التحكيم في مرحلة ما قبل الإسلام - التحكيم بعد انتشار الإسلام – إختلاف مفهوم التحكيم بين الشريعة الإسلامية والتقليد الغربـي – تطـور التحكـيم فـي الـسعودية – أثـر قـضية ARAMCO على احتضان السعودية للتحكيم الدولي - قانون التحكيم السعودي للعام 1983 – إعتبارات لإصلاح قانون التحكيم السعودي.
المقدمة:
رافق تخطي إقتصاد السوق الحدود الوطنية في اتجاه العالمية، تطوراً على صعيد النزاعات التي تجاوزت ليس فقط الحدود، بل أيضاً الأعراف الثقافية والقانونية. وتماشياً مع هذا الإنتشار في العولمة، نما تفاعل الشركات الغربية التجاري في منطقة الشرق الأوسط انطلاقاً من التنقيب عن النفط وصولاً إلى عمليات الإستثمار والصفقات المالية الأكثر تعقيداً. ومع ازدهار التجارة الدولية والصناعة المصرفية في الشرق الأوسط، تصاعد عدد دعاوى التحكيم التجاري الدولي بشكل ملفت. وبتزايد تأثير المجتمع التجاري الغربي في المنطقة، فرض الإضطراب السياسي العام وردة الفعل الإسلامية في الشرق الأوسط ضغطاً إضافياً على دول المنطقة للإلتزام أكثر بالتقاليد والقيم المنصوص عليها في الشريعة. ولا توجد دولة تبرز فيها هذه الضغوط المتضاربة أكثر من المملكة العربية السعودية، الشريك التجاري الشرق أوسطي الأكثر أهمية بالنسبة الى الغرب، وأيضاً إحدى أكثر الدول العربية تحفظاً. وفي سعيها إلى تطوير قواعد جديدة للتحكيم والتوفيق في النزاعات التجارية، تواجه الحكومة في السعودية مهمة إقامة توازن بين متطلبات المجتمع التجاري الغربي والضغط الداخلي في المحافظة على التحكيم وفقاً للشريعة. وفي سبيل إدراك كيفية تطوير التحكيم في السعودية، من الضروري الإطلاع على مختلف المراحل التي مرّ بها التحكيم: منذ بدايته في مرحلة ما قبل الإسلام، مروراً بانتشار الدعوة الإسلامية ونكسات مرحلة الخمسينات، إلى حين وضع قواعد شاملة للتحكيم في العام 1983.
التحكيم في مرحلة ما قبل الإسلام:
إتخذ تطور التحكيم في الشرق الأوسط إتجاهاً مختلفاً عن تطور التحكيم في الغرب. لما للتحكيم في الشرق الأوسط من تاريخ قديم يعود الى مرحلة ما قبل الإسلام. في مرحلة الجاهلية، كانت الحياة بين العرب في الصحراء تستند الى نظام الثأر الشخصي دون وجود سلطة مركزية أو قضائية تحافظ على النظام وتحمي حقوق الأفراد. وخلافاً للتحكيم التجاري في التقليد الغربي، لم يكن التحكيم في الشرق الأوسط بديلاً من النظام القضائي، بل كان وسيلة حل النزاعات الوحيدة لتفادي الحرب في حال فشل المفاوضات والوساطة من الوصول لتسوية. فالنظام القبلي كان الإطار الأساسي لحل النزاعات ورأي العشيرة الغالب هو الذي ساد.
بدلاً من السلطة القضائية المنظمة، أنيط العدل بين العرب بشيخ القبيلة على شكل تحكيم مكيف حول أسلوب حياتهم. وكان يتم النص على هذا التحكيم في إتفاق يسجل فيه موضوع النزاع وإسم الحكم. وكان يجري التحكيم طوعياً بخيار الأطراف. أما القرار التحكيمي فلم يكن ملزماً وتنفيذه كان يستند حصرياً الى سلطة الحكم المعنوية. بالتالي كان الحكام أشخاصاً معتبرين، إنما دون أن يتمتعوا بأية سلطة سياسية". فمعظمهم كانوا من الكهنة الذين ابتهلوا الى الآلهة قبل الإدلاء بآرائهم، وكأنها وحي من السماء. هذا الإعتقاد بالوحي الإلهي كان ضرورياً لدفع الأطراف إلى حل نزاعاتهم عن طريق التحكيم والإلتزام بقرارات الحكام.
إجراءات التحكيم كانت بسيطة، وقد اشترط الحكام لصحة التحكيم حضور الأطراف جلسة الإستماع. إضافة الى ذلك، توجب إثبات كل ادعاء وعلى من أنكر أي إدعاء حلف اليمين حول صحة أقواله. وقد اتبعت الشريعة هذه القواعد لاحقاً. ومع ظهور الإسلام، شهدت المؤسسات الإجتماعية في شبه الجزيرة العربية تغيّراً جذرياً، وإنما استمر العمل بالتحكيم.
