادئ العامة للشريعة الاسلامية، كما وردت في مجلة الأحكام العدلية في محكمة العدل الدولية في لاهاي خلال مناقشات هذه المحكمة وخلال نظرها في الدعاوى الدولية المعروضة عليها. اذا فإن المسيرة بدأت قبل عقود.

    وتقرير اللجنة الفرنسية الذي سميناه "حسن استضافة باريس للتحكيمات التي تطبق الشريعة الاسلامية" ليس الا حلقة متقدمة على هذا الدرب، حلقة علم وفهم وانفتاح وصدق ومتابعة للمسيرة الطويلة في التوفيق بين الشريعة الاسلامية والقانون المدني

الفرنسي، وقد وضعت أسس التوافق الصريح بين الشريعة والقانون الفرنسي. ابن قيم الجوزية هو الذي عرف الشريعة بقوله:

 "  ان الشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها ومصلحة كلها".

   فالشريعة اذا (1 عدل و (2 رحمة و (3 حكمة و (4 مصلحة. هذه عدة المقاربة بين الشريعة والقانون الفرنسي وهي عدة للقضاة وللمحكمين وللمحامين.

    سنة 1804 كلف الخديوي اسماعيل  )حاكم مصر(  مستشاره القانوني القاضي مخلوف المنياوي ان يبحث له في امكانية ادخال قانون نابوليون (القانون المدني الفرنسي) في النظام القانوني المصري، بدون التعارض مع القواعد الآمرة في الشريعة الاسلامية. ولجأ القاضي المصري الى المبادئ العامة للشريعة الاسلامية كما وردت في مجلة الأحكام العدلية، وكانت النتيجة ان المبادئ العامة في الشريعة لا تتعارض والقانون الفرنسي.

    تكفي المقارنة بين عدة مبادئ عامة في الشرع الاسلامي وفقاً لمجلة الأحكام العدلية وما يعادلها في القانون الفرنسي على سبيل المثال

1- ما جاز لعذر بطل بزواله (المادة 23 من المجلة)

La loi n'a pas lieu d'être appliquée lorsque disparaît sa raison d'être 

2- العادة محكمة (المادة 36 من المجلة)

. Coutume a force de loi.

3- البينة على من ادعى واليمين على المنكر (المادة 76 من المجلة)

 La preuve est à la charge du demandeur et le serment à la charge de celui qui nie un fait allégué par son adversaire.

4- الجواز الشرعي ينافي الضمان (المادة 91 من المجلة)

 Nul n'est tenu du préjudice qu'il cause à autrui dans l'exercice de son droit.

5- العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني (المادة 3 من المجلة)

 Dans les conventions il faut considérer l'intention des parties et non le sens littéral des mots et des phrases employés.

6- إعمال الكلام أولى من إهماله (المادة 60 من المجلة)

 Un terme doit s'interpréter dans le sens qui lui fait produire un effet plutôt que dans le sens où il n'en produit aucun. L'accessoire suit le principal.

7- الضرورات تبيح المحظورات (المادة 21 من المجلة)

 La force majeure rend licite ce qui est prohibé.

8- المباشر ضامن وان لم يتعمد (المادة 92 من المجلة)

 Chacun est responsable du dommage qu'il a directement causé même involontairement.

 9- التابـع تابع. فإذا بيع حيوان في بطنه جنين دخل الجنين في البيع تبعاً (المادة 47 من المجلة)

 10- من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه (المادة 100)

 «Nul n'est recevable à revenir sur ce qu'il a lui-même accompli». C'est- à-dire qu'on ne saurait, en même temps, vouloir une chose et son contraire.

  لقد جاء في القرآن الكريم:

 1- "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم". هذا يعني أن الله سمح بتنوع الثقافات.

جاء في القرآن الكريم أيضاً:

2- "يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. ان اكرمكم عند الله اتقاكم" .

   هذا يعني ان الله دعا الى "التعارف" اي الى "الحوار".

   جاء في القرآن الكريم أيضاً:

3- هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون؟

   هذا يعني ان الحوار بين الثقافات يجب أن يكون مبنياً على العلم أي على العقل.  

   جاء في القرآن الكريم:

4-  "قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد الا الله".

   كما جاء في القرآن الكريم أيضاً:

5- "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وانهم لا يستكبرون".

    وهذا يعني أن الحوار يجب ان يكون مبنياً على المودة (وجادلهم بالتي هي أحسن).    يستفاد من هذه الآيات الكريمة الخمس أن الله أوصى بحوار العقل والقلب وهذا ما هو وارد في هذا التقرير الذي عنوناه "حسن استضافة باريس للتحكيمات التي تطبق الشريعة الإسلامية".

    وفيما يلي نص التقرير واسماء اعضاء اللجنة التي وضعته وبعد ذلك تأتي ثلاثة تعليقات عليه لعلماء في القانون وفي الشريعة الاسلامية هم:

  1- الدكتور سليم العوا- محام- دكتور في القانون (مصر)

  2- الدكتور عبد الستار الخويلدي- الأمين العام للمركز الإسلامي الدولي للمصالحة والتحكيم – (دبی)

  3- الدكتور رأفت ميقاتي – محام - دكتور في الحقوق – (لبنان).

 

لجنة القطاع المالي الإسلامي

 باريس – يوروبلاس

 PARIS EUROPLACE

 تقريـر

 فريق العمل الفرنسي

في شأن القانون الواجب التطبيق

وتسوية النزاعات

الناشئة عن التمويل الإسلامي

 21 سبتمبر 2009

 فهرس المحتويات

1- مقدمة.

2- اعضاء الفريق.

3- ملخص الاستنتاجات.

4- وثيقة المهمة.

5- التقرير: القانون الواجب التطبيق وتسوية النزاعات المتعلقة بالتمويل الإسلامي امام المحاكم الفرنسية.

5.1 هل تعتبر أحكام الشريعة المتعلقة بالتمويل الاسلامي قواعد قانونية؟

5.2 هل يعتبر عقد التمويل الاسلامي الدولي الخاضع لأحكام الشريعة، وفقاً لخيار الأفرقاء الذي استبعد اي قانون وطني، نافذاً امام المحاكم الفرنسية؟

 

5.3 هل تختلف استضافة المحاكم الفرنسية لأحكام الشريعة المنطبقة على التمويل الاسلامي بحسب اختيار الأفرقاء سواء كانت عبارة عن تطبيق أحكام الشريعة دون أي تحديد آخر أو الجمع ما بين الشريعة والقانون الفرنسي (او قانون اجنبي)؟

5.4 كيف يمكن للقاضي الفرنسي أن يختار، من بين مصادر الشريعة، القواعد الملائمة للتطبيق على القضية المعروضة عليه؟

5.5 في مواجهتها تطبيق أحكام الشريعة على التمويل الاسلامي، حرمت المحاكم البريطانية خيار الأفرقاء لأحكام الشريعة من أي مفعول.

 هل يتخذ القاضي الفرنسي الموقف نفسه؟

    اذا اختار الأفرقاء التحكيم، وكان القرار التحكيمي الدولي صادراً بناء على أحكام الشريعة مستبعداً اي قانون دولة او قواعد قانونية غير تابعة لدولة معينة، هل تمنح المحاكم الفرنسية القرار التحكيمي الدولي الاعتراف او الصيغة التنفيذية؟

5.6 هل يمنع النظام العام الفرنسي الداخلي أو الدولي القاضي الفرنسي من ان يعطي مفعولاً لعقد تمويل اسلامي خاضع للشريعة؟

6. التوصيات.

    في ديار الإسلام، كان التحكيم يعتبر دائماً الأسلوب المفضل لتسوية النزاعات. علاوة على ذلك، كان الطريقة المختارة لتسوية احدى أكبر الأزمات في تاريخ الإسلام. وقد عين علي، صهر النبي (ص)، في ظروف الخلاف والجدل، الخليفة الرابع بعد مقتل الخليفة عثمان. وقد اعترض معاوية، والي دمشق، على هذا التعيين، فتقلد السلاح ضد الخليفة الجديد. فاجتمع الجيشان في صفين، على ضفاف نهر الفرات، في اليوم الأول من شهر صفر من عام 37 هجري (657 ميلادي). بعد عدة أيام من القتال، تم الاتفاق على هدنة من اجل احالة النزاع على التحكيم. وقد تم التوصل الى حل في اليوم الثالث عشر من صفر والذي بموجبه عيّن محكمان هما أبو موسى الأشعري الذي عينه علي، وعمرو ابن العاص الذي عينه معاوية.

   واتفقا على ان يرجع كل منهما من جهته الى القرآن الكريم في مجمله وعلى ان يجتمعا بعد ثمانية أشهر، في اليوم الأول من شهر رمضان، في دومة الجندل، قرب عمان في الأردن، من اجل اصدار القرار. وقد نص الاتفاق التحكيمي على أن القرار ملزم للطرفين. فاز معاوية بالخلافة، وأصبح أمير المؤمنين. وهذه كانت بداية الخلافة الأموية.

 نص مستقى بتصرف من تاريخ الطبري في أحداث سنة 37 هـ

1. المقدمة:

1.1- ألف مركز باريس يوروبلاس Paris Europlace لجنة للنظر في استقطاب التمويل الاسلامي الى فرنسا. وقد أصدرت اللجنة سلسلة من التوصيات ساهمت فـي اتخـاذ تدابير ضريبية وتشريعية ترمي الى جعل باريس اكثـر اجتـذابا لقطـاع التمويـل الإسلامي.

1.2-  في اطار مهمته، وبنتيجة اجتماعه في 17 ديسمبر 2008، كلفت لجنة القطاع المالي الاسلامي الدكتور جورج عفاكي، بي.أن.بي باريبا (BNP Paribas)، مهمة النظر في آفاق حل النزاعات المتصلة بالتمويل الاسلامي التي قد تعرض امام المحاكم الفرنسية مباشرة أو من خلال إكساء صيغة التنفيذ الأحكام الأجنبية أو قرارات تحكيمية.

1.3- تطرح دراسة القانون الواجب التطبيق وتسوية النزاعات المتعلقة بالتمويل الاسلامي الأسئلة التالية:

 - قانونية أحكام الشريعة.

- طريقة تحديد أحكام الشريعة الواجبة التطبيق على عقد معين.

 - توافق أحكام الشريعة مع النظام العام الاجرائي أو الموضوعي.

1.4- بغية القيام بهذه المهمة، تم تشكيل فريق عمل في شأن القانون الواجب التطبيق وحلّ النزاعات الناشئة عن التمويل الاسلامي. وقد استفاد فريق العمل في مشاوراته من آراء الشيخ نظام يعقوبي (البحرين)، وهو مفت وفقيه ومستشار في الشريعة لدى العديد من المؤسسات المالية، وكذلك من آراء السيد ميشال Baert (فرنسا)، وهو قاض بالمحكمة التجارية في باريس، وقد قابلهما فريق العمل بتاريخ 23 مارس، 2008 في باريس.

   ويهدف هذا التقرير الى عرض النتائج التي توصل اليها فريق العمل.

1.5- لا شيء في هذا التقرير يجب تفسيره على انه ينتقص من حياد باريس يوروبلاس Paris Europlace بالنسبة الى خيار الأطراف للقانون الواجب التطبيق أو الولاية ذات الاختصاص في عقود التمويل الاسلامي. ولا تتجه نية باريس يوروبلاس Paris Europlace نحو اصدار أي توصية حول خيار الأفرقاء لأي

من الصيغ التي وضعت بها قائمة في هذا التقرير بشكل واقعي ووصفي، او الى ادلاء الرأي أو تحمل أي من النتائج المترتبة على هذا الخيار.

 2. أعضاء الفريق:

 الرئيس:

 الدكتور جورج عفاكي، عضو اللجنة التنفيذية والمسؤول عن عمليات التمويل، الدائرة القانونية بي ان بي باريبا BNP Paribas. .

 الاعضاء:

- الدكتور ابراهيم فضل الله، بروفسور فخري في جامعة باريس الغربية- نانتير La Défense .

- الدكتور دومينيك  Hascher، رئيس غرفة في محكمة الاستئناف في Reims وبروفسور مساعد في جامعة باريس الأولى (بانثيون- السوربون).

- أليس Pézard، مستشارة في محكمة التمييز.

- الدكتور فرنسوا كزافييه Train، بروفسور في جامعة باريس الغربية- نانتير La Défense.

 أمانة السر:

 نادية Mejri، طالبة دكتوراه في جامعة باريس الأولى (بانثيون السوربون).

3. ملخص الاستنتاجات:

   في هذا التقرير، توصل فريق العمل في شأن القانون الواجب التطبيق وتسوية النزاعات المتعلقة بالتمويل الإسلامي الى النتائج التالية: 

1- تعتبر أحكام الشريعة المتعلقة بالتمويل الاسلامي قواعد قانونية. وبناء عليه، يجب أن تقضي المحاكم الفرنسية بنفاذها عندما يكون الأطراف قد اختاروا الشريعة بأن تحكم عقد التمويل الدولي المبرم في ما بينهم.

   ويرتكز هذا النفاذ على مبدأ سلطان الارادة الذي يأخذ كافة ابعاده بفضل الاجتهاد المتميز للمحاكم الفرنسية في ما يتعلق بتطبيق القواعد القانونية غير التشريعية في العقود الدولية.

 2- عند الاعتراف بقانونيتها، تطبق المحاكم الفرنسية أحكام الشريعة التي اختارها أطراف على العقد الدولي للتمويل الاسلامي المبرم، في حال أحيل النزاع الناشئ عن هذه العقود الدولية اليها مباشرة. وكذلك تعترف المحاكم الفرنسية بأحكام الشريعة المتعلقة بالتمويل الاسلامي في حال طلب منها اتخاذ قرار في شأن الاعتراف او منح الصيغة التنفيذية لقرار تحكيمي دولي او حكم اجنبي طبق هذه الأحكام. وتتمتع باريس بميزة في هذا المجال بالنسبة الى باقي المراكز المالية الأجنبية المنافسة التي لا تظهر انفتاحاً مماثلاً.

 3- ويتبع تحديد مضمون أحكام الشريعة التي تنطبق على حالة معينة نفس المنهجية المطبقة حالياً من قبل المحاكم الفرنسية لتحديد المضمون ذي الصلة من القانون الاجنبي الذي اختاره اطراف العقد. وعلى الأطراف، بمساعدة من الخبراء، المساهمة في هذا التحديد. وان تقنين أحكام الشريعة المطبقة على التمويل الاسلامي من قبل هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الاسلامية سوف يسهل كثيراً عملية التحديد هذه.

 4- لا يمكن أن تؤدي فعالية اختيار تطبيق الشريعة على التمويل الاسلامي في النظام القانوني الفرنسي الى استبعاد القواعد الآمرة التي تطبقها المحكمة المطروح عليها النزاع. غير أنه في حال التنازع، لا تستبعد من أحكام الشريعة الا تلك التي تتعارض والقواعد الآمرة، دون اثارة الشك حول فعالية اختيار الشريعة من قبل أطراف العقد وتطبيق المحاكم لهذه الأحكام.

 5- بعد البحث، لا تظهر أحكام الشريعة المتعلقة بالمعاملات التي يمكن ان تنطبق على التمويل الاسلامي اي تعارض مع النظام العام الفرنسي الموضوعي. على وجه الخصوص، ان تحريم الربا، والمضاربة والغرر والريبة في موضوع العقد، الذي يشكل ركيزة التمويل الاسلامي، لا يتعارض والنظام العام.

   على العكس، فإن تجاهل الحكـم الذي قد تصـدره احـدى الولايات القضائية الفرنسية لإحدى هذه الركائز قد يؤدي الى حرمـان العقد الذي نشأ النزاع عنه من صفة توافقه مع الشريعة وقد يؤثر ذلك سلباً على اجتذاب باريس للتمويلات والاستثمارات الاسلامية.

 4. وثيقة المهمة:

    حدد فريق العمل وثيقة المهمة بالمعالجة والرد على النقاط الستة التالية:

1- هل تعتبر أحكام الشريعة المتعلقة بالتمويل الاسلامي قواعد قانونية؟

2- هل يعتبر عقد التمويل الاسلامي الدولي الخاضع لأحكام الشريعة، وفقاً لخيار الافرقاء الذي استبعد اي قانون وطني، نافذاً امام المحاكم الفرنسية؟

3- هل تختلف استضافة المحاكم الفرنسية لأحكام الشريعة المنطبقة على التمويل الاسلامي بحسب اختيار الأفرقاء تطبيق أحكام الشريعة دون اي تحديد آخر أو الجمع ما بين الشريعة والقانون الفرنسي (او قانون اجنبي)؟

4- كيف يمكن للقاضي الفرنسي أن يحدد، من بين مصادر الشريعة، القواعد الملائمة للتطبيق على القضية المعروضة عليه.

5- في مواجهتها تطبيق أحكام الشريعة على التمويل الاسلامي، حرمت المحاكم البريطانية خيار الأفرقاء لأحكام الشريعة من أي مفعول.

  هل يتخذ القاضي الفرنسي الموقف نفسه؟

   في حال اختار الأفرقاء التحكيم، وكان القرار التحكيمـي الدولي صادراً بناء على أحكـام الشريعـة مستبعـداً اي قانون دولة او قواعـد قانونيـة غير تشريعية، هل يمنح القرار التحكيمـي الدولـي الاعتراف أو الصيغة التنفيذية من قبل المحاكم الفرنسية؟

6- هل تتضمن الشريعة، في احكامها المنطبقة على المعاملات المرتبطة بالتمويل الإسلامي (بالمقارنة مع الأحكام المنطبقة على العبادات) قواعد متعلقة بأساس النزاع أو بالإجراءات تتعارض والنظام العام الفرنسي؟

 

4.2- بادئ ذي بدء، يجب أبداء ملاحظتين:

 (1) يتناول هذا التقرير حصراً عقود التمويل الدولية، وليس العمليات المتعلقة بمصارف التجزئة، عاكساً بذلك نطاق الاختصاص الذي اختارته لجنة القطاع المالي الاسلامي في باريس يوروبلاس Paris Europlace .

 (2) وقد قصر فريق العمل مهمته فقط على النزاعات التي تعرض على القضاء أو التحكيم، لأنها الوحيدة التي يمكن ان ينظر فيها القاضي الفرنسي. ومع ذلك، من الجدير بالذكر في هذه المرحلة أهمية الوسائل السلمية لحل النزاعات في الاسلام بعيداً عن المحاكم. في الواقع فإن الصلح، الذي اوصت به عدة سور من القرآن الكريم ، يحتل مكانة مهمة في طرق حل النزاعات خصوصاً بالنظر إلى التنظيم القبلي للمجتمع الذي شهد ولادة الاسلام. ومن شأن وساطة المصلح ان تضع حداً سريعاً للنزاعات بين القبائل وتسمح بتأمين تعايش سلمي بصرف النظر عن النزاع القائم اصلاً. وطوال العهد العثماني، بقي اللجوء إلى الصلح منتشراً سواء في نقابات الحرفيين وتجار المدن (وهو اجراء يجري عموماً تحت رعاية الشهبندر الكار) أو بين القبائل البدوية في شبه الجزيرة العربية. ولا يزال يستخدم على نطاق واسع في ايامنا هذه. شأنه شأن الطرق البديلة لتسوية النزاعات المعروفة في فرنسا، يستند الصلح اساساً إلى اساس تعاقدي: يجب على الأطراف ان يكونوا قد وافقوا على وساطة وسيط لإنهاء الخلاف بينهم. وغالبا ما يتفق أيضاً الأطراف مسبقاً على الالتزام برأيه. في الاصل، كانت الأعراف القبلية واهمية محافظة المتخاصمين على سمعتهم تجاه أقرانهم، تؤدي دور الإقناع اللازم لضمان الامتثال الطوعي لتوصية الوسيط. ويؤمن حالياً بقاء هذه الأعراف في التجمعات المهنية في العديد من المجتمعات الاسلامية تنفيذاً طوعياً مرضياً جداً.

