الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / التحكيم في الشريعة الإسلامية / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 5 / ESTOPPEL  منع التناقض إضرارا بالغير في الشريعة الإسلامية 

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 5
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    165

التفاصيل طباعة نسخ

خطة البحث: 

   سنعرض في هذا البحث لمقدمة في ابراز بعض الثوابت الشرعية والقواعد الفقهية المتعلقة برعاية حقوق الغير (المطلب الاول) ثم نخص قاعدة " من سعى في نقض ما تم من جهته" بالحديث عن أهميتها (المطلب الثاني) وتحقيق مسألة الملكية الفكرية لصياغتها (المطلب الثالث) والقواعد الفقهية الاسلامية في امتناع الجمع بين المتناقضين (المطلب الرابع) ثم نفصل في مدلول هذه القاعدة الفقهية (المطلب الخامس) ومعرفة آثارها في الفروع الفقهية (المطلب السادس) وصولاً إلى استقرائنا لأهم استثناءات هذه القاعدة الفقهية في مجال التصرفات والعقود وأصول المحاكمات الإسلامية المدنية والجنائية الجزائية (المطلب السابع). 

المطلب الأول: مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء والقواعد الفقهية المتعلقة برعاية حقوق الغير 

   إذا كان لكل شريعة حكمة، فإن لشريعة الإسلام حكمة وهي تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة وبناؤها على مبادئ العدل والاحسان والمصلحة العامة. 

  ولقد سطر الفقهاء الأعلام شبكة محكمة دقيقة من المعادلات الحقوقية والقواعد الفقهية المتفرعة عن نصوص وحي السماء من قرآن كريم وحديث نبوي شريف، ضمنت الحماية التشريعية والقضائية لحقوق الله وحقوق العباد، وحققت التوازن الدقيق بين حقوق المتعاقدين فيما بينهم من جهة وإزاء الغير من جهة أخرى. 

   وقام بنيان الشريعة الإسلامية على الوفاء بالعقود والعهود وعلى إعطاء الكلمة المعبرة عن إرادة معينة قيمة قانونية مجردة من أية تعقيدات أو شكليات، فكانت قاعدة" إعمال الكلام أولى من إهماله وقاعدة " الأصل في الكلام الحقيقة". 

   وتولّدت من ذلك آثار مهمة في التصرفات والعقود تعد من أهم سمات نظرية العقد في الفقه الإسلامي وميزاتها. 

  كما أمرت الشريعة الإسلامية الغراء بجلب المصالح ودرء المفاسد فوضعت للمصلحة ضوابط دقيقة تكبح جماح التعدي على حقوق الآخرين ، وأمرت بالعدل والاحسان اللذين يدرءان أية معان نفعية من شأنها التحلل من الالتزامات واستباحة الحقوق بالحيل لمجرد الربح والكسب غير المشروع, ودعت إلى قول الحق والاذعان إليه وإقامة القسط وإن كان الخصم بغيضاً. 

   يقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى" ( سورة المائدة - الآية 8). 

   ونهت عن وقوع الضرر والحاق الإضرار وأبدعت نظرية التعسف في استعمال الحق فكانت سبقاً تشريعياً لا نظير له. 

   وعلى الرغم من مراعاة ظروف الضرورة فقد حفظت الشريعة الإسلامية حقوق الغير فاعتبرت "التصرف في ملك الغير باطلاً" وضبطت الآثار المترتبة إزاء ممارسة ما تقتضيه الضرورات من إباحة المحظورات فأرست قاعدة (الاضطرار لا يبطل حق الغير) وأوجبت التعويض على من أكل مال الغير بقدر ما يدفع عن نفسه الهلاك جوعاً. 

   وتوجت القواعد الفقهية بقاعدة: (من سعى في نقض ما في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه) وهي القاعدة المائة في مجلة الأحكام العدلية الصادرة عام 1876م، والتي شارك في صياغتها كبار الفقهاء في ظل الدولة العثمانية – وتتمتع بقيمة فقهية وقانونية مميزة وتعد خطوة رائدة في تقنين الفقه الإسلامي. 