التحكيم بعد انتشار الإسلام:
بالرغم من انتشار الإسلام وما رافقه من تغيرات في المنطقة، حافظ التحكيم على العديد من خصائصه التي سادت في مرحلة ما قبل الإسلام. أهمها، بقاء التحكيم إجراء طوعياً. خصوصاً وأن النبي محمد قبل بقرارات المحكمين ونصح باللجوء الى التحكيم. بالفعل، نصت المعاهدة الأولى في الإسلام - معاهدة المدينة الموقعة في العام 622 م بين المسلمين والعرب غير المسلمين واليهود- على حل النزاعات عن طريق التحكيم.
خلافاً لأهل القانون في روما وأوروبا في مرحلة القرون الوسطى، لم يهتم النبي محمد بتطوير إجراءات لحل النزاعات بمعزل عن التدخل السياسي، بل على العكس، توجب على النبي توحيد العرب سياسياً ودينياً، وبذلك أصبح حكم الأمة الإسلامية الموحدة ومتلقي الوحي الإلهي. وقد شدد القرآن الكريم على أهمية تدخل النبي كمحكم في النزاعات بين المسلمين الأوائل، وذلك بهدف الفصل فيها وفقاً للقانون الإلهي المنزل عليه.
تم التأكيد على أهمية التحكيم في القرآن الكريم والسنة النبوية، المصدران الأساسيان للشريعة الإسلامية، كما حصل إجماع عليه كوسيلة إسلامية لحل النزاعات. تعبر الحادثة التالية عن أهمية التحكيم في بداية الإسلام إضافة لأهمية حيادية المحكم:
إختار خليفة المسلمين ورجل من العامة اللجوء الى التحكيم لفصل خلاف قائم بينهما، وعندما ذهب الخليفة مع خصمه إلى بيت المحكم قال له أتيناك لتحكم فيما بيننا، فدهش المحكم وسأل الخليفة عن سبب عدم إستدعائه إليه بدلاً من حضوره شخصياً، فأجابه الخليفة أنه عندما نحتكم نأتي إلى بيت المحكم، فأعطاه المحكم وسادة ليرتاح عليها فرفض وقال هذا أول تصرف يفتقر إلى الانصاف.
إضافة الى حياديتهم، توجب على المحكمين أن يكونوا مسلمين ومتبحرين في علم الفقه. كما إنه لم يوجد في بداية الإسلام نظام لتعيين المحكمين من غير الأطراف. إذ كان كل طرف يلجأ إلى تعيين محكم من قبله في حال عدم الإتفاق على محكم واحد، وتوجب على المحكمين المعينين الإتفاق على القرار النهائي. كما تم منح المحكمين سلطة مطلقة لحل النزاع، وإنما بشرط واحد: هو أن يصدر القرار التحكيمي سنداً للقرآن الكريم والسنة.
علاوة على ذلك، كان القرار التحكيمي ملزماً طالما توافق والقانون الإلهي. في الواقع، إنه من الخطيئة أن يقبل المسلم بقرار صادر عن محكم إذا اعتقد مخالفته للقانون. في المقابل، شكل مفهوم الإنصاف وقبول القرارات التحكيمية التي يمكن أن تكون مخالفة للقانون، إحدى أبرز ميزات التحكيم التجاري الدولي الراهن. وبات تنفيذ قرارات المحكمين أكثر صعوبة لوجوب عرضها على القضاء قبل تنفيذها. فالشريعة، بالنسبة الى المسلم الملتزم، تمثل المثالية الدينية. لذا انتهاء التحكيم بصدور القرار التحكيمي لا يغير من طبيعة الأشياء في نظر المسلم الملتزم. أيضاً، من الممكن أن يخطىء القاضي الناظر في المراجعة في حال سمح بتنفيذ ما يعتبره مخالفة جسيمة أو تفسيراً خاطئاً للقانون. بالتالي، لم تكن المراجعة القضائية المحدودة، مثلها مثل القانون المختار من الأطراف، إحدى ميزات مفهوم المسلم للتحكيم.
كان التحكيم يبدأ بمحاولة الصلح، الوسيلة المفضلة لحل النزاعات، لما يتخللها من كرم ديني وتسامح. أما القاعدة العامة في كافة مدارس الشريعة، كما في قواعد تحكيم بعض الدول الإسلامية، فهي أن النزاعات التي لا يمكن التصالح عليها لا يمكن عرضها على التحكيم. على هذا النحو، تكون للصلح، الذي يقابله الـ amiable composition في الغرب، جذور ثابتة في التاريخ الإسلامي باعتباره احد وسائل حل النزاعات.
إختلاف مفهوم التحكيم بين الشريعة الإسلامية والتقليد الغربي:
خلافاً للتحكيم في التقليد القانوني الإسلامي، لم يتطور التحكيم في التقليد الغربي كوسيلة وحيدة لحل النزاعات، وإنما كنظام عدالة مواز يعمل خارج نظام المحاكم الموجود وقواعده الأساسية والإجرائية. وقبل تسليط الضوء على بعض الفوارق بين التقليد القانوني الغربي والإسلامي من حيث مفهوم التحكيم، لا بد من التذكير أن كلا التقليدين يحتوي المضمون نفسه: نظام خاص وغير رسمي لحل النزاعات. وفي سبيل التعرف الى التجاذب الكامن بين التقليدين، سيتم التطرق الى مفهوم عدد من الإختلافات الأساسية بينهما، تحديداً، الأدوار المختلفة للأطراف ودور المحكمين ودور الإنصاف.