    على غرار العديد من العقود الدولية الأخرى، تدرج عقود التمويل الاسلامية طرقاً سلمية لتسوية النزاعات، عادة قبل اللجوء الى بند الاختصاص القضائي المتعارف عليه. وقد اعترفت المحاكم الفرنسية بفعالية هذا الخيار الناشئ عن ارادة الأطراف،

   وفرضت احترامه عند الحاجة عن طريق رد دعوى قضائية في حال عدم احترام أولاً مرحلة الوساطة المتفق عليها .

   وهذا يشكل ميزة اضافية لمركز باريس.

5.  التقرير:   القانون الواجب التطبيق وتسوية النزاعات المتعلقة بالتمويل الإسلامي امام المحاكم الفرنسية:

 5.1. هل تعتبر أحكام الشريعة المتعلقة بالتمويل الاسلامي قواعد قانونية؟

5.1.1-  رداً على هذا السؤال، أجاب فريق العمل بالإجماع بالإيجاب.

   على الرغم من انها ليست تشريعاً، على الأقل بمعنى التقنين الذي تتميز به الأنظمة القانونية المدنية، تشكل أحكام الشريعة المتعلقة بالتمويل الاسلامي قواعد تحكم السلوك الاجتماعي، عامة ومجردة، ملزمة وقابلة للإقرار والتنفيذ الملزم من قبل المحكمة. وتنتج هذه القواعد آثاراً قانونية ملزمة للأشخاص الذين يختارون الالتزام بها. ومجمل ما سبق يعتبر المعايير التقليدية التي تسمح باستنتاج الطبيعة القانونية لأحكام الشريعة المتعلقة بالتمويل الإسلامي.

5.2.  هل يعتبر عقد التمويل الاسلامي الدولي الخاضع لأحكام الشريعة، وفقاً لخيار الأفرقاء، الذي استبعد اي قانون وطني، نافذا امام المحاكم الفرنسية؟

5.2.1- يمكن للمحاكم الفرنسية ان تنظر في النزاعات المتصلة بالعقود الدولية للتمويل الاسلامي من بابين:

 - إما مباشرة، من خلال تطبيق القواعد العامة للاختصاص المكاني (على سبيل المثال، وفقاً لمكان اقامة المدعى عليه)، أو الخاصة المتعلقة بالنظر في موضوع النزاع (على سبيل المثال، وفقاً لمكان تنفيذ العقد، وموقع العقار، الخ)، أو بالرجوع الى بند تعیین الاختصاص،

-  او بصورة غير مباشرة، من باب الاعتراف أو تنفيذ حكم صادر في الخارج او قرار تحكيمي صادر في شأن عقد دولي خاضع للشريعة.

5.2.2- ويرى فريق العمل ان النتيجة الطبيعية لإعتراف المحاكم الفرنسية بالطبيعة القانونية لأحكام الشريعة المتعلقة بالتمويل الاسلامي، أن تعطي مفعولاً في العقود الدولية. وعند قيامها بذلك، على المحاكم ان تتبع المنطق الذي ادى الى انفاذ الاعراف ومبادئ التجارة الدولية (Lex mercaroria) بصفتها قواعد قانونية غير تشريعية حين يختارها أطراف العقد الدولي . ويلاحظ فريق العمل انه يمكن أيضاً تطبيق الشريعة كقانون دولة وحتى كقانون من عدة قوانين دولة، اذا اختار الأطراف قانوناً وطنياً أو أكثر يعترف بالشريعة كمصدر تشريعي رئيسي على غرار قانون المملكة العربية السعودية، السودان أو الباكستان على سبيل المثال.

5.2.3- يستند انفاذ المحاكم الفرنسية خيار الأطراف للشريعة في عقد التمويل الدولي على اساس مبدأ سلطان الارادة.

   وقد أخذ هذا المبدأ بعداً واسعاً في الاجتهاد الذي رحب به بشكل خاص عندما تعلق الأمر بالعقود الدولية. ويتجلى هذا الترحيب بطابعين متكاملين: حرية اختيار قانون غير قانون القاضي، وحرية اختيار قانون غير قانون الدولة. في الواقع، إن نظام (الاتحاد الاوروبي) رقم 2008/593 حول القانون الواجب التطبيق على الموجبات التعاقدية (نظام روما I) يسمح، بلا قيد او شرط، لأطراف العقد الذي ينطوي على عنصر اجنبي ان يخضعوا العقد المبرم بينهم لقانون اجنبي. هكذا، فقد ذهبت المحاكم الفرنسية الى ان تفرض على القاضي عند تطبيق القانون الاجنبي البحث في مضمونه بغرض تسوية النزاع وفقاً لهذا القانون، سواء كان الخلاف متعلقاً بحقوق يمكن

التعاقد عليها او لا. ولا يتوقف هذا الانفتاح فقط على اعتماد القوانين الوطنية التي اختارها الأطراف لتحكم العقد المبرم بينهما. ورداً على انتقادات وجهت الى اتفاقية روما، تاريخ 19 يونيو 1980، في شأن القانون الواجب التطبيق على الموجبات التعاقدية (اتفاقية روما)، حدد نظام روما I الجديد في مقدمته في البند  13 :

   "لا يمنع هذا النظام الأطراف المتعاقدين من الإحالة في العقد المبرم بينهم الى قانون غير قانون الدولة أو الى اتفاقية دولية".

    فيكون نظام روما I قد تبنى الاجتهاد الفرنسي الذي سبق ورحب بخيار الاطراف للقواعد القانونية غير الخاصة بالدولة لكي تحكم العقد الدولي المبرم بينهم.

   يعطي نفاذ اختيار اطراف العقد الدولي للتمويل الاسلامي في النظام القضائي الفرنسي ميزة لمركز باريس مقارنة بمراكز اجنبية منافسة والتي لا تظهر محاكمها انفتاحاً مماثلاً تجاه القواعد القانونية غير التشريعية.

5.3.  هل تختلف استضافة المحاكم الفرنسية لأحكام الشريعة المنطبقة على التمويل الاسلامي سواء اختار الأفرقاء تطبيق أحكام الشريعة دون اي تحديد آخر أو الجمع ما بين الشريعة والقانون الفرنسي (او قانون اجنبي)؟

5.3.1- استعرض فريق العمل عدة أنواع من بنود تحديد القانون الواجب التطبيق التي يمكن ادراجها في عقود التمويل الإسلامي، ويمكن تصنيفها كما يلي:

5.3.2-  البنود الافرادية:

  "يخضع هذا العقد لمبادئ الشريعة".

   أو "يخضع هذا العقد لمبادئ الشريعة كما هي واردة في القواعد التي سنتها هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الاسلامية السارية المفعول بتاريخ توقيع العقد".

5.3.3- البنود المختلطة:

  "يخضع هذا العقد للقانون الفرنسي مع مراعاة مبادئ الشريعة المطبقة".

او

   "يخضع هذا العقد للقانون الفرنسي باستثناء ما قد يتعارض فيه مع الشريعة التي تعتبر أحكامها أولى في هذه الحالة"

5.3.4- البنود المشتركة:

   "يخضع هذا العقد للمبادئ المشتركة ما بين القانون الفرنسي والشريعة".

5.3.5-  ان أكثر البنود شيوعاً من بين البنود المذكورة أعلاه هي تلك التي تخضع عقود التمويل الاسلامي لقوانين الدولة مع مراعاة أحكام الشريعة، وهي تلك التي ادت في بريطانيا الى صدور أحكام قضائية جائرة مثل حكم Beximco والتي وضعت القضاة البريطانيين في موقف حرج أمام هذه الازدواجية. ان أحد الآثار المترتبة على حكم Beximco وعلى حرمان اختيار الشريعة كقانون واجب التطبيق من أي مفعول هو ازدياد عدد البنود التي تخضع عقود التمويل الاسلامي للقانون الانكليزي فقط، دون الاشارة الى الشريعة، سواء من باب رئيسي، فرعي او تصحيحي. يتساءل فريقا العمل في هذه الحالة عن كيفية اثبات توافق العقد موضوع النزاع مع الشريعة حين يخلو العقد من أي اشارة إلى تطبيق أحكام الشريعة أصلاً.

     ان مثل هذا النهج التقييدي من شأنه ان يشكل بالتأكيد عائقاً رئيسياً لأي مركز مالي عالمي يسعى الى جذب رؤوس الأموال الاسلامية.

 5.3.6- وتجدر الاشارة الى ان العمليات المالية الاسلامية لم تؤد في ممارستها المالية المعاصرة الا الى اصدار عدد قليل من الأحكام. إضافة إلى أربعة أحكام صادرة عن المحاكم الانكليزية ، نظرت المحاكم الماليزية، التي تطبق نظاماً قانونياً علمانياً بالرغم من وجودها في بلد مسلم، في نزاعات متعلقة بالتمويل الاسلامي. لا تسمح ندرة هذه الحالات بتحديد نوع النزاعات الناشئة عن التمويل الاسلامي على وجه الدقة والتي قد تواجهها المحاكم الفرنسية. غير انه يلاحظ من دراسة القرارات المشار اليها ان موضوع النزاع يتعلق على الأرجح بتفسير أحكام العقد وتحديد ماهية الالتزامات الناجمة عنه. ومن المستبعد أن يكون على المحكمة الفرنسية أيضاً اتخاذ قرار في شأن المعيارية الدينية لأحكام الشريعة.

   هذا ما أكده الشيـخ نظـام يعقوبي لدى سماعه من قبل فريق العمل في 23 مارس 2009 .

5.4. كيف يمكن للقاضي الفرنسي أن يحدد، من بين مصادر الشريعة، القواعد الملائمة للتطبيق على القضية المعروضة عليه؟

5.4.1- على غرار القانون البريطاني القائم على الاجتهادات غير القضائية Common Law والأعراف التجارية Lex Mercatoria، لا ينبغي أن ينظر الى الشريعة بوصفها مجموعة من القواعد المسبقة الوضع، مقننة بشكل شمولي ومجردة في تطبيقها. يشتمل تطبيق الشريعة اساساً على طريقة استدلالية توفر تحديد القواعد التي تطبق على قضية معينة انطلاقا من مصادر الشريعة.

 5.4.2 -لأحكام الشريعة المتعلقة بالعقود المالية مصادر متعددة. ويعد القرآن الكريم المصدر الأساسي لقواعد الاسلام، والمصدر الثاني هو السنة، وتتطلب الطرق الاستدلالية استخراج القاعدة ذات الصلة من المبادئ العامة للقرآن الكريم والسنة     .     وتسمح هذه العملية، المسماة "الاجتهاد"، للفقهاء ذوي الاختصاص باللجوء الى اساليب المنطق القياسي أو الاستنتاجي والتي تتمثل بالقياس والاستحسان والاستصلاح، من أجل ايجاد القاعدة الواجب تطبيقها على المشكلة. وهكذا تكون لهذه القواعد المستخرجة سلطة الزامية أقوى اذا استفادت أيضاً من اجماع فقهاء الشريعة الاسلامية.

 5.4.3- سواء كان بند الشريعة أحدياً أو مختلطاً، يرى فريق العمل انه من أجل تحديد أحكام الشريعة ذات الصلة بمسألة التمويل موضوع الخلاف، يجب على القضاة أو المحكمين ان يتبعوا نفس النهج المتبع في تحديد المحتوى ذي الصلة من القوانين الاجنبية او من القواعد القانونية غير التشريعية مثل الـ Lex Mercatoria. ويساهم في هذا التحديد الأطراف وخبراؤهم. وهذا ما أكده القاضي ميشيل Baert لدى سماعه من قبل فريق العمل في 23 مارس  2009.

5.4.4- وينبغي ان تضاف الى هذا المنهج المساهمة القيمة لمنهج التخير.

    تقر الشريعة بأن تحديد القاعدة الواجبة التطبيق يجري وفقاً لمنهج استدلالي يسمح للأطراف وقضاتهم باختيار ما يشاؤون من القواعد الناشئة عن اجتهاد هذه أو تلك من مدارس الفقه الاسلامي التي من شأنها أضفاء الشرعية على عقدهم، بما فيه اذا لزم الأمر عن طريق اللجوء الى تجزئة مختلف موجبات العقد وتطبيق اجتهادات مدارس فقهية مختلفة على كل جزء.

 5.4.5- ويصبح تحديد القاعدة الواجبة التطبيق من الشريعة من قبل القضاة أو المحكمين أسهل من خلال تقنين القواعد الالزامية القانونية والمالية من الشريعة والتي باشرتها هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية. (AAOIFI)  

    وهكذا، وبفضل هذا التقنين، تكتسب أحكام الشريعة الواجبة التطبيق على عقود التمويل الاسلامي المزيد من وضوح الرؤية ومن سهولة الوصول اليها.

   ويمكنها في نهاية المطاف ان تؤدي الدور الذي أدته مبادئ الـ UNIDROIT لعقود التجارة الدولية بالنسبة الى الـ Lex Mercatoria  .

    علاوة على ذلك، فإن المنهجية الرضائية التي تميزت بها هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الاسلامية AAOIFI في تدوين القواعد القانونية الالزامية المالية للشريعة تزيد قوتها. في الواقع، عرضت المشاريع المتتالية على لجان مختلفة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الاسلامية AAOIFI تسمو فوق الاختلافات الفقهية التقليدية لمدارس الفقه الرئيسية وتجمع جميع المعايير التدليلية، سواء من الناحية الجغرافية أو الفقهية. وتكون القواعد المالية للشريعة موضوعاً لإدراجها في العقود بالإحالة التعاقدية أو ان يستشهد بها القضاة أو المحكمون من أجل دعم قراراتهم.

 5.4.6- وعلاوة على ذلك، إن الفتاوى الصادرة عن مجالس الإشراف على الشريعة (مجالس الشريعة) وهي لجان مؤلفة من فقهاء ذوي اختصاص ببت شرعية العمليات المالية للمؤسسات المالية في إطار قواعد الشريعة ومعاييرها- يشكل تطبيقها سوابق محتملة التطبيق على النزاعات الحالية. 

5.5. في مواجهتها تطبيق أحكام الشريعة على التمويل الاسلامي، حرمت المحاكم البريطانية خيار الأفرقاء لأحكام الشريعة من أي مفعول.

  هل يتخذ القاضي الفرنسي الموقف نفسه؟

    إذا اختار الأفرقاء التحكيم، وكان القرار التحكيمي الدولي صادراً بناء على أحكام الشريعة مستبعدا اي قانون دولة او قواعد قانونية غير تشريعية، هل تمنح المحاكم الفرنسية القرار التحكيمي الدولي الاعتراف او الصيغة التنفيذية؟

5.1.5- أن الإقرار بقانونية أحكام الشريعة المنطبقة على التمويل الاسلامي في مستهل هذا التقرير من شأنه أن يجنب صدور قرارات عن المحاكم الفرنسية مماثلة لحكم Beximco. ونذكر بأنه في هذا الحكم، لم تر محكمة الاستئناف في بريطانيا في الشريعة سوى قواعد دينية وقررت رفض منحها اية صفة قانونية .

   وقد اسندت محكمة الاستئناف قرارها على أنه، بتاريخ الحكم، كانت معاهدة روما فقط مطبقة وان المواد (1)1 و (1)3 منها كانتا عموماً مفسرتين بشكل لا يسمح لأطراف العقد الا باختیار قانون دولة وليس قواعد قانونية غير تشريعية.

  انطلاقاً من ذلك، رفضت المحكمة انفاذ خيار الشريعة من قبل أطراف العقد، وهو خيار عبرعنه في العقد بشكل غامض فعلاً، لأنه انصب ايضاً على القانون الانكليزي. ان سوء كتابة شرط القانون الواجب التطبيق في العقد (القانون الانكليزي + الشريعة) مكن القضاة البريطانيين من استخدام سلطتهم التقديرية في تفسير العقد والقرار في النهاية تطبيق القانون الانكليزي وحده دون اللجوء الى الشريعة الاسلامية!

 5.5.2- ومع ذلك، لا يمكننا استبعاد فرضية وجود اختلاف بين آراء الخبراء حول مضمون القاعدة الواجبة التطبيق من الشريعة. ان نهج الافتاء الحازم في الشريعة يترك في واقع الأمر للمفتي مجالاً كبيراً للتفسير. لا تختلف الاجراءات في هذا الجانب عن تلك التي يقوم بها عادة قضاة الأساس والتي تنطوي على تقييم الوقائع، وهو تقييم يتمتع القضاة في شأنه بسلطة مطلقة.

    وبالفعل، يصدر القاضي قراره على اساس الحقائق التي عرضها عليه الأطراف والخبراء في شأن تحديد مضمون القاعدة اللازمة من دون ان يتساءل عن الطبيعة الإلزامية لأحكام الشريعة التي تبقى نقطة قانونية ثابتة الجواب.

 5.5.3- وقد أبدى بعض أعضاء فريق العمل المزيد من الثقة تجاه الاعتراف بفعالية اختيار الشريعة في عقود التمويل الاسلامي اذا تضمن العقد ايضاً اختيار التحكيم الدولي. لدى مراجعة قرارات المحاكم البريطانية، والتي تتضمن اجتهاداً اغزر حول عقود التمويل الإسلامي، نرى أنه يتجلى بالفعل التناقض الصارخ ما بين نفاذ خيار الشريعة في العقود الخاضعة للتحكيم وسقوط هذا الخيار واستبداله بالقانون البريطاني وحده في عقود أخرى خاضعة مباشرة للمحاكم البريطانية.

 5.5.4- الا انه، وبعد المداولة، خلص فريق العمل الى انه يجب الاعتراف بفعالية قواعد الشريعة المطبقة على التمويل الاسلامي في النظام القضائي الفرنسي سواء امام المحكم أو القاضي.

5.6. هل يمنع النظام العام الفرنسي الداخلي أو الدولي القاضي الفرنسي من ان يعطي مفعولاً لعقد تمويل إسلامي خاضع للشريعة؟

 5.6.1- قد يثير تطبيق أحكام الشريعة على عقود التمويل الاسلامي التي يقصد أن يكون لها أثر قانوني في فرنسا بعض علامات الاستفهام حول علاقته بالمفاهيم الأساسية للنظام العام الفرنسي. وبالتالي، اذا أحيل عقد التمويل الخاضع للقانون الفرنسي إضافة الى مبادئ الشريعة مباشرة الى القاضي الفرنسي، لا يمكن الاحتجاج بخيار مبادئ الشريعة بهدف استبعاد القوانين او القواعد الآمرة. ونذكر بأنها القوانين الآمرة التي يعد احترامها ضرورياً من أجل المحافظة على المصالح العامة، مثل النظام السياسي أو الاجتماعي او الاقتصادي لبلد معين، بحيث أنه ينبغي تطبيقها على أي حالة تقع ضمن نطاق تطبيقها، بصرف النظر عن القانون وإن كان أجنبياً المطبق على العقد .