   وكما أمرت الشريعة الإسلامية بالالتزام بالعقود، فقد رغبت في الإقالة، وهي فسخ العقد لمن ندم في بيعته، إلا انها اشترطت صدور إيجاب وقبول جديدين'. 

   ومن جهة أخرى، فإن منع التناقض إضراراً بالغير يجد أثره البالغ في القاعدة الذهبية (الاجتهاد لا ينقض بمثله) فاجتهاد المجتهد في المسائل الظنية التي لم يرد فيها دليل قاطع لا ينقض باجتهاد مثله اجماعاً، لأنه ما من اجتهاد إلا ويجوز أن يتغير، وذلك يؤدي إلى عدم الاستقرار القضائي، والاضرار بمصالح العباد. 

   فالاجتهاد السابق لا تنقض أحكامه الماضية بالاجتهاد اللاحق، فيصح ما فعله بالاجتهاد الأول وتبرأ به ذمته. 

   وان عدم نقض قضاء القاضي في الماضي، والعمل بالاجتهاد الجديد في المستقبل، إنما هو في القاضي المجتهد، أما القاضي المقلد الذي تقلد القضاء مقيدا بمذهب معين فإنه يتقيد به، فلو حكم في المستقبل بخلافه ينقض حكمه، وإن وافق أصلاً مجتهداً فيه وإذا قضى القاضي بالجور ثم ظهر له الحق بطل القضاء. 

المطلب الثاني: في أهمية قاعدة ( من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه) في المجال الحقوقي المعاصر: 

  1-أنها قاعدة من قواعد مجلة الأحكام العدلية التي كانت مطبقة في لبنان قبل صدور قانون الموجبات والعقود اللبناني عام 1932 ولا تزال سارية المفعول ومتمتعة بالحجية في لبنان، "وهي من المبادئ العامة في القانون اللبناني" .

  2- أنها قاعدة معتبرة في النظم القانونية العربية المعاصرة المتأثرة تأثراً كبيراً بالشريعة الإسلامية كالأردن والإمارات العربية المتحدة والسودان واليمن أو التي تنص دساتيرها على أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع كمصر أو من مصادر التشريع أو أنها مصدر التشريع كالمملكة العربية السعودية. 

  3- أنها قاعدة واجبة التطبيق في المنازعات التجارية التي ينص الاتفاق التحكيمي فيها على الفصل في الخصومة بمقتضى أحكام الشريعة الإسلامية، أو بما لا يتناقض وأحكام الشريعة الإسلامية، أو الاتفاق التحكيمي الذي ينص على أن القانون الواجب التطبيق على أساس النزاع أو على اجراءات النزاع هو قانون يعتمد على هذه القاعدة الفقهية. 

  4- أنها حظيت بمجموعة من الشروح المتعاقبة على مدى /14/ قرناً من قبل فقهاء أجلاء من مختلف الأمصار والأعصار مارسوا العمل القضائي طوراً في ظل ما يمكن تسميته "الولايات المتحدة الإسلامية" التي انتهت بنهاية الدولة العثمانية، واضطلعوا بمسؤوليات جسام في حسم منازعات تجارية داخلية ودولية في مختلف العواصم التي كانت تشكل حواضر العالم العربي والإسلامي في المشرق والمغرب بما في ذلك الأندلس، وطوراً آخر في ظل دول مختلفة نشأت في القرن العشرين. 

  5- أنها من القواعد الفقهية التي تشكل ثروة تشريعية حقيقية تثري العطاء الحقوقي العالمي بما يحقق الحق والعدل المنشود. 