في التحكيم وفق التقليد الغربي، تنقيد سلطة الأطراف بعد اتفاقهم الأولي باللجوء الى التحكيم. إذ أنه بعد تعيين المحكمين، تنحصر القرارت الإجرائية والموضوعية، بشكل عام، في يد الهيئة التحكيمية. ويبقى التحكيم محافظا على طابعه الطوعي والتوفيقي والتعاقدي. ذلك أن رضى الأطراف المتواصل يبقى متماسكاً بشكل مثالي لغاية اللحظة الأخيرة قبل إصدار المحكم قراره. ففكرة إلزام الأطراف باللجوء إلى التحكيم لبت النزاعات المستقبلية كانت أولا، في بداية تطور التحكيم، غريبة عن روح التعاون التي سعى لتعزيزها بشكل خاص.
ثانياً، يختلف التحكيم في التقليد القانوني الإسلامي عنه في التقليد الغربي، من حيث تعريف دور المحكم. فالمحكم في التقليد الغربي ليس مقيدا بنفس الشروط التي يخضع لها القاضي، كونه لا يستمد سلطته من الدولة ولا يحكم بإسمها. وهو يكون أكثر اهتماماً بمتطلبات وتوقعات الأطراف والمجتمع التجاري عموماً. من ناحية أخرى، في التقليد القانوني الإسلامي، عندما يصدر المحكم قراراً يكون بذلك قد حدد حقوق وواجبات أحد الأطراف في مواجهة الآخر، وفقاً لقانون يشكل تجسيداً لأوامر الله بهدف حماية مجتمعه. فواجب المحكم الأساسي ليس في اتجاه الأطراف المتنازعين، وإنما في اتجاه القانون في حد ذاته والمجتمع الإسلامي. بالتالي، وظيفة نفسها تلك العائدة الى القاضي، لذا لا يقل قراره أهمية عن الحكم الذي يصدره المحكم هي عملياً هذا الأخير.
أخيراً، خلافاً للتحكيم في التقليد الغربي، لم يميز التحكيم في الشريعة الإسلامية بين القانون والإنصاف. كون المرء في التقليد الإسلامي لا يمكنه أن يعتقد بقدسية القانون الموحى من جهة، ووجود عدالة موازية أكثر إنصافاً من جهة أخرى. في المقابل، في التقليد الغربي، الأخذ بالإنصاف - ما هو "عادل" للأطراف تبعاً لظروف معينة في النزاع – هو إحدى إيجابيات التحكيم التي يتميز بها عن إجراءات التقاضي العادية.
تطور التحكيم في السعودية:
تطور التحكيم في السعودية هو مسألة مد وجزر. إذ كان التحكيم، منذ بداية التنقيب عن النفط ولغاية خمسينات القرن الماضي، الوسيلة الأولى لحل النزاعات التجارية بين السعودية والشركات الأجنبية. وعقب إصدار قرار تحكيمي أجنبي ضد السعودية في قضية شركة ARAMCO، لم يعد التحكيم مستساغاً مع الهيئات الحكومية السعودية. إلا إنه بعد دخولها في عدة معاهدات دولية وتمريرها قانون التحكيم في العام 1983، بدأت السعودية باستعادة مكانتها السابقة بخطى ثابتة. ومع استمرار المناقشات حول كيفية إصلاح قواعد التحكيم، سيعني تطوير قانون التحكيم السعودي، التوفيق بين متطلبات المجتمع التجاري الغربي وتقليده القانوني الإسلامي.
أ. أثر قضية ARAMCO في احتضان السعودية للتحكيم الدولي:
في العام 1958، تبنت الأمم المتحدة معاهدة نيويورك بشأن الإعتراف بالقرارات التحكيمية الأجنبية وتنفيذها (فيما يلي: معاهدة نيويورك) طالبة من محاكم الدول المتعاقدة تفعيل إتفاقات التحكيم الخاصة والإعتراف وتنفيذ القرارات التحكيمية الصادرة في دول أخرى. وباتت معاهدة نيويورك منذ ذلك الحين، المعاهدة الدولية الأكثر أهمية لتنفيذ القرارات التحكيمية الأجنبية. وللمفارقة، شهد عام التوقيع على المعاهدة، التحكيم ضد شركة النفط العربية الأمريكية (ARAMCO) الذي كان له بالغ الأثر على ثقة الحكومة السعودية بالتحكيم التجاري الدولي.
نشأ النزاع في هذه القضية عن عقد وقع في العام 1954 مع قطب النقل البحري اليوناني Aristotle Onassis منح بموجبه هذا الأخير وشركته، الشركة السعودية للنقل البحري (SATCO)، شبه احتكار لنقل النفط من السعودية. لكن الحكومة السعودية، كان سبق لها أن وقعت في العام 1933 عقد امتياز مع شركة نفط في كاليفورنيا Standard Oil Company of California (لاحقاً ARAMCO) منحتها بموجبه الحق الحصري لنقل النفط الذي تستخرجه من منطقـة الإمتيـاز في السعودية. أما موضوع النزاع، فكان التعارض بين عقد العام 1954 مع Onassis وعقد العام 1933 مع 52ARAMCO، خصوصاً بعد رفض ARAMCO الإلتزام بعقد Onassis، مؤكدة حقها المطلق باختيار وسائل نقل النفط من السعودية.53 وقد تضمن عقد البحث والتنقيب عن النفط وتسويقه، الموقع بين ARAMCO والحكومة السعودية، على بند تحكيمي يحيل أي نزاع بين الأطراف الى التحكيم.