 5.6.2- غير انه اذا كان على المحاكم الفرنسية تطبيق القوانين أو القواعد الآمرة الخاصة بالنظام القانوني الفرنسي (وفي ظروف معينة، تلك الخاصة بالأنظمة القانونية الاجنبية)، فهذا لا يعني أنه يجب عليها استبعاد مبادئ الشريعة التي اختارها الأطراف والتي لا تتعارض والقوانين أو القواعد الآمرة. في الواقع، تكون ارادة الأطراف في عقود التمويل الاسلامي التي يحكمها القانون الفرنسي، متجهة في أغلب الأحوال الى اخضاع العقد المبرم بينهم للقانون الفرنسي، مع مراعاة مبادئ الشريعة المنطبقة على التمويل.

 5.6.3- على وجه الخصوص، يرى فريق العمل انه لا يمكن تفسير البند المختلط (ومن باب أولى البند الأحدي) على أنه مشترك بين القانون المختار والشريعة، وهو مفهوم يطبق و بموجبه القاضي أو المحكم فقط القواعد المشتركة بين النظامين. لا بل يجب تفسير البند المختلط انه يعبر عن ارادة الطرفين المتجهة إلى أن يطبق القانون الوطني المختار على العقد في جميع أحكامه، باستثناء تلك التي تتناقض والشريعة. على سبيل المثال، إذا اختار الأطراف تطبيق القانون الفرنسي على اتفاق قرض خاضع ايضاً للشريعة، فإن أحكام القانون المدني الفرنسي المتعلقة بالفائدة القانونية – كونها لا تشكل جزءاً من النظام العام يجب استبعادها كونها مخالفة للشريعة التي نهت عن الربا. في المقابل، ان الاشارة الى الشريعة في هذا القرض لا تؤدي الى استبعاد القواعد الالزامية المتعلقة بوجوب الحصول من السلطة المختصة على الترخيص اللازم لممارسة الأعمال المصرفية. في جميع الأحوال، إن اختيار الشريعة كقانون مطبق على العقد لا يؤدي الى استبعاد قانون القاضي التابع لمكان نفاذ العقد.

 5.6.4- في جميع الأحوال، وفي حال التعارض ما بين قاعدة من الشريعة والقوانين الآمرة، يتم استبعاد هذه القاعدة فقط، دون التشكيك في فعالية القواعد الأخرى من الشريعة التي اختارها الطرفان، أو في مبدأ خضوع العقد موضوع النزاع للشريعة، لأن من شأن ذلك ان ينفي الصفة القانونية الالزامية لهذه القواعد.

5.6.5- لدى البحث، تبين ان فرضيات تعارض أحكام الشريعة المتعلقة بعقود التمويل الإسلامي مع النظام العام الداخلي والدولي على حد سواء، الإجرائي والموضوعي، محدودة للغاية. في الواقع، سواء في حال توافر بند القانون الواجب التطبيق المختلط أو الأحدي، يمكن اعتبار فقط بعض القواعد قابلة للتعارض مع النظام العام الفرنسي.

    هكذا، وفي ما يختص بالمسائل الاجرائية، ومن بين أحكام الشريعة التي قد تؤدي الى مخالفة النظام العام ما يلي:

   (أ) القيمة الثبوتية لشهادة المرأة. وهناك نص في القرآن (سورة البقرة 282) يعطي قيمة ثبوتية مساوية بين شهادة رجل وامرأتين (بعيداً عن الأحكام الخاصة بالإناث، مثل الولادة، حيث تكون شهادة المرأة كافية، والتي تقع خارج نطاق هذه الدراسة)؛

   (ب) الشكوك حول الولاية القضائية لغير المسلم على المسلم. هذه الشكوك لا تستند الى نص من القرآن الكريم ولكن على التعاليم الحنفية والمالكية والشافعية التي تحظر على ذمي ان يكون له ولاية على مسلم ؛ و

   (ج) الشكوك حول الولاية القضائية للمرأة على الرجل، ولكن مرة أخرى من دون أن يكون لها أساس في القرآن الكريم أو اجماع في الآراء بين مختلف مدارس الفقه. هكذا يقبل الحنفيون بولاية المرأة باستثناء القضايا الجنائية، في حين ان الشافعيين يرفضونها قطعياً.

 5.6.6- في معرض استجوابه من قبل فريق العمل في جلسة الاستماع تاريخ 23 مارس 2009، صرح الشيخ نظام يعقوبي إن هذه القواعد التمييزية ليست لتطبق على التمويل الاسلامي، وأنه في كثير من الدول الإسلامية، مثل البحرين، تتبوأ النساء المناصب القضائية دون أية مشكلة.

    وذكر فريق العمل ايضاً بتعيين أول امرأة قاضية في القضايا المدنية في مصر عام 2008، جاءت تنضم الى مثيلاتها القاضيات في تونس والجزائر والمغرب وسوريا.

 5.6.7- بعد الفحص وسماع الافادات المقدمة اليه، خلص فريق العمل الى أنه لا يمكن لأي من هذه القواعد التمييزية أن توضع موضع التنفيذ من قبل المحكمة الفرنسية الناظرة في قضايا التمويل الاسلامي. اما بالنسبة الى تطبيق هيئة التحكيم هذه القواعد في اي تحكيم محلي ام دولي فقد يعيب تطبيقها القرار التحكيمي بحجة مخالفته للنظام العام في بلد التنفيذ في حال طلب الاعتراف به او اعطاؤه الصيغة التنفيذية في فرنسا. غير انه يجوز للهيئة التحكيمية استبعاد تطبيق قواعد معينة يختارها الأطراف اذا كان تطبيقها يؤدي الى نتيجة تتعارض والنظام العام الدولي للدولة التي سينفذ فيها القرار التحكيمي.

    لذلك، ينبغي لهيئات التحكيم ان تمتنع عن تطبيق هذه القواعد التمييزية، لأنها هي المسؤولة في المقام الأول عن ضمان فعالية القرارات التي تصدرها.

    ويمكننا أن نضيف أن القواعد الاجرائية المنطبقة على النزاعات المتعلقة بالتمويل الاسلامي تلك الواجبة التطبيق في المكان الذي يختاره الأطراف في العقد المبرم بينهم، ولا تطبق هي "الشريعة" الا على أساس النزاع.

 5.6.8- من حيث المضمون، ينبغي ان تكون قواعد الشريعة الاسلامية المنطبقة على القضايا المالية (المعاملات) متوافقة مع النظام العام الفرنسي فهي لا تشكل في حال الخلاف أسباباً لرفض الاعتراف او منح الصيغة التنفيذية في فرنسا لقرار تحكيمي أو حكم اجنبي. دون المس بهذا المبدأ، تظهر الوقائع ان المبادئ المالية للشريعة وهي تحريم الفائدة (الربا)، وعدم اليقين (الغرر) أو أيضا المضاربة (الميسر) لا تتعارض والنظام العام .

  5.6.9- ومع ذلك، ومع يجب في شأن توافق القرار التحكيمي أو الحكم الأجنبي مع النظام العام الدولي في حال اعترف هذا القرار على سبيل المثال بعملية "اجارة" أجرتها مؤسسة غير مرخص لها. في حال تم وصف هذه العملية بعملية قرض ايجاري يجري بشكل اعتيادي، تكون الأحكام التي تنظم الاحتكار المصرفي قابلة للتطبيق ويمكن التذرع بمخالفة الاحتكار المصرفي بهدف رفض الاعتراف او تنفيذ القرار التحكيمي والحكم الاجنبي الذي حكم بصحة الإجارة.

   في الواقع، نصت المادة L.512-2 من قانون النقد والمال في فرنسا على ان عمليات القرض الايجاري المذكورة في المادة L.313-7 لا يمكن القيام بها بصورة اعتيادية الا من قبل المؤسسات المعتمدة بصفتها مؤسسات للتسليف. وان لهذه المادة صفة القاعدة الآمرة.

 5.6.10- وأخيراً، تساءل فريق العمل عما اذا كان، في المقابل، هناك اي نص في القانون الفرنسي الذي من شأن تطبيقه على العقد من قبل قاض أو محكم ان ينفي عن العقد طابعه المتوافق مع الشريعة.

    بعد سماع الشيخ نظام يعقوبي، خلص فريق العمل الى انه يجب على الأخص احترام قاعدة حظر الفائدة. ويمكن للتشكيك بهذه القاعدة من قبل المحاكم الفرنسية أن يشكل عقبة في طريق تقدم مركز باريس بصفته قطباً لجذب التمويل والاستثمارات الاسلامية.

- 6 التوصيات:

    يجب الا يثير انفاذ خيار تطبيق الشريعة على عقود التمويل والاستثمارات الاسلامية في النظام القانوني الفرنسي اي تعارض والنظام العام. ويسهل هذا الانفاذ عندما يتعلق بعقد دولي يتضمن خيار تطبيق الشريعة خالياً من الغموض، سواء كان مجتمعاً مع قانون وطني أم لا.

   غير أن هناك حاجة حقيقية للإعلام والتدريب. ويوصي فريق العمل لجنة القطاع المالي الاسلامي لـ "باريس يوروبلاس Paris Europlace" بالنظر، ضمن خطة عملها، في اصدار بيان موجه تحديداً الى القضاة المختصيـن وقضـاة المحاكـم، يتضمـن استنتاجـات هذا التقرير، ويتناول موضوع قانونية أحكام الشريعة المنطبقة على عقود التمويل الاسلامي، والمنهجية الواجبة الاتباع في تحديد هذه الأحكام، تجربة المحاكم في ولايات أخرى في مجال المنازعات المتعلقة بالتمويل الاسلامي، وكذلك لمحة عامة عن عقود التمويل الاسلامي الرئيسية. وسيكون مثل هذا النهج التعليمي جديراً بإبعاد اي جدل حول واقعية الصفقة المعنية أو هدفها الاقتصادي.

    سوف تتلو هذا الاعلام، عند الضرورة، دورات تدريبية ملائمة في مختلف الحلقات التدريبية للقضاء الفرنسي.

   نظراً الى اجتهادها المرحب بالقواعد القانونية غير التابعة لدولة معينة في العقود الدولية، يجب اعتبار المحاكم الفرنسية أهم ركائز إجتذاب مركز باريس رؤوس الأموال الاسلامية، وتتميز عن المراكز الاجنبية المنافسة والتي لا تظهـر المحاكم فيها انفتاحاً مماثلاً.

تعليق الدكتور محمد سليم العوا" (مصر)

على تقرير فريق العمل

في شأن القانون واجب التطبيق وتسوية النزاعات

الناشئة عن التمويل الإسلامي

   لا مراء في أن هذا التقرير خطوة متقدمة في سبيل تيسير استضافة فرنسا (أو باريس) للتحكيمات التي يكون قانونها الموضوعي هو الشريعة الإسلامية.

    فتوصيات فريق العمل، الذي أعد هذا التقرير، صريحة في اعتبار القضاء الفرنسي أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالتمويل الإسلامي قواعد قانونية يجب أن تقضي المحاكم الفرنسية

 

بنفاذها عندما يكون الأطراف قد اختاروا الشريعة الإسلامية لتحكم عقد التمويل أو الاستثمار الدولي المبرم بينهم.

    والواقع أن هذا الإقرار بكون أحكام الشريعة قواعد قانونية واجبة الإعمال لا يقتصر على الأحكام الخاصة بالتمويل الإسلامي دون غيرها، بل هو يتسع ليشمل أحكام الشريعة بوجه عام. فالشريعة الإسلامية ليست إلا قانونا ينظم علاقات الأفراد، والجهات، بعضها ببعض. وإذا كان الود السماوي (القرآن والسنة) هو مصدر القواعد الكلية الأساسية فيها، فإن الاجتهاد البشري على مستوى الأئمة المجتهدين، وعلى مستوى المدارس (= المذاهب الفقهية هو مصدر الجمهرة ، العظمى من هذه الأحكام.

وهي أحكام تقوم في جملتها، وفي تفاصيلها، على قاعدة تحصيل المنافع للمكلفين (أي الكافة) ودرء المضار عنهم. وهذه الحقيقة، المتفق عليها بين علماء الشريعة، تفتح الباب واسعاً للاجتهاد المتجدد، في كل عصر، بل في كل واقعة تعرض للقضاء أو للإفتاء فيها، بحيث لا يكون الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية عائقاً في أي وقت بين المحتكمين إليها وبين مواجهة الظروف المتغيرة دائماً، ولاسيما في المجالات الخاصة بالعلاقات الاقتصادية الدولية، بحلول ملائمة للعصر مستمدة من أصول الأحكام الإسلامية.

    ولا ينال مما سلف بيانه كون أحكام الشريعة غير مقننة، بمعنى أنها ليست مصوغة في صورة مواد قانونية محددة، كما هو الحال في التشريعات المدنية المعاصرة Civil Law Codes . لأن استخلاص الحكم الموضوعي المنطبق على واقعة النزاع سيكون من عمل هيئة التحكيم التي لابد أن تضم في عضويتها مختصاً أو أكثر في الشريعة الإسلامية، ويأتي دور المحكمة الفرنسية في مراقبة مدى التزام حكم التحكيم بأصول التقاضي العامة مثل مبدأ المواجهة، ومبدأ كفالة حق الدفاع، ومبدأ المساواة بين الخصوم، ومبدأ حياد المحكمين... إلخ، فضلاًعن التأكد من أن الحكم التحكيمي لا يتضمن ما يخالف النظام العام كما هو مقرر في القانون الفرنسي؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تقنين أحكام الشريعة الإسلامية قد خطا خطوات واسعة منذ صدور مجلة الأحكام العدلية في الدولة العثمانية (1870)، فصدرت مجلة حنبلية صاغ نصوصها العلامة الشيخ أحمد بن عبد الله القاري، وحققها وأعدها للنشر الصديقان الدكتور محمد إبراهيم والدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، ونشرت في جدة عام 1981؛ ومجلة مالكية بعنوان ملخص الأحكام الشرعية، صاغ نصوصها المحامي محمد بن عامر ونشرت عدة مرات في ليبيا، أولها سنة   1937 وآخرها سنة 1996؛ وقارن بين المجلة التركية وبين المذهب الشيعي الإثني عشري العلامة آية الله الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، ونشرت تعليقاته مع نص المجلة عدة مرات منها نشرة النجف الأشرف سنة 1359 هـ.

    ويخلص التقرير إلى نتيجة صحيحة، جديرة بالتأييد، في شأن وجوب إنفاذ أحكام الشريعة الإسلامية، إذا احتكم إليها الأطراف، في أي عقد من عقود التمويل الدولية؛ واقتراح التقرير أن تتبع المحاكم الفرنسية، عند تعرضها لإنفاذ أحكام الشريعة الإسلامية، المنطق نفسه الذي اتبعته في إعمال مبادئ التجارة الدولية وأعرافها (Lex Mercatoria)  باعتبارها قواعد قانونية غير مستمدة من قانون دولة معينة، اقتراح وجية يتطابق مع وسائل تطوير النظام القانوني اللازمة لنجاح العمل القضائي في الوصول إلى حلول عادلة لما يحكم فيه من منازعات.

    وقد لاحظ فريق العمل أن أحكام الشريعة الإسلامية، أو مبادئها، تعتبر (قانون دولة) أو مجموعة من الدول. وذكر على سبيل المثال المملكة العربية السعودية والسودان وباكستان. والواقع أن القائمة التي تشمل الدول التي تعتبر الشريعة الإسلامية فيها قانون الأصل، أو مصدر التشريع، أطول من ذلك بكثير، ويدخل فيها من الدول التي تكثر فيها عقود التمويل الإسلامي المحلية والدولية: مصر وإيران والإمارات العربية المتحدة والأردن واليمن وليبيا، وعدد كبير آخر من الدول الإسلامية. وهذا ييسر على المحاكم، وعلى هيئات التحكيم، كلما تعلق الأمر بدولة من هذه الدول، الرجوع إلى أحكام الشريعة باعتبارها قانون الأصل في تلك الدولة.

    وتثور هنا مسألة المذهب أو المدرسة الفقهية التي يتبعها المشرع أو يلتزم بها القاضي في دولة أو أخرى من تلك الدول. فالمملكة العربية السعودية تتبع مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وباكستان يسود فيها المذهب الحنفي، وإيران يطبق فيها المذهب الشيعي الاثني عشري، واليمن يتوزعها المذهبان الشافعي والزيدي، والقانون المدني في دولة الإمارات ينص في مادته الأولى على وجوب اختيار القاضي، عند الحكم بالشريعة الإسلامية: >>أنسب الحلول من مذهبي الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل فإذا لم يجد فمن مذهبي الإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة حسبما تقضيه المصلحة<<.

   وثمة صورة واسعة للنص ـ في قانون دولة في قانون دولة ـ على تطبيق أحكام الشريعة هي التي يتضمنها القانون المدني الأردني بنصه في مادته (1/2) على أن المحكمة إذا لم تجد )نصا في هذا القانون حكمت بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر موافقة لنصوص هذا القانون، فإن لم توجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية.( وقريب من هذه الصيغة ما نص عليه القانون المدني الكويتي في مادته (2/1) من أنه إذا لم يوجد «نص تشريعي، حكم القاضي وفقاً لأحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقا مع واقع البلاد ومصالحها....(

  وأوسع من ذلك ما نص عليه القانون المدني المصري في المادة (2/1) من أن القاضي إذا لم يجد نصاً تشريعياً «حكم بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد، فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية...».

    فهل يجب على هيئة التحكيم التي تنظر في نزاع اختار الأطراف فيه الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية أن تلتزم بفهم مدرسة معينة أو مذهب معين من مذاهبها أو مدارسها الفقهية؛ أو أن تلتزم بترتيب معين بين تلك المذاهب كما يلزم المحكمة بذلك قانون دولة الإمارات؛ أو أن تلتزم بإعمال أقرب المذاهب إلى قانون دولة ما، أو الأحكام الأكثر اتفاقا مع واقع البلاد ومصالحها كما يلزم المحكمة بذلك القانون الأردني والقانون الكويتي، على التوالي؟

    وهل يقع مثل هذا الالتزام، في أية صورة من صوره، على عاتق المحكمة الفرنسية التي تنظر في نزاع من هذا النوع أو تختص بالنظر في حكم تحكيمي – في دعوى لتنفيذه أو دعوى لإبطاله – بحيث تتبع مذهبا معينا من مذاهب الفقه الإسلامي؟

   إن الجواب عن هذا السؤال يتوقف على الاطلاع على الشرط الذي يورده الأطراف في عقدهم. فإذا أحال الأطراف على مذهب معين، أياً تكن صيغة هذه الإحالة، فإنه يتعين على هيئة التحكيم، ومن ورائها المحكمة المختصة بالنظر في دعوى تنفيذ حكمه أو إبطال هذا الحكم، الالتزام بما أراده الأطراف وقرروه في عقدهم باعتبار «اتفاق الأطراف وإرادتهم هي الشريعة العامة للتحكيم» سواء أكان التحكيم في عقد يحكمه قانون دولة ما أم كان في عقد تحكمه «أحكام الشريعة الإسلامية» [انظر مؤلفنا: دراسات في قانون التحكيم المصري والمقارن، الطبعة الثانية، المركز العربي للتحكيم، 2009 ص 10-12 وص 220-221 ]

    وكذلك الحال إذا كان اتفاق الأطراف يتضمن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على النحو الذي يشير إليه قانون دولة ما، فعندئذ يجب على هيئة التحكيم، أو المحكمة التي تنظر في تنفيذ حكمها أو إبطاله، التقيد بما أراده الأطراف.