 6- أنها قاعدة محكمة في مجال المعاملات المالية المعاصرة في إطار العمل المصرفي الإسلامي إن على صعيد فتاوى هيئات الرقابة الشرعية أو على صعيد المنازعات المالية المتولدة من عمل هذه المؤسسات. علماً أن مجموع الكتلة النقدية المالية التي تديرها تلك المصارف على مستوى العالم قاربت الألف مليار دولار أمريكي. 

  7- لقد نصت على هذه القاعدة المادة (76) من مشـروع قانـون المعاملات المالية العربي الموحد القانون المدني الموحد على أساس الفقه الإسلامي – وفقاً لما أقرته اللجنة العامة لتوحيد التشريعات بجامعة الدول العربية بناء على المذكرات التأصيلية والصيغ التي وضعتها لجنة خبراء الأمانة العامة في الدائرة القانونية في جامعة الدول العربية بتونس عام 1984 .

  وفيما كان القانونيون في الغرب عامة وانكلترا خاصة يتداولون، وبشكل بدائي، مصطلح Estoppel الذي صار يعني منع التناقض في الأقوال والأفعال في سياق منازعة قضائية، فإن تطور هذا المفهوم القانوني وتدرجه ووضعه موضع التنفيذ في المجال القضائي قد استغرق عدة قرون ابتداء من القرن الثالث عشر إلى عصرنا هذا، في الوقت الذي كانت القاعدة الفقهية القائلة" من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه "قد أشبعت بحثاً وتطبيقاً في الفقه الإسلامي قبل ذلك بستة قرون في مختلف مجالات المعاملات المدنية والأحوال الشخصية والقضايا الجزائية ووسائل الاثبات من شهادة وإقرار ويمين. 

المطلب الثالث: في تحقيق مسألة الملكية الفكرية لصياغة هذه القاعدة الفقهية: 

  • منشأ القاعدة الفقهية: 

    إن قاعدة (من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه) تجد أصلها في العديد من الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وفي مطلع ذلك قول الله تعالى في سورة الفتح (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه)، - الآية 10. 

   إلا أن الملكية الفكرية لصياغة هذه القاعدة ترجع إلى كل من: 

  أ- العلامة الحنفي شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي رحمه الله ( توفى عام 483 هـ) وقد أورد عبارته في مواضع مختلفة من كتابه النفيس "المبسوط" معللاً الحكم الشرعي في مسائل بعضها يتعلق بالشفعة ( ج 14 ص 121 ) وعبارته "ومن سعى في نقض ما قد تم به يبطل سعيه" وبعضها يتعلق بالقسمة ( ج 15 ص 61 ) وعبارته "ومن سعى في نقض ما قد تم ضلّ سعيه". 

  ب-ثم أورد العلامة ابن نجيم الحنفي رحمه الله المتوفى عام ( 970 هـ ) هذه القاعدة في كتابه الأشباه والنظائر (ص272) بقوله " من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه". 

المطلب الرابع: في منهج القواعد الفقهية الإسلامية في امتناع الجمع بين المتناقضين.  

   واذا كان من مصادر تكوين القاعدة الفقهية عموماً تخريجها عن طريق الاستدلال العقلي کامتناع الجمع بين المتنافيين، فإن من ذلك قواعد وضوابط متعددة منها: 

  1- لا حجة مع التناقض، ولكن لا يختل معه حكم حاكم، وهذه القاعدة هي نص المادة (80) من مجلة الأحكام العدلية. 

  2- من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه – وهي نص المادة (100) من مجلة الأحكام العدلية – ووجه رد سعيه عليه أنه في سعيه هذا يكون متناقضاً ما كان أتمة وأبرمه، والدعوى المتناقضة لا تسمع. 

  3- الجواز الشرعي ينافي الضمان وهذه القاعدة هي نص المادة (91) من مجلة الأحكام العدلية، لأن الضمان يكون بالتعدي وبفعل ما لا يجوز فكيف يجتمع مع التجويز الشرعي. 