في غياب القوانين الواجبة التطبيق، طبقت الهيئة التحكيمية مبادئ القانون الدولي الخاص، مستندة بشكل كبير الى واقع توقيع وتنفيذ عقد ARAMCO في السعودية. في المقابل، أدلت ARAMCO أن الشريعة الإسلامية، وفقاً للمدرسة الحنبلية، ليست "متطورة بالشكل الكافي" لتحديد الطبيعة القانونية للعمليات النفطية. كما أدلت، علاوة على ذلك، أنه في ضوء صلاته الدولية، يجب إخراج امتياز النفط من إطاره المحلي ودمجه في معاهدة دولية يحكمها القانون الدولي و"المبادئ العامة للقانون المعترف بها في الدول المتحضرة." في جوابها، صرحت الهيئة التحكيمية أن الشريعة الإسلامية لم تميز بين المعاهدة والعقد الخاضعين للقانون العام أو الإداري والعقد الخاضع للقانون المدني أو التجاري. إضافة الى ذلك، أشارت الهيئة التحكيمية الى أن مبدأ حرية التعاقد هو أحد القواعد الأساسية لقانون الموجبات في الإسلام، وأن المبدأ العام القائل بأن العقد شريعة المتعاقدين معترف به بالكامل في الإسلام. بالتالي، إعتبرت الهيئة التحكيمية أن القانون السعودي، أي الشريعة، واجب التطبيق في المبدأ واستندت إليه في تحديد خصائص امتياز النفط ومدى صحته وإلزاميته. وأدلت الهيئة التحكيمية عند تطبيقها هذا القانون، بالتالي:
لا يزال النظام القانوني للإمتيازات في بداياته في مدارس الفقه الإسلامي، بالرغم من كون مجمل المبادئ التي أرستها مختلف مدارس الفقه، كافية في حد ذاتها إذا ما اتخذت جهة ما مبادرة جمعها وتوحيدها في سبيل وضع أسس قانون النفط. لكن هذا الأمر يقع خارج صلاحية الهيئة التحكيمية التي تتمتع بدور قضائي وليس تشريعياً. علاوة على ذلك، لا يتضمن الفقه الحنبلي السائد في السعودية قواعد معينة تعرف إمتيازات استخراج المعادن بشكل عام وامتيازات التنقيب عن النفط بشكل خاص.
بالتالي، اعتبرت الهيئة التحكيمية أن القانون السعودي، باعتباره القانون الواجب التطبيق، ليس كافياً وقررت استكماله بغيره من مصادر القانون. أما القوانين التي حكمت حقوق وواجبات الأطراف في عقد الإمتياز، فهي حسب أولوية تطبيقها: 1- القانون السعودي وفق تعاليم الإمام إبن حنبل، 2- الأعراف الدولية المتعلقة بصناعة النفط وأيضاً، في حال لم يكن ذلك كافياً، المبادئ العامة للقانون، و3- القانون الدولي والمؤلفات الأكاديمية الدولية والإجتهاد.
في النهاية، أيدت الهيئة التحكيمية وجهة نظر ARAMCO. معتبرة أنها اكتسبت بموجب عقد الإمتياز حقوقاً لا يمكن للحكومة السعودية منحها لطرف ثالث. أما عدم رضى الحكومة السعودية عما آل إليه التحكيم لا يتعلق كثيراً بمسألة خسارتها القضية، كون عقد Onassis لم يكن في واقع الأمر مفيداً لها. بدلاً من ذلك، بالإمكان تفسير عدم رضى الحكومة السعودية بسبب مخاوف أكثر شمولا، مرتبطة بمدى قدرة واستعداد المحكمين الأجانب لتطبيق القانون السعودي على نزاعات متعلقة بثروتها الطبيعية الأكثر أهمية: النفط.