ولكن الغالب أن يحيل الأطراف ـ كما ذكر التقرير على أحكام الشريعة الإسلامية بصفة عامة دون تخصيص بمذهب من مذاهبها، وعندئذ يكون لهيئة التحكيم، بل يكون عليها، أن تستهدي بالمبادئ العامة في الشريعة الإسلامية، وهي مقررة بنصوص قرآنية، أو نصوص من السنة النبوية، أو مستخلصة بالاستقراء الفقهي الواسع لما لا يحصى من التطبيقات التي أدت إلى صباغة القواعد الفقهية والأصولية.

    ومنذ القرن السابع الهجري لم تعد تلك القواعد تحتاج للتعرف عليها إلى الغوص في بطون الكتب الفقهية أو كتب الفتاوى، إذ أفردت لها مؤلفات خاصة لجمعها، وأخرى لشرحها وإيراد التطبيقات عليها، وثالثة للمقارنة بين مجموعاتها، وطبقت هذه القواعد أحكام تحكيم صدرت في منازعات التمويل الإسلامي، في مصر خاصة، لعل الفرصة تسنح لعرض بعضها معلقا عليها في مجلة التحكيم.

    واللجوء إلى هذه القواعد هو لجوء إلى قدر متفق عليه ـ أو يكاد بين المدارس الفقهية كافة، بل وقد قنن أهم ما فيه منذ صدور مجلة الأحكام العدلية التي طبقت في الأقاليم التي كانت خاضعة للدولة العثمانية (1870) ثم ضمنت في قوانين عدد من الدول منها التقنين المدني لدولة الإمارات العربية المتحدة (المواد من 29 إلى 70) والقانون المدني الأردني (المواد من 61 إلى 85  ).

    وفي صدد تحديد أحكام الشريعة الإسلامية ذات الصلة بموضوع النزاع، يشير التقرير إلى دور الأطراف، وخبرائهم، في هذا التحديد. وإذا كان كل من الطرفين يسعى عادة إلى إثبات أن القانون الذي يحكم العقد (أحكام الشريعة الإسلامية) يقضي بما يحقق مصلحته، فإن الخبراء الذين يستعان بهم يكونون -عادة- أكثر حرصاً على ذكر الآراء المختلفة في الموضوع، ومناقشتها بطريقة علمية مستقيمة، وجهدهم هذا يمكن هيئة التحكيم، أو المحكمة بعدها، من استخلاص أقرب ما يكون إلى الصواب لأحكام الشريعة المنطبقة على النزاع.

ويعين على أن تكون هذه الاستخلاصات سائغة الاطلاع على القواعد المطبقة في مجال التمويل الإسلامي، ولاسيما تلك التي أشار التقرير إليها، وهي القواعد الصادرة عن هيئة المحاسبة والتدقيق للمؤسسات المالية الإسلامية، وعلى مجموعة القرارات الصادرة عن المجامع الفقهية في الشأن الاقتصادي ولاسيما مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، و المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وعلى مجموعة الفتاوى التي تصدرها بين الحين والآخر، هيئات الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية، وبوجه خاص في بنك (= بنوك) فيصل الإسلامي، وبنك قطر الإسلامي، والمصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة.

    إن هذه المصادر تمثل حصيلة جيدة جدا للآراء الراجحة، في النظر العصري، من الفقه الإسلامي الموروث والاجتهادي معاً. وهي لازمة لكل مشتغل بتطبيق القانون الإسلامي في المجالات الاقتصادية الدولية، إذ يستطيع، من خلال الاطلاع المتأني عليها، تكوين صورة أقرب ما تكون إلى الحقيقة التشريعية عن مبادئ الشريعة وأحكامها التي تطبق في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية والمحلية.

    وقد أشار التقرير إلى ضرورة استبعاد أحكام الفائدة على القروض من التطبيق على العقود التي تحكمها الشريعة الإسلامية. ومن الضروري هنا الإشارة إلى نوع الفائدة الممنوع شرعاً هو الذي يؤدي إلى ظلم المدين وإغراقه في تحمل ما لا يمكنه تحمله، نتيجة إعساره، وأن المدين المعسر يجب إنظاره إلى ميسرة لقول الله تعالى…} وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة]{ …البقرة: [280 : لكن المدين الموسر الذي يقدر على سداد دينه ويماطل في ذلك، فإن الشريعة الإسلامية، أخذا من نصوص السنة الصحيحة، تجيز عقابه بعقوبة تعزيرية )أي غير محددة في النصوص بل متروكة ليقدرها المشرع في كل نظام قانوني حسب ظروفه.( وهذه العقوبة قد تكون غرامة مالية، ولا مانع أن تكون منسوبة إلى أصل الدين الذي يماطل في أدائه ]انظر تعليقنا على حكم ICC الصادر في القضية رقم 8677/FMS، مجلة التحكيم، العدد الخامس، يناير 2010 ص .809]

وكل ما أورده التقرير من مواقف الفقه الإسلامي الموروث في شأن شهادة المرأة، وشهادة غير المسلم، ينبغي إعادة النظر فيه، والأخذ بالاجتهادات المعاصرة في شأنه ]راجع كتابنا: الفقه الإسلامي في طريق التجديد، الطبعة الثالثة، سفير الدولية للنشر، القاهرة 2007 و160 و. [278 فالصحيح في هذا الشأن أن شهادة المرأة هي شهادة واحدة، وأن غير المسلم والمسلم سواء في الشهادة أحدهما على الآخر، لأن تصوير الشهادة على أنها ولاية من الشاهد على المشهود له أو المشهود ضده تصوير يجافي المنطق القضائي والقانوني في النظم المعاصرة كافة، وفي صحيح الفهم الفقهي الإسلامي كذلك؛ فالولاية هي إمضاء قول شخص على غيره، والشهادة دليل يقدم أمام المحكمة، أو هيئة التحكيم، ويخضع لتقدير القضاة أو المحكمين ولا يملك الشاهد أو المشهود له أن يلزم المحكمة أو هيئة التحكيم بالأخذ بقول شاهد دون آخر أو بقول الشهود كافة. فليس في الشهادة ولاية من أي نحو جرى النظر إليها.

   وولاية المرأة القضاء مندرجة في حقها في تولي المناصب العامة في الدولة، وهو حق تكفله النصوص الإسلامية، والقراءة الصحيحة للنصوص التي توهم غير ذلك تبين فساد هذا التوهم جملة وتفصيلاً ]راجع كتابنا سالف الذكر، ص166- 147؛ ودراسة خاصة بولاية المرأة للقضاء في: ملحق مجلة القضاة المصرية، عدد يونيو ديسمبر 2002،ص 75- 63 ودراسة المستشار طارق البشري: حاشية عن المرأة وولاية القضاء، العدد نفسه ص 34

    وفي مقام الختام أود تأكيد اتفاقي مع التقرير في أن المحاكم الفرنسية، في ضوء اجتهادها القضائي المعترف بالقيمة القانونية الإلزامية للقواعد غير التابعة لقانون دولة معينة، مؤهلة أكثر من سواها، من المحاكم التي تتخذ موقفاً مغايراً، لاجتذاب قضايا الاستثمار الإسلامي التي يحسم النزاع فيها، قضاء أو تحكيماً، وفق قواعد الشريعة الإسلامية.

 

تعليــق الدكتـور عبـد الستـار الخويلدي (دبي)

على تقرير فريق العمل المكلف من قبل لجنة التمويل الإسلامي في فرنسا في شأن البحث في القانون الواجب التطبيق وفض النزاعات في مجال التمويل الإسلامي

  مقدمـة    :

   كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن إستعداد فرنسا الرسمي للترحيب بالصناعة المالية الإسلامية على أرضها. وفي هذا الإطار سعت الحكومة الفرنسية منذ سنتين تقريباً الى إجراء تعديلات مالية وقانونية لإستقطاب الإستثمار الأجنبي على أرضها ومن ضمنها التمويل الإسلامي عموماً والصكوك خصوصاً. وقد تم تكليف مكاتب خبرة لتمهيد الطريق أمام التمويل الإسلامي سواء بدراسة حجم السوق المالية الإسلامية، أو بدراسة مضمون وصيغ المنتجات المالية الإسلامية، أو بدراسة المعوقات داخل النظام المالي والقانوني الفرنسي، وتم اتخاذ بعض الإجراءات الضريبية في مجالي الصكوك والمرابحة لا يتسع المجال في هذا التعليق للخوض فيها بالتفصيل.

    ونشهد هذه الأيام سعياً حثيثاً في فرنسا الى ترجمة الموقف السياسي إلى قرارات عمليـة بغرض الإستفادة من النمو السريع لنشاط المؤسسات المالية الإسلامية. ومثل هذا الحرص – وإن كان متأخراً نسبياً- إلا أنه يعكس الرغبة في تقليص الهوة التي فصلت فرنسا عن بعض البلـدان الأوروبية التي تبنت الصناعة المالية الإسلامية في وقت مبكر مثل بريطانيـا وتحقيـق الـسبق بالنسبة الى المترددين في جهات أخرى من العالم.

   ومن الإجراءات التي مازالت تحت الدراسة والمزمع تفعيلها لاحقا نذكر ما يلي: 1- مراجعة القانون الفرنسي الحالي المنظم للإجارة المنتهية بالتمليك ("القرض الإيجاري" وفـق المصطلح المستخدم في القانون الفرنسي) وذلك بتوسيع مجالاتها التي تقتصر فـي القـانون الحالي على التمويل المهني (تمويل المعدات الطبية، وتمويل الصناعيين والتجار، والمقاولين) لتشمل تمويل الأفراد، الأمر الذي سيمكن شرائح اجتماعية واسعة من الإستفادة مـن هـذا التوسع ولعل أهمها الحصول على تمويل عقاري لإقتناء مقر للسكن. وهذه من الأمور التـي اولتها فرنسا منذ أمد بعيد اهتماماً كبيراً للمحافظة على التوازن الإجتماعي وتوسيع دائـرة الملكية الفردية، خاصة في مجال السكن.

2 - دراسة عقبات تبنى التأمين وإعادة التأمين التكافلي في فرنسا. علماً أن لفرنسا قوانين قديمـة جداً في "التأمين التعاوني"، يمكن أن تشكل أرضية لتأمين تكافلي عصري ومطـابق لأحكـام الشريعة الإسلامية إذا ما نقيت القوانين من بعض المخالفات الشرعية.

 3- التفكير في القانون الواجب التطبيق في عقود الصناعة المالية الإسلامية، والإعتـراف فـي فرنسا بأحكام التحكيم الأجنبية التي لها علاقة بمسائل تخص الصناعة المالية الإسلامية.

   ونرى في مقاربة الموضوع من الناحية القانونية في بداية المسار خطوة موفقة إلى حد كبير في سبيل ترسيخ قدم الصناعة المالية الإسلامية في فرنسا، وذلك للأسباب التالية:

 السبب الأول: المعاملات المالية إسلامية كانت أو غير إسلامية تقوم على العقود التي توثق الحقوق والإلتزامات. كما أن ضوابط العقود وشروطها، وتوازنها، وفسخها، وبطلانهـا تحكمهـا القواعد القانونية مهما كان شكلها. وهذا مجال لا بد من تغطيته منذ البداية خاصة في دولة يقـوم نظامها القانوني على "القانون المقنن" ولا مكان للعرف إلا في أضيق الحدود، وفيما تركه القانون من فراغ أو فيما نص عليه صراحة.

    السبب الثاني: البدء بالجانب القانوني في التعامل مع الصناعة المالية الإسلامية يؤكد جديـة التوجه لدى السلطات المختصة. فإثارة المسائل القانونية منذ البداية يجنب التجربة خطر التراجع الفشل. فلو تم التركيز على الجوانب الأخرى مع تأجيل بت الجانب القانوني لأدى ذلك ربما إلى التراخي في تنفيذ المشروع المعلن بشكل كلي أو جزئي بسبب بروز إشكال قانوني هنا وهنـاك. فكثرة المبادىء المشتركة بين القانون الوضعي الفرنسي وأحكام الشريعة الإسلامية يجـب الا تحجب الخلافات بين النظامين.

    وهذه المقاربة القانونية هي موضوع تعليقنا في هذا البحث حيـث كلفـت لجنـة التمويـل الإسلامي في فرنسا بتاريخ 2008/12/17، فريق عمل على رأسه الأستاذ/ جورج عفاكي، مهمة التفكير في صيغ وآفاق فض النزاعات في مجال التمويل الإسلامي التي قد تعرض على القضاء الفرنسي مباشرة كقاضي في الأصل أو بصفة غير مباشرة عن طريق طلب الإعتراف بالأحكـام الأجنبية أمام القضاء الفرنسي سواء أكانت تلك الأحكام قضائية أو تحكيمية. وأعد التقرير بتاريخ 2009/9/21 م.

(1)

تشكيل الفريق وضبط المهمة

تم تشكيل فريق عمل عهدت له مهمة إعداد تقرير حول القانون الواجب التطبيـق وتسوية النزاعات في التمويل الإسلامي. وتم حصر تفصيل المهمة في سـتة أسـئلة سـوف نعرضـها بالتفصيل لاحقاً.

    إن اختيار الفريق منهج طرح الأسئلة والإجابة عنها يعد من الناحية العلمية والعملية صيغة مبسطة من شأنها توضيح المقصود بدقة وتفادي التداخل والخلط في الأفكار. ومواكبـة للمـنهج المعتمد سوف نعلق على كل إجابة على حدة على أن تثار التعليقات العامة والإستنتاجات فـي المعتمد الخاتمة.

(أ) تشكيل فريق العمل:

 يتألف الفريق من مدير وأربعة أعضاء وسكرتارية وهم:

 مدير الفريق: السيد/ جورج عفاكي، عضو اللجنة التنفيذية والمسؤول عن التمـويلات ذات الهيكلة في بنك باريبا بفرنسا.

 أعضاء الفريق:

 1- الأستاذ الدكتور/ إبراهيم فضل الله، الأستاذ بجامعة باريس.

2- الرئيس دومنيك هاشير، رئيس الدائرة التجارية - محكمة الإستئناف بـ"رنس" والأستاذ المشارك في جامعة باريس السوربون.

 3- المستشارة/ أليس بزار، المستشارة لدى محكمة التمييز (النقض).

 4- الأستاذ الدكتور/ فرانسوا قزفيي تران الأستاذ بجامعة باريس.

  سكرتارية الفريق: السيدة/ نادية ماجري وهي بصدد إعداد رسالة دكتوراه فـي جامعـة السوربون.

    وقد جمعت اللجنة بين التأهيل العلمي الأكاديمي بفضل وجود أستاذين جامعيين فـي مجـال القانون وبين الممارسة القضائية بفضل وجود قاضيين من أعلى مراتب القـضاء فـي القضائي الفرنسي. ولم يغب عن الفريق الجانب المالي والمصرفي بفضل تأهيل رئيس الفريـق في المسائل المصرفية عموماً والتمويلات المهيكلة خصوصاً.  

وقد يبدو للوهلة الأولى غياب التمثيل الشرعي في عضوية فريق العمل الذي تتضمن مهمته خوضاً ضرورياً في دراسة مقارنة بين أحكام الشريعة الإسلامية فـي مجـال فقـه المعـاملات والقانون الوضعي الفرنسي. وقد أشار التقرير صراحة إلى هذه النقطة مبيناً أن فريق العمـل - الذي يحسب له إلمام بعض أعضائه باللغة العربية- قد إستمع إلى توصيات وآراء الشيخ/ نظـام اليعقوبي الباحث المعروف في مجالات الصناعة المالية الإسلامية والعضو في كثير من هيئـات الرقابة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية، كما استمع الفريق إلى القاضي/ ميشال بيـارت وهو قاض في الدائرة التجارية بباريس.

(ب) ضبط المهمة ومنهجية العمل:

    حدد الفريق ستة محاور في شكل أسئلة اعتبرها الفريق بمثابة جـوهر المهمـة. وقبـل الإجابة عن الأسئلة أثار التقرير -الذي يحتوي على 29 صفحة- ملاحظتين تمهيديتين:

 أولاً- الأسئلة الستة التي طرحها فريق العمل:

- السؤال الأول: هل تعتبر قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية في مجال التمويل الإسـلامي قواعد قانونية

- السؤال الثاني: هل لعقد تمويل اسلامي دولي تحكمه قواعد الشريعة الإسلامية، كقانون واجب التطبيق باختيار أطراف النزاع دون الإشارة إلى قانون وطني، أثر أمام المحاكم الفرنسية؟

 -السؤال الثالث: هل يختلف قبول المحاكم الفرنسية لقواعد الشريعة كقانون واجب التطبيق في التمويل الإسلامي عند اختيار أحكام الشريعة دون سواها كقانون واجب التطبيـق أو عند المزج (الجمع) بين أحكام الشريعة والقانون الفرنسي (أو أي قانون آخر)؟

- السؤال الرابع: كيف يمكن للقاضي الفرنسي تشخيص القواعد المتعلقـة بفـض النـزاع المعروض عليه للنظر إنطلاقاً من مصادر الشريعة الإسلامية؟

 - السؤال الخامس: عند تطبيق أحكام الشريعة على عقود التمويل الإسلامي ذهبت المحاكم البريطانية إلى استبعاد أحكام الشريعة التي اختارها أطراف النزاع، هل يتخـذ القاضـي الفرنسي الموقف نفسه لو عرض الأمرعليه؟ وإذا ما اختار أطـراف النـزاع صيغة التحكيم وصدر الحكم وفق أحكام الشريعة باستثناء أي قانون وطني أو قواعد قانونية غير وطنية، هل تصادق المحاكم الفرنسية على مثل هذا الحكم؟

- السؤال السادس: هل يمنع النظام العام الداخلي (الوطني) أو الدولي القاضي الفرنسي من تفعيل عقد تمويل إسلامي تحكمه قواعد الشريعة؟ وبمعنى آخر: هـل تـتـضمن أحكـام الشريعة في شقها المتعلق بفقه المعاملات (الذي يختلف عن فقه العبادات) قواعد فى الأصل أو قواعد إجرائية مخالفة للنظام العام الفرنسي؟

 

ثانياً- الملاحظات التمهيدية: قبل الشروع في الإجابة عن الأسئلة، أثـار التقريـر ملاحظتـين تمهیدیتین:

- الملاحظة الأولى: تتعلق بمجال نوعية التمويلات المغطاة بالتقرير. فقد إقتـصر التقريـر على التمويلات الدولية دون سواها بحيث لا يشمل التقرير العمليات المصرفية الخاصـة بالتجزئة وذلك حتى يعكس التقرير توجهات لجنة التمويل الإسلامي في شأن الإختصاص الذي إختارته.