  4- "الأجر والضمان لا يجتمعان": وهي نص المادة 86 من مجلة الأحكام العدلية والمقصود من الأجر هنا بدل المنفعة والضمان الغرامة لقيمة الشيء أو نقصانه وهما لا يجتمعان إذا اتحدت جهتهما. 

  5- "الساقط لا يعود": وهي نص المادة (51) من مجلة الأحكام العدلية وقال شارح المجلة رئيس محكمة التمييز في الدولة العثمانية ثم وزير العدل فيها- علي حيدر: يعني إذا أسقط شخص حقاً من الحقوق التي يجوز له اسقاطها يسقط ذلك الحق وبعد اسقاطه لا يعود (درر الحكام 48/1) ومعنى ذلك أنه يكون متناقضاً نفسه فعند اسقاط شخص دينا له على شخص آخر، فإنه لو ندم وأراد أن يرجع في قوله ويطالب بدينه لم يجز له ذلك. 

المطلب الخامس: في المدلول الفقهي لقاعدة (من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مرود عليه). 

  معنى القاعدة: أنه إذا عمل شخص على نقض ما أجراه وتم من جهته فلا اعتبار لعمله ، فمن أبرم أمرا بارادته واختياره ثم أراد نقض ما تم فلا يقبل ذلك منه ويكون سعيه مردوداً عليه، لأنه والحالة هذه يكون متناقضاً في سعيه بذلك مع ما كان أتمه وأبرمه، والدعوى المتناقضة لا تسمع لما فيها من التعارض والمنافاة هنا بين الشيء الذي تم من قبله وبين سعيه الأخير في نقضه.

ولا فرق بين ما تم من جهة المرء بين أن يكون تم من جهته حقيقة كما إذا فعل ذلك بنفسه أو يكون تم من جهته حكماً كما إذا كان ذلك بواسطة وكيله، أو صدر من مورثه فيما يدعيه بحكم الوراثة، فإن السعي في نقضه لا يسمع منه لأن الوكيل مع الموكل، والمورث مع الوارث، بمنزلة شخص واحد.

    وشرط اعتبار التناقض أن يكون أمام خصم منازع وإلا لا يعتبر متناقضاً ويسمع. ويتحصل مما سبق:

  1- أن التناقض المردود على صاحبه والذي تناولته القاعدة الفقهية هو ذاك التناقض المتولد في معرض خصومة قضائية.  

  2- أن الجزاء المترتب على الوقوع في التناقض هو عدم سماع الدعوى ويفضي إلى بطلانها فالتناقض يمنع صحتها؟ لأن كل واحد من الكلامين ينقض الآخر وسعي الانسان في نقض ما تم به بمنزلة التناقض "إلا إذا وفق المدعي برفع هذا التناقض فلو أقر أنه لا يحق له قبل فلان، ثم ادعى أنه غصبه منه، لا يصدق إلا أن يبرهن على غصبه بعد إقراره، إذا البراءة ثبتت بيقين وهو الاقرار فلا يبطل حكمها إلا بيقين وهو البينة .

  3- أنه ينبغي على القاضي -الحاكم- فيما يمكن فيه التوفيق، أن يستوضح من المدعي ليوفق بالفعل فيتخلص من الخلاف، وبالتالـي فـإن عبـارة (فسعيه مردود عليه) تحمل على حالة ما لو عجز عن برهان ما يدعيـه لاحقاً ولم يثبـت ذلك ببينة فاصلة قاطعة حاسمة. 

المطلب السادس: آثار هذه القاعدة الفقهية في الفروع 

  1- في البيع: لو باع إنسان ماله من آخر فادعى أحدهما بأنه قد جرى فضولاً وهو غير لازم، فالقول قول مدعي الصحة والنفاذ حتى ولو جاء رجل وادعى بأنه باع المال بدون إذنه وأقام على ذلك البينة. 