أصبح القانون السعودي، منذ صدور القرار التحكيمي في قضية ARAMCO، عدائياً تجاه التحكيم الحاصل خارج السعودية أو وفقا لقانون غير سعودي. تظهر ردة الفعل السعودية بنتيجة القضية إلى تردد الحكومة تجاه المحكمين الأجانب؛ ولا سيما قدرتهم على تفسير الشريعة وتمييزها عن مبادئ التحكيم التجاري الدولي الغربية. لذلك وبعدما أثارت قضية ARAMCO انتباهها، مررت الحكومة السعودية القرار رقم 58 الذي منعت بموجبه جميع الهيئات الحكومية من اللجوء الى التحكيم دون موافقة مجلس الوزراء المسبقة.66 تحديداً، منعت الهيئات الحكومية من: 1- تحديد أي قانون أجنبي لتنظيم علاقاتها مع الأطراف المتعاقدة؛ 2- القبول بالتحكيم أينما كان كوسيلة لحلّ النزاعات؛ 3- القبول باختصاص محكمة أجنبية أو غيرها من الهيئات القضائية. 67
رغم أن هذه السياسة لا تزال مطبقة اليوم، فقد وقعت السعودية منذ بدء العمل بها معاهدتين دوليتين ساهمتا في التخفيف من حدة الحظر القائم حول التحكيم. الأولى التي سمحت بالتحكيم كانت مؤسسة الاستثمار الخاص لما وراء البحار (OPIC). والثانية كانت المعاهدة الدولية بشأن منازعات الإستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى ( International Convention of Investment Disputes between States and Citizens of Another State - ICSID)، التي تنص على التحكيم بين المستثمرين والدول تحت رعاية البنك الدولي. لكن توقيع السعودية هذه المعاهدة لم يمر دون تحفظ. فقد ضمنتها الحكومة السعودية، بتأثر محتمل بقضية ARAMCO، بنداً ارتبط خصيصاً بالنزاعات حول النفط؛ تحديداً، "حفظ حق الحكومة بعدم إحالة المسائل المتصلة بالنفط وتلك المتصلة بأعمالها السيادية" للتحكيم أو التوفيق وفقاً للمعاهدة. كما أن إدراج بند تحكيم إكسيد لا يزال في حاجة الى موافقة مجلس الوزراء.
نصف قرن مضى على التحكيم في قضية ARAMCO ولا تزال القرارات التحكيمية الصادرة خارج السعودية تواجه صعوبة في تنفيذها داخل السعودية. في المبدأ، بالإمكان تنفيذ القرارات التحكيمية الأجنبية في السعودية. إذ أنه يتوجب أن تصدر القرارات التحكيمية الأجنبية في صورة حكم أجنبي، ومن ثم تكون موضع مراجعة من قبل الحكومة السعودية و/أو محكمة سعودية صاحبة صلاحية، يطبق فيها القانون السعودي على أساس النزاع، وربما تتم حتى مراجعة الوقائع، قبل السماح بالتنفيذ. ولا سيما أن المادتين 5 من معاهدة نيويورك و37 من معاهدة التعاون القضائي بين دول الجامعة العربية (معاهدة الرياض)، تنصان على الإعتراف بالقرارات التحكيمية وتنفيذها في الدول المضيفة، إلا في حال كان التنفيذ مخالفاً للنظام العام في هذه الدولة.72 فعادة ما كان يقوم الأطراف ببت النزاعات التجارية المنطوية على أطراف سعوديين والمقدمة أمام هيئات دولية، أو كانت تنتج منها قرارات تحكيمية تنفذ طوعياً أو جبرياً في دول خارج السعودية.73 ولم توضع قواعد شاملة للتحكيم التجاري في السعودية إلا في العام .1983
ب. قانون التحكيم السعودي للعام 1983:
شكل قانون التحكيم السعودي للعام 1983 (فيما يلي: قانون التحكيم) ولائحته التنفيذية للعام 1985 تطوراً مهماً في التحكيم في السعودية.74 وقد هدف قانون التحكيم إلى تحقيق غايتين للحكومة السعودية: 1- توفير مجموعة شاملة ومتجانسة من القواعد القانونية لرجال الأعمال الأجانب ومستشاريهم و 2- إنشاء رقابة حكومية ليس على الإجراءات التحكيمية بشكل عام فحسب، وإنما على الإجراءات التي تتخذها الهيئات الحكومية والمحاكم أو غرف التجارة والصناعة. إن هذه الرقابة المفروضة هي التي ميزت قانون التحكيم في السعودية عن غيرها من الدول التي قيدت التدخل القضائي في التحكيم.
75 لكن بعض جوانب قانون التحكيم الإجرائية أثارت قلق المعلقين الأجانب؛ تحديداً في ما يتعلق بقابلية التحكيم، ومؤهلات المحكمين، وصحة البند التعاقدي الذي ينص على إحالة النزاعات المستقبلية للتحكيم، ومدى وجوب تطبيق القانون السعودي على أساس النزاع، والأسباب التي يمكن أن تستند إليها الحكومة السعودية لفسخ أو رفض تنفيذ القرار التحكيمي.
76 في المبدأ، أي نزاع قابل للتحكيم إلا إذا كان "في حقل لا إمكانية للتسوية فيه، كالطلاق بسبب الزنا بالنسبة للزوجة ومخالفة النظام العام"77. بالنتيجة، لا يجوز التحكيم في النزاعـات المتعلقـة بالأحوال الشخصية، باستثناء النزاعات المتعلقة بالتداعيات المالية لحقوق المرء، مـثلا لا يمكـن التحكيم فيما إذا الشخص وريثاً أم لا، لكن يمكن ذلك فيما يتعلق بقيمة النفقة الزوجية.78 وفي هذا الإطار، نصت المادة 2 من قانون التحكيم على أنه "لا يقبل التحكيم في المسائل التـي لا يسمح التسوية فيها..." 79 هذه المسائل، وفقاً للائحة التنفيذية للعـام 1985، هـي الجـرائم الجزائيـة، والمسائل المرتبطة بالقانون العام والقانون الإداري والأحوال المدنية، التي يعـود الـى الدولـة صلاحية بتها، والمسائل المتعلقة بالإرث وبعض النزاعات الزوجية. كما أن تحديد قابلية التحكيم، وفقاً لقانون التحكيم، يشكل تحدياً كبيراً بالنسبة الى طرف النزاع الأجنبي غير المطلع على ما يعدّ من "النظام العام" وفقا للشريعة. لذا من الضروري إضافة عدد من التوجيهات التفسيرية كاللوائح التنفيذية أو ملحق لقانون التحكيم، لتأمين المزيد من الوضـوح والـضمانات لرجـال الأعمـال الأجانب.