- الملاحظة الثانية: حصر الفريق مهمته في صيغ فض النزاعات التـي مـن شـأنها أن تعرض على القضاء الفرنسي دون الصيغ الأخرى. ولم يغب عن التقرير دور الـصيغ الودية في فض النزاعات مثل الصلح الذي أشارت إليه الكثير من الآيات القرآنية، وادي دوراً كبيراً في فض النزاعات في التاريخ الإسلامي. فقد أشار التقرير إلى دور الـصلح في التنظيم القبلي قبل الإسلام وبعده وصولاً إلى الحقبة العثمانية التي إنتشر فيها الصلح بين الحرفيين والتجار. كما أشار التقرير إلى إفتراض النص علـى الـصـلـح فـي عقـد التمويل الإسلامي سواء كإجراء تمهيدي قبل اللجوء إلى القـضاء أو التحكـيم أو حتـى بالتوازي مع آليات فض النزاعات الأخرى، مؤكداً أن فقه القضاء الفرنسي قد فعل شرط الصلح المنصوص عليه في العقد، وذلك بفرض إحترام إرادة الأطـراف بالسعي الـى الصلح قبل اللجوء الى التقاضي أمام المحكمة. وبناء عليه وعملاً بإرادة الطرفين فقـد تقرر أنه "لا يمكن مع وجود شرط الصلح اللجوء إلى المحكمة ما لـم يثبـت فـشل أو رفض الصلح، وعلى المدعي عدم رفض إجراءات الصلح من حيث المبدأ، بل لا من إثبات الشروع فيها" (الدائرة المدنية الأولى لمحكمة النقض الفرنسية - قرار رقم ب  08-11 2009866 بتاريخ 2009/4/9). ورأى التقرير في موقف فقه القـضاء هـذا موقفاً إيجابياً وتكريساً لإرادة الأطراف في الصلح ورصيداً إضافياً يحسب لسوق المـال ب والأعمال بباريس.

 

(2)

مضمون أجوبة فريق العمل عن الأسئلة الستة المطروحة والتعليق

     نظرا إلى الإستقلالية النسبية للأسئلة عن بعضها البعض، كما تصورها فريق العمـل، وإن كانت تدور كلها حول إشكالات القانون الواجب التطبيق في المعاملات المالية الإسلامية وموقـف القانون الوضعي منه، فقد إعتمدنا التعليق على كل جواب على حدة، وذلك بالرغم مـن إمكانيـة حصر الأسئلة الستة في ثلاثة محاور كبرى وهي:

·   مدى توفر عناصر القاعدة القانونية لأحكام الشريعة الإسلامية بالمعنى العصري لمفهـوم القاعدة القانونية.

·   منهجية القاضي أو المحكم في كيفية تشخيص القواعد المناسبة لفض النزاع إنطلاقاً مـن أحكام الشريعة الإسلامية.

·   مدى تطابق أحكام الشريعة الإسلامية مع النظام العام الفرنسي.

  •  السؤال الأول :

  هل تعتبر قواعـد الشريعة الإسلامية وأحكامها في مجال التمويل الإسـلامي قواعـد قانونية؟

    يلاحظ في البداية أن الفريق حصر الموضوع في مجال محدد وهو فقه المعاملات وبالتحديد التمويل الإسلامي وهو المجال الذي تعتزم فرنسا تفعيله على أرضها. وهذا يعني أن مسألة البحث في مدى توافر عناصر القاعدة القانونية لأحكام الشريعة الإسلامية ليست مطروحة على إطلاقها. فالسؤال لا يمتد إلى مدى توافر عناصر القاعدة القانونية لأحكام الشريعة الإسلامية فـي مجـال الأحوال الشخصية على سبيل المثال.

    وإجابة عن هذا السؤال أجمع أعضاء الفريق على أن قواعد الشريعة فـي مجـال التمويـل الإسلامي هي قواعد قانونية. فهي حسب التقرير "مجموعة من القواعد السلوكية تتصف بالعمومية والتجرد والإلزام وتنفذ عند الإقتضاء عن طريق المحاكم. وبناء عليه تنتج هـذه القواعـد أثـراً قانونياً يلزم الأطراف المحتكمين إليها. وهذه مقاييس تقليدية من شأنها أن تبـرهن علـى مـدى قانونية القواعد". وأضاف التقرير "وذلك بالرغم من أنها ليست قانونا بمعنى مجموعـة القواعـد

 

المقننة الذي تميز الأنظمة القانونية التابعة للقانون المدني"، في إشارة إلـى المدرسـة القانونيـة الفرنسية التي تقوم على القانون المقنن.

 وتعليقاً على ذلك نورد الملاحظات التالية:

    أولاً- يبدو أن الجواب عن السؤال كان محسوماً لدى أعضاء الفريق بدليل أنه لم يخـصص للجواب إلا فقرة واحدة لم تتعد ثمانية أسطر. كما أن التقرير لم يسهب في التعليل للوصول الـى هذه القناعة الراسخة.

   ثانياً- للوصول إلى هذه القناعة إعتمد التقرير منهجاً أخضع بمقتضاه أحكـام الـشريعة لمقاييس القاعدة القانونية المعتمدة في القانون الوضعي وهي: العمومية والتجرد والإلزام. وتبـين لمعدي التقرير أن الخصائص الثلاث التي تميز القاعدة القانونية متوافرة في أحكام الشريعة. وما يبدو لنا أهم هو الإشارة الصريحة إلى أن عدم تقنين أحكام الشريعة الذي لـم يعـد عقبـة فـي تطبيقها، كما حصل في بعض الأحكام الصادرة عن المحاكم البريطانية التي استبعدت أحكـام الشريعة بدعوى أنها غير مقننة. ومما يلاحظ في هذا المجال أن المدرسة القانونية القائمة علـى التقنين (ونعني المدرسة الفرنسية) أثبتت أنها أكثر مرونة من المدرسـة القانونيـة البريطانيـة القائمة على العرف والتي يفترض أن تكون أكثر تفاعلاً وتفهماً للتراث الفقهي الإسـلامي غيـر المقنن. وفي هذين الموقفين المختلفين دعوة الى التأني والتروي في التعامل مع التراث الفقهـي الإسلامي.

    والنتيجة التي توصل إليها التقرير ليست جديدة من الناحية العلمية . فقد صدر عن توصيات مؤتمر أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس سنة 1951 ما يلي:

  (أ) أن مبادىء الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها.

 (ب) أن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات، ومن الأصول الحقوقية، هي منـاط الإعجـاب، وبهـا يستطيع الفقه الإسلامي أن يستجيب جميع مطالب الحياة الحديثة، والتوفيـق بـين حاجاتها.

 

  •  السؤال الثاني:

 هل لعقد تمويل اسلامي دولي تحكمه قواعد الشريعة الإسلامية كقانون واجـب التطبيـق باختيار أطراف النزاع، دون الإشارة إلى قانون وطني، له أثر أمام المحاكم الفرنسية؟

    لقد أدى التعامل المالي الدولي للمؤسسات المالية الإسلامية سواء فيما بينها أو بينها وبـين المؤسسات المالية التقليدية عن طريق التمويل المصرفي المجمع Syndication إلـى إدخـال الشريعة الإسلامية ضمن المنظومات القانونية التي تحكم العقود. فقد كـان لـعـرض المـسائل المتعلقة بالمنتجات المالية الإسلامية على المحاكم الغربية – مباشرة أو عن طريق الإعتـراف بالأحكام الأجنبية الصادرة في المجال- استجواباً لتلك المحاكم لتقول كلمتها في منظومـة فقـه المعاملات. وبالفعل أدى عرض المنتجات المالية الإسلامية على القضاء والتحكيم في الغـرب إلى حمل جهات فض النزاعات إلى مزيد من التفكير في مضمون وأهميـة أحكـام الـشريعة الإسلامية، لأن القاضي أو المحكم مطالب بالنظر في ما يعرض عليه مـن حجـج وأســانيد، وقواعد وقوانين ووراء القاضي أو المحكم مسؤولية أدبية عند استبعاد تطبيق قاعدة قانونية دون دلیل مقبول.

    ولتأكيد استجابة أحكام الشريعة الإسلامية لخصائص القاعدة القانونية دون شرط إصـدارها من قبل دولة استند التقرير الى ما ذهبت إليه المحاكم الفرنسية حين طبقت وعلى نطـاق واسـع أعراف ومبادىء التجارة الدولية عندما اختارها أطراف النزاع كقانون واجب التطبيق. وأضـاف التقرير أنه يمكن للمحاكم الفرنسية عند النظر في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية المختارة مـن قبل أطراف النزاع "أن تسلك نفس المنهج الذي سلكته في تطبيق أعراف ومبادىء التجارة الدولية فهي قواعد غير وطنية حظيت بقبول المحاكم". وذهب التقرير إلى أبعد من ذلك حين لاحـظ أن أحكام الشريعة الإسلامية تعد اليوم قانوناً وطنياً بالنسبة الى بعض الدول التي اتخذت من أحكـام الشريعة مصدراً أساسياً لنظامها القانوني. وذكر التقرير على سبيل المثال ثلاث دول: الـسودان، والمملكة العربية السعودية، وباكستان.

    ومن الحجج القوية التي تعزز تفعيل المحاكم الفرنسية لأحكام الشريعة الإسلامية مـا تبنتـه المحاكم الفرنسية نفسها في تفسير واسع ومستقر لمبدأ حرية الإرادة في العقود الدولية حيث يجوز لأطراف النزاع اختيار القواعد التي يرونها مناسبة لفض نزاعهم ولو كان القانون المختار غيـر مرتبط بأي دولة. وذهبت المحاكم الفرنسية في تفسيرها "الليبرالي" في تطبيق القـوانين الأجنبيـة

 

إلى درجة جبر القاضي الفرنسي الذي يطبق قانوناً أجنبياً على البحث بنفسه في ماهيـة القـانون الأجنبي ومضمونه للوصول إلى فض النزاع وفق ذلك القانون. وقد استشهد التقرير بقرار محكمة التمييز الفرنسية في هذا الشأن. وسوف نتطرق في تعليقنا الى إجابة السؤال رقم (4) في شـأن كيفية تشخيص قواعد أحكام الشريعة الإسلامية لتطبيقها على النزاع وما يستوجبه مـن تأهيـل ومهارة.

   ولعل أهم مكسب بالنسبة الى الشريعة الإسلامية هو تأكيد قبولها كقواعد قانونية، بالرغم من أنها غير صادرة عن دولة، فضلاً عن أنها غير مقننة. ومصدر التركيز على هذا التحول النوعي هي الأحكام الصادرة عن المحاكم البريطانية والتي كانت إلى وقت قريب تستبعد فيهـا تطبيـق أحكام الشريعة الإسلامية بدعوى عدم صدورها عن دولة، وذلك تطبيقاً لإتفاقية روما فـي شـأن الإلتزامات التعاقدية الصادرة في 1980/6/19، غير أن التقرير أشار إلى ديباجة نظام روما (1) الجديد الذي نص على "أن هذا النظام لا يمنع أطراف النزاع من الإشارة في عقودهم الى قـانون غير وطني أو إتفاقية دولية"، وهذا ما اعتبره التقرير تبنياً لموقف سابق لفقه القـضاء الفرنسي الذي قبل تطبيق قواعد غير وطنية اختارها أطراف النزاع لـتحكم العقـد الـدولي، ورأى فيـه علامات انفتاح للنظام القضائي الفرنسي على الشريعة الإسلامية لا تتوافر في النظم القانونيـة الأخرى.

  •  السؤال الثالث:

هل يختلف قبول المحاكم الفرنسية لقواعد الشريعة كقانون واجب التطبيق فـي التمويـل الإسلامي عند اختيار الشريعة كقانون واجب التطبيق دون سواها أو عند المزج (الجمع) بـين الشريعة والقانون الفرنسي (أو أي قانون آخر)؟

    قبل الإجابة عن السؤال رصد التقرير ثلاثة أنواع من صيغ الشروط المدرجة عادة في عقود التمويل الإسلامي الدولي. وهي شروط اشتهرت بها العقود والإتفاقيات التي عرضت ومازالـت تعرض على القضاء البريطاني منذ أواخر سبعينات القرن الماضي.

• الصنف الأول من الشروط والمعبر عنها في التقرير بالشروط الموحدة: وهي الشروط التـي تنص على تطبيق أحكام الشريعة دون سواها مع اختلاف الصيغ. ومن أمثلة هذه الصيغ نجد: "تخضع هذه الإتفاقية لأحكام ومبادىء الشريعة الإسلامية"، أو "تخضع هذه الإتفاقية لمبـادىء وأحكام الشريعة الإسلامية كما هي مقننة في المعايير الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعـة للمؤسسات المالية الإسلامية في صيغتها السارية المفعول عند توقيع هذه الإتفاقية". وبالرغم من قيام المؤسسات المالية الإسلامية على أحكام الشريعة الإسلامية بحيث لا تتعارض معاملاتهـا وتلك الأحكام، الأمر الذي يفترض أن تطبق تلك الأحكام دون سواها، إلا أن المؤسسات المالية وإن كانت مرجعيتها الأساسية هي أحكام الشريعة الإسلامية، إلا أنها تخضع في الوقت نفسه لضوابط أخرى، فهي بذلك تنشط تحت "تعدد الأنظمة"، ونقصد بذلك، القوانين والنظم السارية في البلدان التي تنشط فيها تلك المؤسسات، ورقابة الهيئات الشرعية التي تتبعهـا، ا، والمعـايير والمبادىء الإرشادية التي تصدرها مؤسسات البنية التحتية (المعايير الشرعية الصادرة عـن هيئة المحاسبة والمراجعة، ومجلس الخدمات المالية الإسلامية)، والمعايير الدولية التي تنظم كفاية رأس المال ومخاطر الإدارة. وهو ما جعل تطبيق أحكام الشريعة دون سواها من القوانين في محيط متعدد الأنظمة أمر نظري.

•الصنف الثاني من الشروط المعبر عنها في التقرير بالشروط المشتركة أو المزدوجة: وهـي الشروط التي تجمع بين الإحتكام للقانون الوضعي والشريعة الإسلامية. ومن أمثلة هذه الصيغ نجد: "تخضع هذه الإتفاقية للقانون الفرنسي بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية"، أو "تخضع هذه الإتفاقية للقانون الفرنسي إلا إذا خالف أحكام الشريعة الإسلامية، عنـدهـا تـرجح أحكـام الشريعة الإسلامية". وهذه الصيغة هي الأكثر انتشاراً في عقود المؤسسات المالية الإسـلامية والأكثر صعوبة عند التطبيق. إن سوابق تطبيق هذه الصيغة على الأقل كما جرت أمام المحاكم البريطانية، لم تكن منصفة للشريعة الإسلامية حيث استبعدتها المحـاكم البريطانيـة لأسـباب ذكرت بالتفصيل في التعليق على السؤال الخامس. وسوف نرى في التطبيق كيـف سـيتعامل القضاء الفرنسي مع هذا الشرط إن عرض عليه.

• الصنف الثالث من الشروط والمعبر عنها في التقرير بالشروط ذات الأصل المشترك: وهـي الشروط التي تستند إلى المبادىء المشتركة بين القانون الوضعي والشريعة الإسلامية. وصيغة هذا الشرط كالتالي: "تخضع هذه الإتفاقية للمبادىء المشتركة في القانون الفرنسي والـشريعة  

 

الإسلامية". ولم نر مثل هذه الصيغة في العقود التي تعرض عادة على المحاكم البريطانيـة أو غيرها من المحاكم. وهذه الصيغة من استنباط الفريق المكلف إعداد التقرير. ويخشى أن تكون هذه الصيغة مجحفة في حق الشريعة الإسلامية في التفعيل، وذلك بسبب أن المسائل موضـوع النزاع لا تحكمها دائماً المبادىء الكبرى، بل القواعد التفصيلية. ومثل هذه القواعد التفصيلية تستوعبها بسهولة ويسر القوانين المقننة كالقانون الفرنسي، وقلما نجدها بسهولة ويسر في الفقه الإسلامي سواء بسبب عدم التقنين، أو بسبب اختلاف المدارس، أو بسبب عدم تأهيل القاض للبحث في مسائل تفصيلية داخل ثروة فقهية كبيرة.

    ونرى أنه من المناسب جداً عند إعتماد شرط فض النزاع دون التفويض الكامـل والمطلـق للشريعة الإسلامية أي عند إعتماد إحدى الصيغتين التوفيقيتين (الصيغة المشتركة أو المزدوجـة، أو الصيغة ذات الأصل المشترك) لا بد من التخفيف من السلبيات المحتملة للإحتكام إلى القوانين الوضعية، وذلك بأن تصاغ عقود مفصلة الشروط كأن يـتـم الـنص علـى كـل الإحتمـالات، والتسويات، والإجراءات، والتنفيذ، والتعهدات، والحقوق، والواجبات، على الطريقة المعتمدة فـ و فـي الدول التي ليس لها قانون مقنن يضبط شروط العقود تفصيلاً، وذلك بأن يتفاوض أطراف النزاع على كل النقاط ويستثنون ما يرونه مخالفاً لأحكام الشريعة (بمبـادرة مـن المؤسسات الماليـة الإسلامية التي يفرض عليها نظامها الأساسي عدم مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية). والـصياغة الجيدة والوافية للعقد والمجازة من قبل اللجنة الشرعية للمؤسسة تقيد القاضي وتقلص المرجعيـة المطلقة للقانون الوضعي، وهي في الوقت نفسه بمثابة الحصانة أمام القانون الوضعي بفضل مـا تضمنته الشروط من تحوط. ولتفادي الإسهاب الذي قد يؤدي إلى نتيجة عكسية (التباس الأمر أمام القاضي بسبب التناقض الذي قد يفرزه التفصيل) تستوجب هذه الصيغة إنتقاء بعض المسائل دون غيرها (كأن ترصد المسائل الخلافية بين القانون وأحكام الشريعة الإسلامية، ولا يمكن للمؤسـسة المالية الإسلامية القبول بها، لأنها تناقض نظامها الأساسي) لتكون محل تفصيل حتـى لا تكـون محل تأويل سلبي من قبل القضاء يعود بالضرر على المؤسسة المالية الإسلامية. ومن أمثلة ذلك توضيح مضمون وشروط المسائل التالية:

 - الربح الفائت: كثيراً ما يثير الطرف المتنازع مع المؤسسة المالية الإسلامية موضوع الربح الفائت طالباً من المحكمة التعويض عما فاته من ربح. وترى بعض المحاكم في هذا الطلب وجاهة، بل تعتبره بعض المحاكم من قبيل العدل، ونظرا الى خصوصية

 

موقف الفقه الإسلامي من هذه المسألة فعلى أطراف العقد منذ البداية توضيح هذه المسألة وذلك باستبعادها أو بوضع ضوابط اتفاقية تكون بمثابة الخطوط الإرشادية للقاضي عند النظر في الموضوع.

 - الشرط الجزائي (الشرط التغريمي): إذا تم اللجوء إلى الشرط الجزائي فلا بد من توضيح مضمونه، في القانون يمتد إلى التخلف عن أداء دين في الذمة وهو وفق النظام المالي الإسلامي ربا محرما، بينما الشرط الجزائي لقاء التخلف عن أداء عمل معين ألحق بالشارط ضرراً فعلياً فهو مقبول في فقه المعاملات المالية الإسلامية. ومثل هذه التوضيح ينير السبيل أمام القاضي أو المحكم.

 - تكييف الأموال التي تدفع مسبقاً: تفترض بعض القوانين أن المبالغ التي تدفع مسبقا على أنها عربون ما لم يتم الإتفاق الصريح بين الأطراف على خلاف ذلك. ونظراً إلى إستخدام المؤسسات المالية الإسلامية العربون، وهامش الجدية في الوعد الملزم في المرابحة، والأجرة المعجلة في الإجارة وغيرها من الأموال المسبقة فعليها أن توضح ذلك بتعريف صريح لا يقبل الإلتباس.