 2- وفي مجال التعامل بأسهم الشركات، يصح اتفاق المساهمين على تصرف أو الامتناع من تصرف معين بناء على رأي الفقهاء المتوسعين في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد ما دامت لا تخالف أصلاً شرعياً، وبناء على ما تفيده القاعدة الفقهية القاضية بأن من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه". ولذا فإنه إذا قيد المساهمون أنفسهم بعدم التصرف في أسهمهم بالبيع إلا في نهاية السنة المالية للشركة فلا يحق لهم أن يتصرفوا فيها بنقل ملكيتها خلال السنة المالية. 

 3- في مجال الشفعة: 

  إذا ضمن شخص الدرك لمشترى الدار – أي ضمن له عدم التعرض – ثم ادعى شفعة فيها أو ملكا لها، فإنه لا يسمع منه، لأن ضمان الدرك للمشتري يتضمن بلا شك تقرير سلامة المبيع له، ودعواه الشفعة أو الملك فيها تنقضه، فلا تسمع. 

 4-في مجال التركة: 

  ولو بادر شخص إلى اقتسام التركة مع الورثة ثم ادعى بعد القسمة أن المقسوم ماله، فإنه لا تسمع دعواه، لأن اقدامه على القسمة فيه اعتراف منه بأن المقسوم مشترك للورثة. 

5- في مجال الكفالة: 

   ولو باع رجل مالاً من آخر وجاء رجل فكفله على الوجه المطلوب فلا يقبل ادعاؤه بعد ذلك بملكية ذلك المال، لأن الكفالة لما كانت مشروطة في عقد البيع والبيع لا يتم إلا بها فادعاء الكفيل بملكيته للمال نقض لما تم من جهته فهو غير مقبول. 

6- في مجال الرهن: 

  لو رهن شخص مالاً لآخر وسلمه إليه، ثم بعد ذلك أقر بأن المال المرهون هو لفلان، فاقراره هذا وإن كان غير مصدق بحق المرتهن فهو ملزم به بعد أدائه الدين واسترداده الرهون. 

7- في مجال الودائع: 

  إذا طلب شخص وديعة من المستودع مدعياً أنه وكيل المستودع بالقبض، فإذا سلمه المستودع الوديعة فليس له بعد ذلك استردادها منه بداعي أنه لم يثبت وكالته، لأن ذلك يستلزم نقض ما تم من جهته .

المطلب السابع: أهم استثناءات هذه القاعدة الفقهية في مجال التصرفات والعقود وأصول التقاضي (المحاكمات المالية (المدنية) والجنائية (الجزائية) 

   وكما أن لكل قاعدة استثناء، وإما أن يرد هذا الاستثناء في نص القاعدة نفسها كما في قاعدة "لا ينسب لساكت قول ولكن السكوت في معرض الحاجة بيان" وإما أن يرد خارجها، فإن أهم الاستثناءات الواردة في هذه القاعدة يمكن أن تتلخص في جملة مسائل تعرف بما يستثنى من التناقض وهي: 

  1- دعوى ما يخفى سببه كالنسب والطلاق والخلع. فالتناقض في مثل هذه المواضع عفوّ تسمع فيه الدعوى، فلو أقامت المرأة بينة على الطلاق ثلاثاً بعدما اختلعت نفسها فإن لها أن تسترد بدل الخلع وإن كانت متناقضة. وكذلك الزوج إذا قاسم أخا امرأته ميراثها وأقر الأخ أنه وارثها، ثم أقام الأخ بينة أن الزوج كان طلقها ثلاثاً، قبلت بينته، ويرجع على الزوج بما أخذ من الميراث. 

   وأما التناقض في غير موضع الخفاء فينظر: إن لم يكن قابلاً للتوفيق فهو باطل لا تسمع فيه الدعوى، كما لو ادعى شيئا بالارث عن أبيه ثم ادعاه شراء منه فإن دعواه لا تسمع لتعذر التوفيق، لأن الموروث عن الأب لا يتأتى شراؤه منه بخلاف العكس بأن يدعى شراءه ثم يقول عجزت عن إثباته فورثته آخر. وكذا لو ادعى عليه ألفاً ديناً فأنكر ثم ادعاها من جهة الشركة فإن الدعوى لا تسمع وبالعكس تسمع لامكان التوفيق، لأن مال الشركة يجوز كونه ديناً. 