أما من حيث تعيين المحكمين، إحدى النقاط التي أثارت قلق القانونيين الغربيين، نصت المادة 4 من قانون التحكيم أنه:
"يجب أن يكون المحكم شخصاً ذا خبرة وحسن التصرف ونزيهاً ومؤهلاً بالكامل. وقد جعلت اللائحة التنفيذية لعام 1985 هذه الأحكام أكثر دقة بعدما نصت أنه: 80m يجب أن يكون المحكم من الوطنيين أو الأجانب المسلمين من أصحاب المهن الحرة أو غيرهم ويجوز أن يكون من بين موظفي الدولة بعد موافقة الجهة التي يتبعها الموظف، وعند تعدد المحكمين يكون رئيسهم على دراية بالقواعد الشرعية والأنظمة التجارية والعرف والتقاليد السارية في المملكة.1
81 تساءل بعض المعلقين فيما إذا كانت هذه الشروط كافية أم إنه يتوجب على المحكمين التمتع بمؤهلات القاضي والمحكـم وفقـاً للشريعة، أي أن يكون: 1- ذكراً ، 2- مسلماً، 3- حكيماً، 4- حراً، 5- عادلاً، 6- ليس ضريراً أو أصماً أو أبكماً، 7- على دراية بالفقه.82 لكن السؤال هو حول مدى صمود هذه الشروط أمام سلطان إرادة الأطراف، ولا سيما أن أكثر ما يتميز به التحكيم التجاري الدولي هو حرية الأطراف في تعيين المحكمين. فلأسباب عملية، قد يعين الطرف الأجنبي المشترك في تحكيم ضد طرف سعودي، محكماً، وربما مستشاراً أيضاً، على دراية بالقانون السعودي بشكل خاص والشريعة بشكل عام. لكن هذا المنطق لا يبرر وجوب أن يكون المحكم مسلماً أو ذكراً. فشرط أن يكون المحكم مسلماً لا يضمن درايته بالمسائل الفقهية، كما أن شرط كونه ذكراً لا يضمن أن يكون حكيماً أو عادلاً.
هناك أيضاً مسألة إلزام الطرف غير المتعاون باللجوء الى التحكيم. ففي حين يعترف قانون التحكيم بصحة البند التعاقدي الذي يحيل النزاعات المستقبلية الى التحكيم، إلا أنه لم ينص صراحة على كيفية إلزام الطرف غير المتعاون بتنفيذ هذا البند عند نشوء النزاع. فقد نصت المادة 1 من قانون التحكيم على نوعين من الإتفاقات التحكيمية: الإتفاق على التحكيم بعد نشوء النزاع، أو مسبقاً، لحل أي نزاع متأت عن تنفيذ إتفاق معين.83 أما في حال إتفاق الأطراف على التحكيم مسبقا في العقد، لم يحدد قانون التحكيم الإجراءات التي يجب اتخاذها إذا ما رفض أحد الأطراف التعاون بعد نشوء النزاع فعليا.
على سبيل المثال، بإمكان المحاكم في لبنان إلزام أحد الأطراف توقيع إتفاق لاحق للنزاع، وفي حالة الرفض، تصدر حكماً في الأساس لصالح الطرف الآخر.84 إلا أن قانون التحكيم لم ينص على آلية مماثلة لتنفيذ البنود التحكيمية. بدلا من ذلك، ساهم في مزيد من الإرتباك بنصه على إصدار حكم غيابي في حق من تخلف عن حضور جلسة الإستماع الأولى "ما دام كل من الأطراف قدم بيان الدعوى والدفاعات والمستندات"85. كما لم ينص قانون التحكيم على إمكانية إصدار حكم غيابي في حال تخلف أحد الأطراف عن حضور جلسة الإستماع الأولى دون تقديم المستندات المذكورة أعلاه.
أما من حيث مدى وجوب تطبيق القانون السعودي على أساس النزاع، الذي شكل نقطة ارتباك أخرى بالنسبة الى الفقهاء الغربيين. فقد تضمن كل من قانون التحكيم واللائحة التنفيذية عدداً من الأحكام التي ضمنت التزام المحكمين بالشريعة والقوانين السعودية الواجبة التطبيق. منها المادة 20 من قانون التحكيم التي نصت على وجوب إصدار المحكمين قرارات تحكيمية، "لا يحول أي شيء دون تنفيذها من وجهة نظر الشريعة."87 وقد صرح بعض رجال القانون أنه بإمكان تطبيق المبادئ القانونية الأجنبية طالما لا تخالف النظام العام السعودي كما تنص عليه الشريعة.% لكن ما الذي يعد من "النظام العام" هو ليس مسألة خالية من التعقيد. ولا سيما أن مثل هذه المسائل الأولية المتعلقة باختصاص الهيئة التحكيمية تؤدي، وفق المادة 37 من اللائحة التنفيذية، إلى تعليق الإجراءات وتأجيل إصدار قرار نهائي في النزاع من قبل "الجهة المختصة".89 الأمر الذي يمكن استخدامه كتكتيك لإطالة أمد الإجراءات وتفاقم المصاريف.