  •  السـؤال الرابـع:

    كيف يمكن للقاضي الفرنسي تشخيص القواعد المتعلقة بفض النزاع المعروض عليه للنظر إنطلاقا من مصادر الشريعة الإسلامية؟

    يتضمن هذا السؤال الصعوبة الناتجة من تطبيق قواعد قانونيـة أو شـرعية إذا لـم تـكـن النصوص المرجعية مقننة. وهذا ينطبق على أحكام الشريعة الإسلامية. وفي حقيقة الأمـر فـإن مسألة تقنين الشريعة الإسلامية – وإن كان مطلب الكثير من العلماء المسلمين أنفسهم- لم ينظر إليه في التقرير على أنه عقبة كأداء لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. وهذا تطور ملمـوس فـي الفكر القانوني الغربي مقارنة بموقف بعض المحاكم وهيئات التحكيم الذي صدر فـي سـبعينات القرن الماضي. فقد رأى التقرير أن الشريعة الإسلامية مثلها مثل القوانين العرفية (غير المقننـة يجب) ألا ينظر إليها على أنها مجموعة من القواعد سابقة الوضع وحصرياً مقننة، بل لا بد مـن اعتماد صيغة التشخيص انطلاقا من مصادر الشريعة وذلك بغرض الإهتداء الى الحلول المناسبة للحالات الخاصة. ورأى التقرير أن الإستناد إلى المصدرين الأساسيين للشريعة الإسلامية وهمـا القرآن والسنة كفيلين باستنتاج القاعدة المطلوبة انطلاقا من مبادىء وأحكام المصدرين الأساسيين المذكورين.

    ورأى التقرير في البحث عن الحل إنطلاقاً من المصدرين الأساسيين في الشريعة الإسلامية مسلكاً اجتهادياً مكن الفقهاء المسلمين من اللجوء إلى آليات الإستنباط كالقيـاس والإستحـسان والإستصلاح وذلك بغرض ضبط الحل المناسب للنزاع المطروح عليهم. وأضـاف التقريـر أن "تشخیص قواعد الشريعة الواجب تطبيقها على النزاع يخضع لنفس الآليات التي يعتمدها القاضي الفرنسي لتحديد مضمون قانون دولة أجنبية أو قانون غير صادر عن دولة كما الشأن بالنسبة الى مبادىء وقواعد الأعراف الدولية، ولأطراف النزاع وخبرائهم دور في الإسهام في بلـورة تلـك القوانين والقواعد". كما رأى التقرير في "التخير" (بالرغم من صدور التقرير باللغة الفرنسية فقـد حافظ التقرير على الكلمة كما تنطق بالعربية Takhayour) رافداً إضافياً للمنهج المعتمـد أنفـاً، وذلك استناداً إلى أن قواعـد الشريعـة تسمح لأطراف النزاع وللقاضـي الإختيـار مـن بـين المذاهب الفقهية الحل الذي يناسب العقد .

   وقد رأى التقرير في وجود المعايير الشرعية الصادرة عن هيئـة المحاسبة والمراجعـة للمؤسسات المالية الإسلامية آلية عملية لتيسير الوصول الى الحلول الشرعية. ويمكن الإستشهاد بمعايير هيئة المحاسبة والمراجعة، إما لأنها من بنود العقد إذا نص عليها أطـراف النـزاع، أو يستشهد بها القاضي أو المحكم لتعزيز حيثيات حكمه. أما الفتاوى الصادرة عن هيئات الرقابـة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية فقد رأى فيها التقرير نوعاً من السوابق التي يعتمد عليها لفض النزاعات. ولم يذكر التقرير ضمن المرجعيات الفقهية المتاحـة للإستنارة بهـا فـتـاوى وتوصيات مجمـع الفقه الإسلامي الدولي الذي يعد أهم مرجعية في العالم الإسلامي، وتـستند الى قراراته جهات الفتوى كلها بما في ذلك هيئـة المحاسبة والمراجعـة للمؤسسات الماليـة الإسلامية.

    ويبدو لنا أن الإهتداء إلى أنسب الحلول من بين المذاهب الفقهية أمر ليس باليسير خاصة ونحن أمام صعوبة كبيرة داخل العالم الإسلامي وخارجه للظفر بالقاضي الذي يجمع بين التأهلين القانوني والشرعي. ويخشى أن يجد القاضي الفرنسي (مهما حسنت نيته وصدقت عزيمته) نفسه أمام حقل واسع وجديد عليه وهو باب المعاملات المالية من منظور إسلامي، وفي الوقت نفسه أمام قانون مقنن درسه وطبقه وتشبع بتفاصيله وهو القانون الفرنسي، فيلجأ إلى أسهل الحلول وأيسرها وهي السعي لإعادة تكييف المعاملة المالية الإسلامية لتنصهر ضمن القوالب القانونية الفرنسية، ومن ثم تطبيق النص القانوني عليها، الشيء الذي سيؤدي عملياً إلى استبعاد أحكام الشريعة الإسلامية.

 وقد تفطن التقرير للحاجة الماسة إلى التأهيل حيث تقدم بتوصيات للجنة التمويل الإسلامي بفرنسا داعياً إياها الى تضمين برنامجها الإعلامي هدفاً محدداً وهو تأهيل القضـاة في المجـالات التاليـة:

  •  الجوانب القضائية في تطبيق أحكام الشريعة على عقود التمويل الإسلامي. المنهجيـة المناسبة التي يتعيـن اتباعهـا لتشخيـص قواعد أحكام الشريعة الإسلامية.

  • دراسة خبرة المحاكم الأجنبية وتجاربها في مجال فض النزاعات المتعلقة بالتمويل الإسلامي.

  • تزويد القضاة أساسيات أهم عقود التمويل الإسلامي.

    كما أوصى الفريق بدراسة دمج هذا التأهيل ضمن إحدى مراحل تأهيل القضاة. ونرى في تأهيل القضاة خطوة عملية وجادة، ولكنها غير كافية لو إقتصرت على هذه الفئة، لأن الواقع العملي أثبت أنه للمهن المساندة للقضاء من محامين وخبراء دوراً أساسياً فـي نتيجـة الحكم. فالمحامي هو الذي يحدد طلبات موكله وهو الذي يبادر بتكييف النزاع بناء على بحـوث (وإن كان هذا التكييف لا يلزم القاضي)، ومثل هذا المجهود العلمي – وبصرف النظر عن مدى صحته من الناحية الشرعية- قد يؤثر في قرار القاضي. وبالنسبة الى الخبراء فقد تعين المحكمة خبيراً في مجال دقيق مثل المتاجرة في العملات لتوضيح كيفية تنفيذ العملية. فإذا كان الخبير غير مدرك لأحد أركان المتاجرة في العملات وهو مسألة التسليم وبالتحديد التراخي فيه وهو ما يعبـر عنه بالتقابض قبل تفرق المتعاقدين، سواء أكان القبض حقيقياً أو حكمياً، فإنه سوف يدلي بتقريـر مختل من الناحية الشرعية ولو توافرت فيه كل العناصر الفنية والموضوعية والإجرائية. فتأهيـل الخبير يدفعه إلى البحث في تفصيل كيفية إنجاز المعاملة، بينما الـسؤال الأساسـي فـي مجـال المتاجرة بالعملات من وجهة النظر الشرعية ليس كيف تمت المعاملة، ولكن متى تمـت؟ ومتـى دفع الثمن؟ ومتى تم التقابض؟ ومثل هذه التحريات لا يدركها إلا من كان على علـم بالـضوابط الشرعية للمتاجرة في العملات ومنها "أن لا يشتمل العقد على خيار شرط أو أجل لتـسليم أحـد البدلين أو كليهما .

 

  •  السـؤال الخامـس:

  عند تطبيق أحكام الشريعة على عقود التمويل الإسلامي ذهبت المحاكم البريطانيـة إلـى استبعاد أحكام الشريعة التي اختارها أطراف النزاع، هل يتخذ القاضي الفرنسي الموقف نفـسه لو عرض عليه الأمر؟ وإذا ما اختار أطراف النزاع صيغة التحكيم وصدر الحكم وفـق أحكـام الشريعة باستثناء أي قانون وطني أو قواعد قانونية غير وطنية، هل تصادق المحاكم الفرنسية على مثل هذا الحكم؟

تؤكد إشارة التقرير إلى القانون البريطاني ضمن السؤال عن مدى الحرص على الإستفادة من تعثر الآخرين. وما ورد في سؤال الفريق وفي جوابه تؤكده الأحكام الصادرة عـن المحـاكم البريطانية التي استبعدت أحكام الشريعة رغم النص عليها كقانون واجـب التطبيـق. وبرصـدنا للأحكام الصادرة عن المحاكم البريطانية لاحظنا أن استبعاد أحكام الشريعة الإسلامية قد اتخـذ عدة أوجه منها الإستناد الى سبب عدم التقنين، وكذلك التفسير السلبي للشرط المزدوج الذي تـم بيانه أعلاه.

 الإستبعاد بسبب عدم تقنين أحكـام الـشريعة: فـي القضية المعروفـة بقـضية بنـك الشامل/البحرين أشار القاضي البريطاني الى أن التفسير الحرفي لعبارة: "الشريعة الغـراء" الواردة في النص المتعلق بالقانون واجب التطبيق تعني ذلك القانون السماوي المنـصوص عليه في القرآن والسنة، وأضاف: "بيد أن معظم القانون الإسلامي للمعـاملات التجاريـة والمالية لم يقنن في قانون أو أحكام محددة المعالم، وإنما أسس القـانون الإسـلامي علـي الآراء المتباينة للمدارس الفقهية المختلفة التي نشأت ما بين 700 و850هـ". وتعليقا علـي هذا التعليل يمكن أن نسلم إلى حد ما بأن عدم تقنين أحكام الفقه الإسلامي وخاصـة فـي مجال فقه المعاملات (ونظراً الى ثراء الفقه الإسلامي حيث نجد أكثر من رأي في المسألة الواحدة) لا يساعد على سهولة البحث عن الحلول والإهتداء اليها كما لو كانت تلك الأحكام الترجيح لحل يحظى بالإجماع ويعتمده الجميع، لكن الغرابة تكمن في أن الحجـة تأتي من مدرسة قانونية لا يعتمد نظامها القانوني على التقنين، بل يعتمـد علـى الـسوابق والأعراف، ونعني بذلك المدرسة القانونية البريطانية. كما أن الحرص على إيجاد الحلـول والتقيد بشروط العقد، يدفع بالقاضي إلى البحث في بعض المراجع العامة في فقـه متاحة. ومن هذه المراجع القرارات الصادرة عن المجامع الفقهيـة. وقـد شملت تلك القرارات مبادىء أساسية في فقه المعاملات، وهي قرارات عادة مترجمة إلـى اللغة الإنجليزية.

 • الإستبعاد بتفسير الشرط المزدوج على أنه اختياري: كثيراً مـا تلجـأ المؤسسات الماليـة الإسلامية إلى الشرط المزدوج كأن يصاغ الشرط كالتالي: "يتم تطبيق القانون البريطاني بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية" (الصنف الثاني من الشروط المذكورة بالجواب عن السؤال الثالث أعلاه). إن مثل هذه الصياغة كانت سبباً في استبعاد تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وذلك بتأويل الشرط على أنه شرط اختيـاري بـين أحكـام الـشريعة الإسلامية والقـانون البريطاني!. وبما أن القاضي يفترض أن يكون ملماً بقانونه الوطني قبل أي قانون آخر وهو ما فعله القاضي البريطاني حيث طبق القانون البريطاني واسـتبعد غيـره. ولا يـلام القاضـي البريطاني على ذلك بالرغم من أن صياغة الشرط تقتضي من القاضي البريطاني أن يـضع النص القانوني (وهو القانون البريطاني) المطبق على الوقائع في ميـزان أحكـام الـشريعة الإسلامية كإجراء تمهيدي ولا يجوز له تطبيق القانون البريطاني مباشـرة دون التأكـد مـن مطابقته لأحكام الشريعة الإسلامية أولاً. والفهم الأمين للشرط يؤدي إلـى تطبيـق مـشروط للقانون البريطاني. وفي حقيقة الأمر ليس من الحكمة أن يطلب من القاضي البريطاني مثل هذه الطلبات. فالغاية من وراء هذا الشرط لا يمكن ان تغيب عن قاض أو محكم وهي صدور حكم لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية. والأطراف التي نصت على هذا الشرط لا تـرى فـي القانون الوضعي مخالفة مبدئية لأحكام الشريعة الإسلامية اعتقاداً منها أن المجال هو مجال فقه المعاملات، وهو مجال أوسع وأرحب من فقه العبادات، وهذا صحيح إلى حد ما إذا ما اقتـرن بإرادة وحرص وأمانة وفهم دقيق للنصوص وتفسيرها.

  وبالرغم من سعي التقرير إلى الإستفادة من تعثر القضاء البريطاني، فهو لا ينكر وجـود خلافات في تفسير أحكام الشريعة بين الفقهاء والمدارس الأمر الذي يجعـل بـاب الإجتهـادات مفتوحاً ويفتح مجالا للتفسير الذاتي. ولكن لم ير التقرير في ذلك عقبة معللاً موقفه بأن القاضي الفرنسي اله سلطة واسعة في تقدير الوقائع ولا سلطان عليه في ذلك". فالقاضي الفرنسي حسب التقرير "يصدر حكمه بناء على الوقائع التي يقدمها الأطراف ومساعدوهم من خبراء ومحـامين وكذلك تحديد مضمون القاعدة الشرعية المناسبة دون الخوض في الطبيعة القانونيـة لأحكـام الشريعة". وعبر بعض أعضاء الفريق عن ثقة كبيرة في تفعيل أحكام الشريعة الإسلامية إذا تعلق الأمر بالتحكيم الدولي حيث يكون موقف القضاء الفرنسي أكثر مرونة في قبـول أحكـام التحكيم الأجنبية كما أن التحكيم الدولي أكثر استعداداً لتطبيق القواعد التي لا ترتبط بقانون دولة معينة.

  •  السـؤال السـادس:

    هل يمنع النظام العام الداخلي (الوطني ) أو الدولي القاضي الفرنسي من تفعيل عقد تمويل إسلامي تحكمه قواعد الشريعة؟ أو هل تتضمن أحكام الشريعة في شقها المتعلق بفقه المعاملات (الذي يختلف عن فقه العبادات) قواعد في الأصل أو قواعد إجرائية مخالفة للنظام العام الفرنسي؟

   عند عرض عقود التمويل الإسلامي التي تطبق فيها أحكام الشريعة الإسلامية على القـضاء الفرنسي بمناسبة خلاف معروض لبته، أو إثر طلب التصديق على الأحكام الصادرة في الخارج، يمكن رصد بعض التعارض بين أحكام الشريعة الإسلامية والمبادىء الأساسية للنظـام الـعـام الفرنسي. ويعتبر مصطلح النظام العام الذي له تعريف واسع، من أشد العقبات في تطبيق القوانين الأجنبية فوق أرض دولة معينة. ومهما اختلفت التعريفات فالنظام العام لا يخـرج عـن كـونـه مجموعة القواعد الآمرة التي يعتبر احترامها مسألة أساسية لحماية المصالح العليـا فـي الدولـة كحماية نظامها السياسي والإجتماعي والإقتصادي إلى درجة إلزامية تطبيقها في كـل الحـالات، وذلك مهما كان القانون الواجب التطبيق. ولعبارة النظام العام في القانون الوضعي تعاريف كثيرة من أهمها أنه مجموعة من المبادىء القانونية التي يقصد بها تحقيق المصلحة العامـة، سياسـية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية والتي يلزم الجميع احترامها والانصياع إليهـا ويـكـون جـزاء التصرف المخالف لهذه المبادىء البطلان. لكن في مجال التحكيم نجد أن هذا المفهـوم يـضيق أحياناً ويتسع أحياناً أخرى. ومصطلح النظام العام الدولي أصبح الآن يعبر عن معنـى الأصـول والمبادىء العامة التي يفرضها التعايش المشترك بين المجتمعات . وتتمثل هذه المبـادىء فـي المجال القانوني كالتالي:

 - مبدأ حرية التعاقد والقوة الملزمة للعقد.

- مبدأ عدم الاعتداد بالإرادة الصادرة عن غير وعي أو بغير بصيرة بحقيقة ما تنصرف إليه.

- مبدأ عدم جواز إساءة استعمال الحق.

 -مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود.

 -مبدأ إبطال مفعول الغش.

 -مبدأ عدم جواز الإثراء بدون سبب.

- مبدأ وجوب تعويض الضرر على من تسبب به.

- مبدأ اعتبار القوة القاهرة سبباً للإعفاء من المسؤولية.

    وقد أفاد التقرير أنه بالرغم من أهمية القواعد الآمرة وضرورة احترامها من قبل القضاء، "فإن هذا لا يعني أن القضاء الفرنسي سوف يستبعد أحكام الشريعة التي اختارها أطراف العقد ما لم تخالف القواعد الآمرة". وقد أعطى التقرير بعض الأمثلة العملية لتوضيح كيفية تعامل القضاء الفرنسي مع الشروط المتعلقة بالقانون واجب التطبيق. وفي المجال المالي بالتحديد وهو مجال الصناعة المالية الإسلامية فإن أهم القواعد التي يرتكز عليها التمويل الإسلامي وهي : تحريم الربا، وتفادي المضاربات speculation، ومنع الغرر هي قواعد لا تعارض مبدئياً النظام العام الفرنسي وفق ما ورد في التقرير.

لكن ما الحل إذا حصل تعارض بين أحكام الشريعة الإسلامية والقواعد الآمرة في القانون الفرنسي حيث أن مثل هذا التعارض محتمل الوقوع؟ الجواب المبدئي أن التعارض سوف يؤدي إلى استبعاد أحكام الشريعة الإسلامية، وذلك نظراً إلى سطوة القوانين الوضعية على غيرها من القواعد بما فيها مبادىء وأحكام الشريعة الإسلامية. ولكن استبعاد شرط أو قاعدة معينة لا يعني المساس الكلى بالأحكام الشرعية الأخرى التي تحكم العقد والتي لا تخالف النظام العام الفرنسي وإلا أدى ذلك إلى نفي أي قوة قانونية لأحكام الشريعة الإسلامية وإلى تناقض مع ما توصل إليه التقرير في الجواب عن السؤال الأول. وذكر التقرير بعض الحالات الإجرائية التي تشكل تناقضاً صريحاً مع النظام العام الفرنسي واعتبرها التقرير من قبيل التمييز Discrimination وهي:

·   شهادة المرأة وفق أحكام الشريعة الإسلامية.

·   الشكوك حول ولاية غير المسلم على المسلم في مجال القضاء.

·   الشكوك حول تولي المرأة وظيفة القضاء .