   كما أن موضع الخفاء لا ينحصر في النسب والطلاق والخلع، بل إن ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر، فلو استأجر دارا ثم برهن على المؤجر أنها ملكه لأن أباه شراه لأجله في صغره فإن دعواه تسمع ولا يمنع هذا التناقض لما فيه من الخفاء، فإن الأب يستقل بالشراء للصغير ومن الصغير لنفسه والابن لا علم له بذلك. 

  2- إذا كان العقد له مساس بحق قاصر أو وقف، فيجوز لمن تم من جهته نقضه، كما إذا باع الأب أو الوصي أو المتولي مال الصغير القاصر أو الوقف، ثم ادعى وقوع غبن فاحش فيه فإن دعواه تسمع ولم يعد العلامة الأتاسي هذه الصورة استثناء على القاعدة واستدرك على العلامة علي حيدر باعتبار ذلك من باب خيار الفسخ للمشتري وليس من التناقض في شيء لأن طالب الفسخ ليس معرضاً عن الاعتراف بوجود العقد. 

 3- إذا كان التصرف يمس بحقوق الجماعة، كما لو اشترى شخص أرضاً ثم ادعى أن بائعها كان جعلها مقبرة أو مسجداً، فإن ادعاءه يقبل. 

 4- إذا اشترى العين المأجورة أو العين المرهونة بدون إذن المستأجر أو المرتهن عالماً بأنها مأجورة أو بأنها مرهونة، فإنه يبقى على خياره – كما هو الصحيح الذي عليه الفتوى – إن شاء فسخ البيع وإن شاء انتظر انتهاء مدة الاجارة أو فكاك الرهن ، فهو في صورة اختياره فسخ البيع ساع في نقض ما تم من جهته، ولم يرد عليه سعيه.   

 5- الرجوع عن الاقرار فيما يتعلق بحقوق الله التي تسقط بشبهة بخلاف الرجوع عن الاقرار فيما يتعلق بحقوق العباد". "لأنه حق ثبت لغيره فلم يملك إسقاطه بغير رضاه، وحق العبد بعد ما ثبت لا يحتمل السقوط بالرجوع، ولأن حقوق العباد مبنية على المشاحة، وما دام قد ثبت له فلا يمكن اسقاطه بغير رضاه". 

  6- إن هناك حقوقاً غير قابلة للسقوط أصلاً فتبقى كما هي، كحق الفسخ للعقد الفاسد، وحق الاستحقاق في الوقف، وحق الوكيل في القيام بما وكل به، وحق خيار الرؤية، وحق تحليف اليمين المتوجهة على أحد المتداعيين"، وفي تقديرنا أن ما يعتبر استثناء من قاعدة "الساقط لا يعود" يعتبر استثناء من قاعدة من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه. 

  وفي الختام فإن الأخذ بالقواعد الفقهية في نطاق المبادئ العامة للقانون اللبناني وكثير من القوانين العربية، يقتضي الأخذ بهيكليتها كاملة أصلاً واستثناء وبالتناسق مع بعضها البعض وبالتناغم مع النظريات الفقهية التي ترعى الحقوق والالتزامات والمسؤولية العقدية والمسؤولية عن الفعل الضار، وفي تقديرنا أن ذلك يمكن حصوله بصورة دقيقة وبروح العصر اذا ما أخذنا بمشروع قانون المعاملات المالية العربي الموحد المشار إليه آنفاً، بدلاً من أن يتحول إلى قطعة أثرية نقف أمامها باعجاب فقط دون أن نستلهمها في هندستنا التشريعية.