أما المسألة التي أثارت قلقاً كبيراً، والتي تعتبر من أبرز سمات قانون التحكيم السعودي، هي أن هذا القانون لم يحدد الأسباب التي يمكن أن تستند إليها الحكومة السعودية لفسخ أو رفض تنفيذ القرار التحكيمي. أما المرجع الوحيد حول هذه المسألة، فنجده في المادة 20 التي، كما سبق وأشرنا، نصت على وجوب عدم احتواء القرار التحكيمي على "ما يحول دون تنفيذه من وجهة نظر الشريعة. لكن بإمكان رجال القانون صياغة عدة تفسيرات لعبارة "وجهة نظر الشريعة". الأمر الذي لا يبدو أنه يمنح رجال الأعمال الثقة حول الطبيعة النهائية والملزمة للقرار التحكيمي. وكما هو مذكور أعلاه، الرقابة القضائية المحدودة على تنفيذ القرارات التحكيمية، هي إحدى أهم سمات معظم قوانين ومعاهدات التحكيم التجاري الدولي. على سبيل المثال، أوصت محاكم الولايات المتحدة الأمريكية تكراراً، بوجوب التفسير الضيق لأسباب فسخ أو عدم تنفيذ القرارات التحكيمية، المحددة حصراً في قانون التحكيم الفدرالي (FAA). وأخيراً، قضت المحكمة العليا في القضية البالغة الأثر بين Hall Street Associates و Mattel بعدم صحة البنود العقدية التي توسع الرقابة القضائية على القرارات التحكيمية.91 في المقابل، لا يوجد في قانون التحكيم أو اللائحة التنفيذية ما يقيد رقابة السلطة القضائية السعودية. 90m
إعتبارات لإصلاح قانون التحكيم السعودي:
بهدف تطوير قواعد جديدة للتحكيم والتوفيق في النزاعات التجارية، يجب أن يبحث صناع القرار السعوديون في كيفية تأمين متطلبات المجتمع التجاري الغربي دون المساس بنزاهة التقاليد القانونية الإسلامية. والمهمة التي تواجه الحكومة السعودية في هذا المجال، هي في منح المجتمع التجاري الغربي الثقة بإمكانية بت النزاعات بشكل عادل ومتوقع وبموجب قواعد مألوفة، دون الإنحراف بعيداً عن قواعد الشريعة التي حكمت تاريخياً التحكيم. وإضافة الى مسألة تعديل بعض أحكام قانون التحكيم المشار إليها سابقاً، توجد مجموعة من الإعتبارات يجب أن تأخذها الحكومة السعودية في الحسبان عند مباشرتها الإصلاح؛ تحديدا، تطوير مفهوم التحكيم بالعدل والإنصاف، والإعتراف بمرونة الشريعة، والمحافظة على نزاهة الشريعة من خلال فرض استثناء على النظام العام.
الصلح، الذي يبدو أنه يشارك مفهوم القانون الروماني حول التحكيم بالعدل والإنصاف، هو مؤسسة إسلامية بدون شك ووسيلة حل النزاعات المفضلة لدى الرسول.94 وهو وهو أيضاً، وفق المادة 1850 من مجلة الأحكام العدلية، دليل على التضامن بين المسلمين، واحترام للواجب الديني بالعيش في سلام بين أعضاء المجتمع.5% وكان يجري الصلح، إما من خلال تسوية مباشرة بين الأطراف، وإما من خلال تدخل طرف ثالث ذي سلطة تخوله حل الخلافات وفرض تنازلات. وقد نص قانون التحكيم على الصلح، إنما ميزه عن التحكيم بوجوب إصدار جميع القرارات بالإجماع. * فيما جميع القواعد الأخرى التي تسري على التحكيم تسري كذلك الأمر على الصلح؛ كوجوب أن يكون عدد المحكمين وتراً، ووجوب تعليل القرار التحكيمي، وعدم عزل المحكم إلا باتفاق مشترك، وإمكانية استئناف القرار التحكيمي.98 والعلامة على تقدم التحكيم بالعدل والإنصاف، إحتضانه مفهوم الصلح حول مكرمة الدين. فلا بد للقرار الصادر في التحكيم بالعدل والإنصاف أن يؤدي الى حل، كان بإمكان الأطراف بلوغه لو قدموا تنازلات مجتنبين منح كل شيء لأحدهم دون الآخر. لكن يجب أن يتنبه رجال الأعمال الغربيين الى أن التحكيم بالعدل والإنصاف، رغم أنه يحول دون تحقيق ربح غير متوقع، إلا إنه يحافظ على التقليد القانوني الإسلامي باعتباره وسيلة حل النزاعات الأقل إثارة للجدل بالتالي، يعد التحكيم بالعدل والإنصاف وسيلة "لتدوير زوايا" التحكيم وجعله أقرب للصلح. 101 لكن رغم التصاق الصلح بالتقليد الديني، إلا إنه لا يشكل الحل الأمثل لجميع القضايا. على سبيل المثال، عندما يتصرف أحد الأطراف بسوء نية، يكون من غير المحتمل اللجوء الى الصلح الذي لن ينتج منه سوى تأخير بت النزاع. فالفكرة هي في وجوب تقديم التحكيم بالعدل والإنصاف كوسيلة حيوية بمتناول الأطراف في سعيهم للمحافظة على علاقات تجارية إيجابية ومستمرة في السعودية.