    ونرى أن الأمثلة المذكورة بصرف النظر عن مدى دقتها، كما ذهب إليه التقرير ذاته، ليست أمثلة عملية تطرح في مجال المعاملات المالية الإسلامية عموماً وفي الدولية منهـا خـصوصاً. وكان بإمكان التقرير اختيار أمثلة أقرب لفقه المعاملات ومرشحة لنقاش كبيـر بـين النظـامين وصولا إلى مواقف متباينة نذكر على سبيل المثال بعض المجالات التالية والتي لم يغطها التقرير الذي حصر مهمته في المبادىء الكبرى دون التفصيل وهذا أمر طبيعي ومنهجي لا يقلـل مـن أهمية التقرير:

·   تبرع المدين المماطل بمبلغ مالي يصرف في أوجه البر:

    قد يرفض العميل الشرط الذي يتم النص عليه عادة في عقود المؤسسات المالية الإسـلامية بإلزام العميل المماطل بالتبرع بمبلغ مالي عند التأخير في السداد بدعوى مخالفتـه للقـانون الفرنسي الذي لا يقضي بالإلزام بالتبرع، أو أن هذه عقوبة مالية لم يستفد منها الدائن ولم تـذهب الى خزينة الدولة فهي غير واجبة حتى ولو سبق أن قبلها ضمن شروط العقد.

·   السداد المبكر أمام القضاء الفرنسي:

    لجوء العميل الى القضاء الفرنسي لإجبار البنك الإسلامي على قبول السداد المبكر في عملية مرابحة للآمر بالشراء على افتراض رفض البنك الإستجابة لطلب العميل. هل سيرجح القاضي الشرط التعاقدي أم سيعتبر أن السداد المبكر من النظام العام، لأنه يخفف من عـبء المديونيـة ويحمي فئة المستهلكين؟ هناك مجهود علمي كبير لإقناع القاضي الفرنسي بتشبيه السداد المبكـر في المرابحة بالربا المحرم. فالأصل في الربا أنه يتضمن الزيادة في الأجل والدين وفـي إضرار بالمدين ونفع يختص به الدائن، أما في السداد المبكر فنتيجته براءة ذمة المدين من الدين وانتفاعه بما عجله، وكذلك ينتفع الدائن بالتعجيل. والنتيجة هي انتفاع الطـرفين بـدون ضـرر فعلاقة الأطراف في السداد المبكر تكاد تكون ظاهريا عكس علاقة الأطراف في المعاملة الربوية. ثم القول بجواز السداد المبكر إذا لم يكن مشروطاً في العقد يعني أنه غير ملزم للبنـك. فالمـدين للبنك يطلب من هذا الأخير النظر في طلب السداد المبكر وللبنك أن يرفض ذلك كـأن يـرى أن العميل قد تمت بنسبة ربح عالية واليوم فقد تدنت نسبة الربح فلا جدوى مـن قبـول السداد المبكر، في حين أن السداد المبكر في القانون هو حق للمدين الذي يريد أن يرفع عنه كلفة مالية مرهقة له وهو قادر على وضع حد لها. وقد سنت قوانين خاصة في هذا الشأن لمـساعدة مستهلكي القروض من الذوات الطبيعية على السعي لتخفيف أعباء التمويل عليهم .

·   توكيل الدائن المرتهن لبيع العين المرهونة:

    سعيا من الدائن للحفاظ على حقوقه عند عجز المدين عن سداد دينه، كثيراً ما يتم  النص في عقد الرهن على شرط يفوض بمقتضاه المدين الراهن للدائن المرتهن الحـق فـي بيع العين المرهونة عند التخلف عن سداد الدين. ومثل هذا الشرط ينظر إليه القانون الوضعي بعين الريبة، لأنه يعطي الدائن المرتهن حقوقاً واسعة في وقت توترت فيه العلاقة بين الطرفين بسبب التـأخر عن السداد. وقد تكون للمدين مطالب ومآخذ على تصرف الدائن تصل إلى حد الاحتجـاج علـى حجم الدين الذي يطالب به الدائن. ولكن المعيار الشرعي رقم 5 المتعلق بالضمانات وفي مستهل الحديث عن التنفيذ على الرهن نصت الفقرة (4/4/4) على ما يلي: "للدائن أن يشترط على المدين تفويضه ببيع الرهن عند حلول أجل الدين للإستيفاء من ثمنه دون الرجوع إلى القضاء". ومثل هذا التفويض قد يعارض إجراءات بيع المرهون التي تخضع لرقابة قضائية صارمة، ومنها القـضاء الفرنسي. فمثل هذه الشروط قد ينظر إليها على أنها مخالفة للنظام العام الإجرائي.

 

(3)

خلاصـة وإستنتـاج

إنطلاقاً من أن المؤسسات المالية التي ستختار ممارسة النشاط المصرفي الإسـلامي علـى التراب الفرنسي أو التي سوف تطلب تنفيذ أحكام أجنبية في فرنسا سوف تعتمـد فـي الـسنوات الأولى على الأقل على الرصيد الفقهي المتاح في العالم الإسلامي، ونعني بـذلك بالخـصوص الفتاوى المجمعية الصادرة عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة في مجال المعاملات الماليـة، والمعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية، وفتاوى هيئات الرقابة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية، فإن معرفة مدى تقبل القانون والقضاء الفرنسيين لتلك الفتاوى والمعايير مسألة أولية لا بد من الخوض فيها وهذا ما سعى التقرير لتغطيته بمهنية عالية.

ومن المتوقع أنه بعد بدء المؤسسات المالية الإسلامية نشاطها على التراب الفرنسي سـوف نشهد نقاشا قانونيا وفقهياً ثرياً لأن القضاء الفرنسي (وبالخصوص الدوائر التجارية في محكمـة التمييز) له تجربة مؤكدة في مسائل مشتركة مع فقه المعاملات المالية الإسلامية مثـل العمليـات القانونية التي تجري على الديون كالحوالة، وتأجير العقار لمن باعه إجـارة منتهيـة بالتمليـك، وجدولة الديون، والسداد المبكر، والآثار المالية المترتبة على فسخ عقد الإجارة المنتهية بالتمليك، وأثر القوة القاهرة على التزامات الأطراف، وطرق توزيع الربح والخسارة بـين الـشركاء مـع اختلاف الشروط والضوابط التي تحكم تلك المسائل والتي قد تكون طفيفة ولكنها أحيانا فاصلة. إن القانون الفرنسي بما له من ثراء في مصادره (تنوع الأعراف، الإستفادة مـن الرصـيد المعرفي لدى المستعمرات، وحتى التأثر بأحكام الشريعة الإسلامية عند من يرى ذلك) قادر على استيعاب أنشطة الصناعة المالية الإسلامية دون إحداث "ثورة قانونية". فعلى سبيل المثال يوجـد في القانون الفرنسي جل أنواع البيوع التي تعتمدها المؤسسات المالية الإسلامية وإن لم تسم نفس الإسم، وكل أنواع الإجارة. ومن هنا سوف لن يكون الإحتكاك في وجود النص من عدمه وإنمـا في تفسيره وفي التكييف الذي سينتج من ذلك وهو عمل قضائي في الدرجة الأولى.

    تبنى فقه القضاء الفرنسي منذ أكثر من ثلاثين عاما موقفاً متشدداً نسبياً إزاء المؤسسات المالية بوصفها مؤسسات "مهنية" (مصطلح يعني افتراض دراية واسـعة للبنـك أو المؤسسات المشابهة كمؤسسات التأمين في تقدير المخاطر إلى درجة افتراض مسؤولية مدنية فـي بعـض الحالات، مقابل افتراض عكسي إزاء العميل والذي يعامل بيسر، لأنه لا يدرك إدراكاً تاماً نـشاط تلك المؤسسات ويحتاج إلى الحماية) يدفع المؤسسات المالية الإسلامية إلى مزيد من الحذر. فقـد صدرت عدة أحكام ضد البنوك تارة باسم التعسف، وتارة باسم عدم إسداء النصيحة، وتارة باسـم عدم الإفصاح وغيرها من المآخذ. فعلى سبيل المثال يعد البنك متعسفاً ويكون مسؤولا مسؤولية مدنية إذا أقرض عميلاً مبلغاً من المال ولم يأخذ في الاعتبار قدرة العميل المالية على السداد، لأن البنك بصفته "مهنيا" يحسن تقدير المخاطر. وفي تقدير المحاكم الإستجابة لطلب العميل وتمويله - وفق طلبه فيه إضرار له ويوجب التعويض للعميل المتضرر. فالبنك قد يجازف بمـنح عميلـه قرضاً قد يتأخر العميل في سداده، لكن يسدده بعد عناء، ولكن قد يتـزامن ذلـك مـع طلـب المقترض التعويض على تصرف البنك الذي منحه قرضاً يفوق قدرته المالية الشيء الذي جعلـه يعجز عن سداد الدين، ويتضرر من ذلك في معاملاته مع الغير (عدم استطاعته الوفـاء بـديون أخرى مما أدى إلى إفلاسه أو تضرر سمعته في السوق). وعلى المؤسسات المالية الإسلامية التي تسعى الى دخول السوق المالية الفرنسية أن تعير مثل هذه المواقف كل الإهتمام، بـل أن تكـون أحرص من المؤسسات المالية التقليدية على الإفصاح وبذل النصح، لأن معاملاتها حديثة وتتميز بتداخل العقود للمعاملة الواحدة. ومن أمثلة ذلك بيع المرابحة كبيع من بيوع الأمانة يختلف عـن البيوع الأخرى. فالكلفة في صورة المرابحة يجب أن تكون معلومة للعميل، أما في صورة بيـع المساومة فالبنك غير مطالب بكشف الكلفة. وقد يظن العميل أن المعاملتين تخضعان للنظام نفسه. ولا يعفي البنك من واجب النصح والإعلام إلا بإثبات أن العميل يدرك مضمون العقود التي قبـل الدخول فيها فالحجة على البنك.

وعلى المؤسسات المالية الإسلامية التحوط من إعادة تكييف المعاملة بما يسيء إليها ماديـاً ومعنوياً. فإذا اختلت شروط معاملة معينة فهي باطلة من الناحية الشرعية لعدم مراعاتها الشروط المنصوص عليها في المعاملة المذكورة، ولكن من الناحية القانونية وأمام اجتهاد القاضـي فقـد يؤدي اختلال كل أو بعض الشروط إلى تكييف جديد للمعاملة كأن تصبح المرابحـة المختلـة شروطها (مراحل تنفيذها) قرضاً بفائدة. وللقاضي أو المحكم تكييف المعاملة وفق إرادة الأطراف ووفق العناصر الموضوعية. ومن أمثلة ذلك إذا اشترى الأمر بالشراء البضاعة دون الحـصول على موافقة المصرف (أي دون شراء مباشر من البنك أو تفويض العميل لشراء البضاعة نيابـة عن البنك)، فإن بيع المرابحة لا يصح. وقد تأخذ المعاملة عدة أشكال أخرى كقيام الآمر بالشراء بالاتفاق مباشرة مع بائع العقار، ويدفع له عربوناً. ثم بعد ذلك يطلب الأمر بالشراء مـن البنـك إتمام العملية بصيغة المرابحة.

  وفي ختام هذا التعليق يمكن القول بأن ما ورد في التقرير على حصافته وإجتهاد أعضائه لا يعطي حلاً شاملاً ومستديماً للموضوع وذلك في غياب تقنين شامل وواضـح لفقـه المعـاملات المالية. فالدعوة الى التقنين ليس غرضها الشكل (أي وضع مضمون الفقه في شكل مـواد علـى شاكلة القوانين الوضعية) لأن هناك نظماً عرفية غير مقننة وناجعة مثل القانون البريطاني، ولكن الدعوة إلى تقنين أحكام الشريعة في الشق المتعلق بالمعاملات المالية مصدره تعدد الأراء الفقهية في المسألة الواحدة بل أحياناً إختلاف الحلول للمسألة الواحدة داخل المذهب الواحد. وتعدد الحلول فى المسألة الواحدة ولو اختلفت تلك الحلول هو من الناحية المبدئية ثراء في تراثنا الفقهي ومدخل لإدراك الإختلافات والمناهج في تناول المسائل، لكن إذا تعلق الأمر بإصدار حكم قضائي فلا بـد من توحيد النتيجة. فالمطلوب توحيد الحكم القضائي وليس توحيد الإجتهادات. وهذا ما أشار إليه الشيخ مصطفى الزرقا (أنظر الهامش رقم 2 ص 59 و60 أعلاه).

    وبناء عليه، نرى أن مشروع تقنين فقه المعاملات المالية يجب أن يطرح للنقاش داخل العالم الإسلامي قبل الخارج. والحديث عن مدى إلزامية مثل هذا التقنين (أي التشكيك في جدواه مـالم تأخذ به الحكومات) حجة ضعيفة تسهم في التأجيل غير المبرر وذلك لوجود سوابق، ومنهـا مـا قامت به غرفة التجارة الدولية من سن قواعد في مجال الاعتمادات المستندية المعروفـة باسـم الأصول والأعراف الموحدة للاعتمادات المستندية وخطابات الضمان هو تجميع لقواعد وأعراف لا تندرج ضمن قانون وطني ولا ضمن معاهدات دولية، وإنما هي قواعد أثبتت جـدواها لمـا تتميز به من مرونة ووضوح مما دفع بالمصدرين والمستوردين فـي أرجـاء المعمـورة الـى الاحتكام إليها وفعلتها المحاكم فأصبحت تنتج آثارها وكأنها قواعد قانونية (بـالمعنى التشريعي) وهي ليست كذلك.

تعليق الدكتور رأفت محمد رشيد الميقاتي (لبنان)

على التقرير المقدم إلى هيئة التمويل الإسلامي التابعة لـ Paris Europlace

من قبل فريق العمل المولج دراسة القانون الواجب التطبيق على المعاملات المالية الإسلامية

وحسم المنازعات المتعلقة بها الصادر بتاريخ 21 سبتمبر 2009

  يتبين من الاطلاع على التقرير المقدم إلى هيئة "المالية الإسلامية" التابعة لـ Paris EuroPlace من قبل فريق العمل المولج دراسة القانون الواجب التطبيق على المعاملات المالية الإسلامية وحسم المنازعات المتعلقة بها الصادر بتاريخ 21 سبتمبر 2009 أنه يهدف إلى إيجاد مناخ تشريعي وقضائي ملائم لتسهيل حركة الاستثمارات الاسلامية في فرنسا والعمل على استقطاب أعمال البنوك والشركات الإسلامية العالمية، بدلاً من أن تفقد باريس هذه الفرصة الاقتصادية والمالية.

    ولعل أهمية هذا التقرير تكمن في اجراء مقاربة قانونية واضحة وربما غير مسبوقة في فرنسا، لتفهم التشريع الإسلامي عامة وفقه المعاملات المالية الإسلامية بشكل خاص، واعانة القضاء الفرنسي على كيفية التعامل مع قواعد الشريعة الإسلامية الواجبة التطبيق في العقود المالية الإسلامية اذا ما عرضت عليه مباشرة في اطار نزاع قضائي أو لدى طلب الاعتراف بحكم أجنبي أو قرار تحكيمي.

وقد توصل فريق العمل القانوني المؤلف من رئيس وأربعة من أساتذة القانون الكبار في فرنسا، إلى مجموعة من النتائج التي تنصف الشريعة الاسلامية الغراء إلى حد كبير، وتؤسس لمرحلة قضائية جديدة في فرنسا، وتفتح آفاق الفكر الحقوقي قبل آفاق الاستثمار المالي على ثروة فقهية اسلامية في مجال المعاملات المالية الاسلامية، تتابع على رعايتها العلماء والفقهاء الكبار، و ابتداء من عصر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين ذكر بعضهم في مطلع التقرير، مروراً بأئمة المذاهب الفقهية الأعلام وصولاً إلى علماء المجامع الفقهية الكبار في عصرنا، الذين نفضوا عن المكتبة الإسلامية الغبار المصطنع الذي أراد حجبها عن الانسانية جمعاء بكل أطيافها وألوانها، بذريعة جمودها وتخلفها، فاذا هي الآن راعية لكتلة نقدية دولية تضم مئات الشركات والمصارف ومؤسسات الصيرفة الإسلامية تدير مبالغ تربو على الألف مليار دولار أمريكي، وتنتظم في اطار فدرالي هو المجلس الأعلى للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، وتوحد معاییرها في مجالي المحاسبة والمراجعة في اطار هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في مملكة البحرين منذ ما يقارب العشرين عاماً. 

    وقد اعتمد التقرير المعايير التي أقرتها هذه الهيئة واستمعت لدى اعدادها التقرير المذكور إلى بعض المسؤولين فيها مستوضحة ومستفسرة، فاتحة لذلك المجال لحوار علمی حقوقی راق يشكل خطوة عملية في مسيرة حوارات الأمم والشعوب. 

   وقد استوجبت دراسة معدي التقرير لمعرفة طبيعة القانون الواجب التطبيق على المنازعات المالية الإسلامية طرح العديد من التساؤلات عن النظام أو الاطار الذي تنضبط فيه قواعد الشريعة الإسلامية وعن طريقة تحديد هذه القواعد الواجبة التطبيق على العقود المالية الإسلامية، وعن مدى توافق قواعد الشريعة الغراء مع النظام العام الاجرائي والموضوعي فتوصلت حرفياً إلى ما يلي: 

   أولاً- ان قواعد الشريعة المتعلقة بالمالية الاسلامية هي مجموعة قواعد قانونية، وان المحاكم الفرنسية مدعوة إلى منحها المفاعيل القانونية كونها قد تم اختيارها من قبل أطراف العقد الدولي، وأن فاعليتها مستندة إلى مبدأ سلطان الارادة بكل أبعاده الرحبة التي أرستها ليبرالية المحاكم الفرنسية ازاء القواعد القانونية التي لا تتبع دولة معينة في العقود الدولية. 

   ثانياً- ان قانونية قواعد الشريعة المختارة من قبل الأطراف في العقود الدولية المالية الاسلامية تجعلها مطبقة من قبل المحاكم الفرنسية في معرض نزاع متعلق بهذه العقود أو في معرض الاعتراف أو الأمر بتنفيذ قرار تحكيمي دولي أو حكم أجنبي طبق هذه القواعد، وهو ما يعود بمردود إيجابي على باريس في حمأة التنافس الأجنبي وتتيح انفتاحاً قل نظيره. 

  ثالثاً- ان تحديد قواعد الشريعة الواجبة التطبيق، يمكن أن يتم من خلال المنهجية نفسها التي يعتمدها هذا القضاء الفرنسي في تحديد المحتوى الملائم لاي قانون أجنبي اختاره أطراف العقد، بحيث يعود الى هؤلاء الأطراف وبالاستعانة بالخبراء تحديد ذلك. 

   ان تقنین قواعد الشريعة الواجبة التطبيق في المعاملات الإسلامية من قبل AAOIFI من شأنه تسهيل مهمة تحديد هذه القواعد. 

  رابعاً إن فاعلية قواعد الشريعة في النظام القانوني الفرنسي لا يمكن أن يفضي إلى استبعاد القواعد الآمرة lois de police التي تبقى نافذة في حال تعارضها مع أحكام الشريعة دون أن تتأثر بقية الأحكام غير المتعارضة والتي اختارها الاطراف.  

  خامساً- ولدى البحث والتدقيق تبين أن أحكام الشريعة في مجال المعاملات المالية الإسلامية لا تتعارض مع النظام العام الموضوعي في فرنسا فتحريم الفوائد المصرفية وعقود الغرر ومجهولية المعقود عليه والتي تشكل أهم الأسس المالية الإسلامية لا تخالف النظام العام. 

   وفي المقابل، فان مخالفة هذا التوجه من قبل حكم قضائي فرنسي من شأنه تحوير العقد موضوع النزاع الذي ترعاه الشريعة. 

   كما أن من شأنه إحداث أثر سلبي على استقطاب باريس للتمويلات والاستثمارات الاسلامية. وكان فريق العمل قد حدد مهمته في الاجابة عن ستة أسئلة 

  1. هل أن قواعد الشريعة المتعلقة بالتمويل الاسلامي هي قواعد قانونية ؟ 

 2. في حال الإيجاب، ومع استبعاد الأطراف – في عقد دولي مالي اسلامي خاضع لأحكام الشريعة – للقانون الوطني، ما القيمة التي تكون له أمام المحاكم الفرنسية؟ :  

 3. هل يتغير الحال فيما لو نص المتعاقدون في عقود التمويل الاسلامي على جعل الشريعة وحدها قانوناً واجب التطبيق دون أية إشارة أخرى، وفيما لو تم الجمع بينه وبين القانون الفرنسي من جهة أخرى؟ 

  4. كيف يمكن للقاضي الفرنسي تحديد القواعد الملائمة من بين مصادر الشريعة الإسلامية؟ 

  5. أن المحاكم البريطانية لم تعط أثراً لتوافق الطرفين على تطبيق الشريعة الاسلامية، فهل على القضاء الفرنسي القيام بالشيء نفسه؟ وفي حال اختيار الطرفين حل منازعاتهم بواسطة التحكيم فهل يمكن للقضاء الفرنسي منح القرار التحكيمي - الصادر وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، الصيغة التنفيذية أو الاعتراف به؟ 

  6. هل تتضمن الشريعة في الأحكام المتعلقة بالمعاملات المالية الإسلامية قواعد غير متلائمه مع النظام العام بشقيه الاجرائي والموضوعي؟ 

   ونرى أن بامكاننا تسجيل الملاحظات التالية: 

  أولاً- أن التقرير قد أرسى الأساس القانوني الذي يمكن للقضاء الفرنسي الاستناد إليه لدى نظره في المنازعات المالية الاسلامية والتي تحتكم إلى الشريعة الإسلامية وذلك من خلال ثلاثة مبادئ: 

  أ- مبدأ سلطان الإرادة، والذي يسري على جميع التصرفات والعقود بما في ذلك تلك التي تحتكم إلى قواعد الشريعة الإسلامية في شقها المالي: 

   1- بشكل مباشر بالنص على ذلك صراحة، فنكون ازاء اختيار الاطراف في العقود المالية عامة والدولية خاصة لمجموعة قواعد قانونية واجبة التطبيق وإن لم تكن منتمية إلى دولة معينة عملا بأحكام نظام روما Reglement Rome. 

   2- أو بشكل غير مباشر بالنص على اختيار قانون دولة تتخذ الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً للتشريع كما هو الحال في السودان والسعودية وباكستان. 

  ب- مراعاة قواعد الاختصاص المكاني، وهو ما يحتم على القضاء الفرنسي منح الفاعلية والقيمة القانونية بكافة آثارها للاتفاقات المالية المبرمة وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية في الدول التي أبرمت فيها تلك العقود، أو سيجري تنفيذها فيها أو بالنظر إلى مكان العقارات موضوع العقد.

   ج- حجية العادات التجارية، التي تشكل قانون السوق في مثل هذه المعاملات، وهو أيضاً تخريج موفق يستطيع القاضي الفرنسي أن يطمئن إليه لدى النظر في منازعة قضائية متعلقة بعقد مالي إسلامي، خاصة وأن التعامل المالي الاسلامي في الأسواق الدولية أفضى إلى صياغة عادات تجارية مالية ونقدية واستثمارية، يتوفر فيها عنصر الاعتياد وعنصر الاعتقاد بنفاذ هذه العادات للمتعاملين في مجال الشركات والمؤسسات المالية حول العالم، ولا شك في أن هذه الاسس الثلاثة المتناغمة مع المنظومة القانونية العالمية بصورة عامة والفرنسية بصورة خاصة من شأنها إسعاف المشرع الفرنسي والقضاء الفرنسي على حد سواء في عملية زراعة قلب الفقه الإسلامي في الجسم القانوني الفرنسي. 

    ثانياً- ان التقرير قد أزال الغموض الذي اتهمت به الشريعة الإسلامية من قبل احدى محاكم الاستئناف البريطانية في قضية Beximco عام 2004م، حيث رفضت اعمال نص العقد المتعلق بالإحتكام إلى الشريعة الإسلامية، متذرعة بأنها قواعد دينية غامضة، فجاء التقرير معالجاً جهل بعض القضاة البريطانيين الكبار قواعد الشريعة الإسلامية وفاسحاً المجال أمام القضاء الفرنسي للتعاطي بموضوعية في هذا المجال من خلال التأكيد على عدة نقاط اهمها: 

  1- أن قواعد الشريعة في مجال المعاملات الإسلامية هي قواعد قانونية règles de droit وان لم تكن مقننة في تشريع موحد. 

  2- أنه يمكن تحديد منهجية قضائية في قيام القاضي الفرنسي بتحديد قواعد الشريعة الإسلامية الملائمة للتطبيق على الدعوى المنظورة أمامه والمتعلقة بالعقود المالية الإسلامية، وذلك من خلال الأمور الآتية : 

   1- تطبيق المنهجية المعتمدة للتعامل مع القانون الأجنبي أو القواعد القانونية غير المنتمية لدولة non étatique أو لقانون السوق lex mercotoria. 

  2- الاستعانة بالتقنين الصادر عن AAOIFI (هيئة توحيد المعايير المحاسبية للمؤسسات المالية الإسلامية) الذي يمكن تشبيهه من حيث توحيده لقواعد المعاملات المالية الإسلامية بقواعد UNIDROIT في مجال القانون المدني وهو ما يمنح الشريعة الإسلامية قابلية أكبر للتطبيق في فرنسا وسواها من الدول، مع الاشارة إلى أهمية هذه القواعد المالية الصادرة عن الهيئة التي تضم (200) مؤسسة مالية إسلامية من (45) دولة في العالم وإلى أن هذه القواعد المصاغة في اطار تقنين معاصر هي ثمرة جهود هيئات فقهية واقتصادية متخصصة تمثل مختلف ألوان المذاهب والمدارس الفقهية والبقع الجغرافية، مما يعتبر تقنيناً دولياً عابراً للقارات في عصر العولمة القضائية والتحكيمية. 

3- اعتبار الفتاوى الصادرة عن هيئات الرقابة الشرعية في كبريات المؤسسات المالية الإسلامية سوابق precedents تتمتع بقيمة قانونية يمكن الاحتجاج بها. 

   ولعل من المفيد أن يسترشد القضاء البريطاني بهذا التحليل الفرنسي المتناغم مع الهيكلية الانجلوساكسونية في المجال القضائي، وأن يتعاطى بموضوعية وواقعية مع الكومنولث الاسلامي الجديد، الذي أثبت حضوره ونجاحه ونجاته من الكوارث المالية التي اجتاحت أسواق المال العالمية والتي ربما دفعت المشرع الفرنسي – إلى جانب العديد من الدول – لاستلهام التجربة المالية الإسلامية، وتوفير المناخ القانوني والضرائبي والقضائي لاستقبالها وخوض غمارها واستقطاب رؤوس الأموال الاسلامية ومنافسة كبريات العواصم المالية في العالم قبل فوات الأوان وفوات المنافع المالية التي ينشدها. 

   كما أنه من المفيد من جهة أخرى، دعوة هيئات الرقابة الشرعية إلى تفعيل تعاونها في اطار المجلس الأعلى للبنوك الإسلامية لتأمين المزيد من التناغم الدائم في إيقاع قراراتها، بما يشبه عمل الهيئة العامة لمحاكم التمييز، بغية توفير الانسيابية في تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية في مجال المعاملات المالية، بحيث يحقق هذا التنسيق حماية اضافية لتقنين AAOIFI، ويسهل عمل القضاء الفرنسي وغير الفرنسي بما في ذلك القضاء اللبناني الذي لا ينفك عن استلهام القضاء الفرنسي والنسج على منواله. 

  ثالثاً- ان التقرير قد أزال اللبس الحاصل في بعض الأحكام القضائية لجهة اعتبار قواعد الشريعة في مجال المعاملات الاسلامية قواعد دينية بالمعنى التقليدي واقصائها تبعاً لذلك، باعتبار أن القواعد القانونية يجب أن تكون غير دينية حتى يمكن تطبيقها، فاعتبار التقرير أن قواعد الشريعة الإسلامية هي مجموعة مبادئ قانونية تتمتع بمصادر رئيسية من نصوص تشريعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فضلاً عن الاجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة - الاستصلاح – وتكييف عمل الفقهاء السابقين والمعاصرين بأنه اجتهاد منهجي يتمتع صاحبه بما يشبه السلطة التقديرية للقاضي في تعاطيه مع وقائع الدعوى، كل ذلك من شأنه الجدلية العقيمة المتعلقة بثنائية الدينـي واللادينـي والتي لا وجود لها أصلاً في التشريع ܒܚܝ الإسلامي. 

  رابعاً- إن التقرير توصل إلى أن قواعد الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون معترفاً بها في النظام القضائي الفرنسي سواء أمام المحكم أو أمام القاضي، وبالتالي فإنه يكون قد حسم إيجابياً مسألتي الازدواجية والتناقض التي وقع فيها القضاء البريطاني، بين منحه الفاعلية القانونية لاختيار الشريعة الإسلامية في العقود الخاضعة للتحكيم من جهة، وبين منع هذه الفاعلية عن عقود أخرى لدى عرض النزاع في شأنها على المحاكم البريطانية وبالتالي فقد دعا التقرير القاضي الفرنسي إلى تجنب الوقوع في هذا التناقض غير المبرر. 

  خامساً- أن التقرير أزال أهم عائق قانوني أمام انفتاح باريس على المؤسسات المالية الاسلامية في العالم عندما أعلن عدم اعتبار نصوص القانون المدني الفرنسي المتعلقة بالفوائد intérêts من النظام العام، وبالتالي فان الأفرقاء الذين احتكموا في عقودهم المالية إلى الشريعة الإسلامية وحدها أو إلى القانون الفرنسي بما لا يتعارض وأحكام الشريعة الإسلامية لن يكونوا مقيدين بالنصوص التي تتعلق بالفوائد في القانون الفرنسي، سواء لدى عرضهم النزاع على القاضي الفرنسي، أو لدى استحصالهم على الاعتراف بحكم أجنبي أو قرار تحكيمي صدر بموجب أحكام الشريعة الإسلامية، بل إن التقرير ذهب أبعد من ذلك عندما اعتبر أن القول بخلاف ذلك من شأنه تحوير الارادة العقدية للطرفين من قبل القاضي، وهو الأمر الذي لا ينصح به لما له من مردود سلبي على فرنسا ازاء الاستثمارات المالية الإسلامية مع التأكيد على ضرورة الاقتصار على احترام الأفرقاء القواعد الآمرة دون غيرها. 

  سادساً- وككل عمل بشري، وقع التقرير في بعض المغالطات المتعلقة بالاحتكـام إلى الشريعة الإسلامية ومدى تعارض ذلك والنظام العام الاجرائي، حيث اعتبـر أن بعـض قواعـد الـشريعة معارضـة للنظـام العـام الفرنـسـي وخاصـة الاجرائـي، واعتبارهـا تمييزيـة discreminatoires عندما تطلبت شهادة امرأتين إلى جانب رجل حتى تعدل شهادة رجلين فـي المسائل المالية، وعندما منعت قضاء غير المسلم على المسلم، وعندما منع جمهور الفقهاء غيـر الحنفية قضاء المرأة في الأمور المالية، وقد اعتبر التقرير أن هذه القواعد المميزة لن تحظى بأية مفاعيل قانونية في مجال المعاملات الإسلامية أمام القضاء الفرنسي على المستويين القضائي والتحكيمي. 

   إن هذه الامور الثلاثة وإن كانت تحتاج منا إلى توضيح مستفيض ومستقل إلا أن ذلك لا يمنع من التذكير بأمور أهمها: 

أ- أن النص القرآني الكريم (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ۖ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (سورة البقرة - الآية 282) لم يورد تنصيف شهادة المرأة مطلقاً، بل قال ان الأقسط والأقوم والأجدر بدفع الشك هو استشهاد رجلين والا فرجل وامرأتان، والفارق كبير بين الصورتين، فإن الله تعالى الذي هو بكل شيء عليم والذي لا يفضل جنساً على جنس، قد أعان المرأة على الادلاء بشهادتها كاملة غير منقوصة، ففرض احتمال نسيان احدى المرأتين للواقعة المالية التي تشهدان عليها بكل ما فيها من تفاصيل ومبالغ وتواريخ استحقاق ولغات مختلفة للمتعاقدين، مما يتطلب تعزيز شهادة هذه المرأة بشهادة امرأة أخرى درءاً لتسرب الشك إلى القاضي والحاق الظلم بطرفي الدعوى اللذين قد يكون كلاهما أو أحدهما من النساء أيضاً، اعاة للمسؤوليات الجسام التي تنهض بها النساء في التربية والتعليم ومهام الأمومة الشريفة، وكأن النص القرآني الكريم يراعي المشاعر الانسانية في أعماقها حين يعذر المرأة المكرمة أيما تكريم من الوقوع في مغالطة ما أو اختلاط الأمور عليها وخاصة أمام هيبة القضاء وفي حضرة القضاة المستشارين والشهود الآخرين؛ لأن الآية الكريمة وان تحدثت عن الاستشهاد وقت كتابة الديون، الا أن ذلك مرتبط بأداء هذه الشهادة أمام القاضي عند وقوع نزاع في شأنه، وبالتالي فان هذا الحكم الشرعي هو حكم تكريمي لا انتقاضي، وبناء عليه فان القاضي الفرنسي اذا ما عرض عليه حكم تحكيمي في مسألة متعلقة بنزاع عقدي مالي اسلامي تم الاستناد فيه إلى شهادة رجل وامرأتين، فإن بامكانه وإن لم يقتنع بالحكمة التشريعية لذلك في الشريعة الغراء، أن يعتبر هؤلاء ثلاثة شهود وأن يتخلى عن أية فكرة انتقاصية أخرى تغمس الشريعة العادلة في مستنقع العنصرية المقيتة بدعوى تعارضها مع النظام العام الاجرائي. 

ب-أما ما يتعلق بقضاء غير المسلم على المسلم، فان القول بعدم وجود نص قرآني يمنع ذلك هو أمر مجاف للواقع في اطار حكم اسلامي، اذ من الثابت أن القضاء ولاية من الولايات- أي سلطة من السلطات في الدولة – والنهي عن تولي غير المسلمين ثابت في عشرات النصوص القرآنية، لا من باب التمييز العنصري بل من باب أن الرؤية الإسلامية للقضاء تنطلق من وجوب أن يطبق القاضي شريعة الاسلام على نفسه قبل أن يلزم الآخرين بتطبيقها على أنفسهم، وهو محل اجماع الفقهاء على مدى أربعة عشر قرناً، وكذلك فان المسلم نفسه ممنوع شرعاً من تولى القضاء اذا كان يعلم أنه سيقضى وفق قوانين تخالف أحكام الشريعة الإسلامية التي يعتقد الزاميتها وعدلها المطلق، وإن هذه الأحكام الشرعية تسري على القضاء والتحكيم معاً. 

   وعلى الرغم من ذلك فقد أقر مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع (أبو ظبي – 1995/1415) في قراره الخامس أن الأصل أن يتم تنفيذ حكم المحكم طواعية فإن أبي أحد المحتكمين عرض الأمر على القضاء لتنفيذه، وليس للقضاء نقضه ما لم يكن جوراً بيناً أو مخالفاً لحكم الشرع كما أقر في قراره السادس أنه اذا لم تكن هناك محاكم دولية اسلامية يجوز احتكام الدول والمؤسسات الإسلامية إلى محاكم دولية غير اسلامية توصلاً لما هو جائز شرعاً". 

   ج-أما قضاء المرأة في الأمور المالية، فلها أن تقضي بما لها أن تشهد فيه عند الحنفية كما لم يمانع الفقه الاسلامي أن تكون كاتبة بالعدل أو خبيرة محكمة ومحلفة لدى القضاء. 

    وفي مطلق الأحوال، فإننا لا نرى كبير أثر لهذه المسائل على مسيرة فتح الآفاق الفرنسية للمؤسسات المالية الإسلامية نظراً إلى ندرة التذرع بها في القضايا التحكيمية والدعاوى القضائية. 

   سابعاً- وأما المغالطة الأخيرة فهي اعتبار التقرير أن القواعد الاجرائية الواجبة التطبيق على المنازعات المعروضة المتعلقة بالتمويل الاسلامي هي قواعد القاضي المختار من الطرفين في العقد أما الشريعة فتنطبق في الموضوع فقط (فقرة 5.6.7 من التقرير). 

    وفي تقديرنا، أن اتفاق الطرفين على تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية على عقدهما والمنازعات الناشئة في شأن تنفيذه وتفسيره وانهائه يشتمل على رغبة الطرفين في ضبط ذلك على الصعيدين الموضوعي والاجرائي بما لا يتناقض مع أحكام الشريعة الإسلامية، والتي هي كل لا يتجزأ، فالأطراف الذين اختاروا تطبيق الشريعة الإسلامية على عقودهم لم يتنازلوا عن تطبيق هذه الشريعة في مجال أصول المحاكمات وقواعد الاثبات، خاصة اذا ما نصوا على ذلك صراحة، أما في مجال التحكيم فالأصل هو حرية الأطراف في الاتفاق على الاجراءات التي تتبعها هيئة التحكيم مع وجوب احترام المبادئ الأساسية في التقاضي وتلك المتعلقة بالنظام العام. 

   وأخيراً فقد اعترف التقرير في ختامه صراحة بوجود حاجة ماسة لاطلاع الجسم القضائي الفرنسي على قواعد الشريعة الإسلامية السارية المفعول على المعاملات المالية الإسلامية وإلى تعريف القضاة بأهم العقود في هذا المجال، وإلى تأمين الاعداد المستمر بهذا الخصوص، توصلاً إلى الهدف الرئيسي وهو استقطاب باريس لهذه الاستثمارات ودخولها حلبة التنافس وتوفير انفتاح قضائي يرخي بظلال اقتصادية منشودة. 

   إن هذا التقرير يعتبر بالاجمال خطوة حقوقية متقدمة وخاصة اذا ما تم تصويب بعض النقاط التي أوضحناها ويمكن حينئذ اعتباره وثيقة أوروبية نادرة، ووسام شرف على صدر الفقه الإسلامي، الذي يثبت كل يوم تفوقه عالمياً من خلال ما يتمتع به من رسوخ في الأصول ومرونة في الفروع وقدرة هائلة على توليد الطاقة الحقوقية التي ترفد رجال المال والأعمال قدر ما ترفد رجال الفقه والقضاء مستجيبة لحاجات العصر ومستوعبة استحقاقات المستقبل. 

   وإن قيمة هذا التقرير القانوني هي اليوم على المحك وإن المسؤولية والمبادرة تقع على عاتقنا كمتخصصين في المعاملات المالية الإسلامية في التواصل المستمر مع القضاء الفرنسي لقواعد الشريعة الغراء لتأمين التطبيق القانوني السليم.