المسألة الأخرى التي يجب أن تأخذها الحكومة السعودية في الإعتبار عند إصلاح نظامها التحكيمي، فهي تفسير الشريعة بشكل يعكس اجتهادات التحكيم التجاري الدولي الحديثة. خصوصاً لما تتمتع به الشريعة من حيوية وحرية لإصلاح و/أو تفسير قواعد الفقه، وفقاً لتغير الظروف، في ضوء الإجتهاد الذي هو "مبدأ الحركة في بنية الاسلام"، وفق قول محمد إقبال، والمنصوص عليه في القرآن الكريم والسنة.104 ولا سيما أن أغلبية المفاهيم القرآنية هي أعراف أخلاقية عامة، تحتمل العديد من التأويلات، بحسب الظروف المتجددة، بحيث يمكن دائما البناء على الأساس. لكن الدفع في اتجاه توحيد التحكيم الدولي يشكل ضغطاً جدياً على المنطقة حيث يعد التحكيم جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية والتقليد القانوني. فالتحكيم، كما هو مطبق في الغرب، ينظر إليه كمؤسسة تثير الريبة كونه يهدد رقابة الحكومة السعودية على وتيرة التغيير، بمعنى آخر، على محافظة الحكومة السعودية على إستقرارها السياسي. وقد أعاد التاريخ نفسه حول هذا الأمر: كما تداعى قانون المدينة (المنورة) تحت وطأة ظروف الحداثة، كذلك فعل الغرب بالدفع في اتجاه تغيير الشريعة. 103 102 106 105
من ناحية أخرى، وبموازاة ذلك، هناك إتجاه بإبقاء الشريعة على حالها باعتبارها مسألة من النظام العام. تبعاً لهذا الإتجاه، من الأسلم إبقاء الشريعة جانباً دون التدخل فيها والمساومة على نزاهتها. كما يتوجب احترام مبادىء الشريعة الأساسية، تماماً كما تُحترم في المبدأ أحكام القانون الإلزامية خلال مسار التحكيم في التقليد الغربي. وبعيداً عن التحكيم، سعت المواثيق الدولية، كالعهد الدولي حول الحقوق المدنية والسياسية (ICCPR)، إلى منح الأفراد كامل الحرية في ممارسة معتقداتهم. لذا بإمكان تفسير مخالفة الشريعة في دولة إسلامية على إنها منع من ممارسة المعتقد الديني، ناهيك عن مخالفة القانون. الأمر الذي يمكن البناء عليه لتأسيس مخالفة النظام العام على عدة أسباب. فقد نصت المادة 5 من إتفاقية نيويورك على رفض المحاكم تنفيذ القرارات التحكيمية في حال "خالف القرار التحكيمي النظام العام في الدولة الطرف المطلوب تنفيذ القرار فيها.' إلا أن بعض رجال القانون أدلوا أنه من الأفضل اعتبار النظام العام المذكور نظاماً عاماً دولياً، وليس داخلياً.109 في المقابل، لم يعترف بعضهم الآخر بالمعيار الدولي للنظام العام. فالدول التي تعتمد النظام القانوني الأنغلوساكسوني، من ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية، بالرغم من تقييدها نطاق النظام العام، لم تعتنق مفهوم النظام العام عبر الدول. وتجدر الإشارة إلى أن ديوان المظالم قد فعل إستثناء النظام العام المنصوص عليه في المادة 5 من إتفاقية نيويورك لرفض تنفيذ قرار تحكيمي أجنبي متعارض مع الشريعة الإسلامية المطبقة في السعودية. فالقرارات التحكيمية التي فقط تساير الشريعة ستكون على أغلب الظن عرضة للردّ من قبل السلطات القضائية.112 كما أن القانون دائماً ما يكون متجذراً في المجتمع، لذا في كل مرة يستورد فيها قانون غريب لا صلة له بمحيطه لن يكتب له الازدهار. 108H 107 111
الخلاصة: "أنا لست إلا رجلاً، وعندما تأتون إلي طالبين فصل موضوع ما، من الممكن أن يكون أحدكما أكثر بلاغة من الآخر في دفاعه عن قضيته، وبالنتيجة أحكم لصالحه بناء على خطابه.وإذا حدث ذلك ومنحت أحدكما شيئاً يعود الى الطرف الآخر، من الأفضل أن لا يأخذه، إذ أنني بذلك أكون قد أعطيته قطعة من جهنم.
113 H بالرغم مما جاء في التقليد حول تلقي المحكمين الوحي الإلهي، إلا إننا ننظر إليهم في عصرنا الحالي على أنهم بشر ويرتكبون الأخطاء. يتناول الحديث أعلاه جانبين مهمين من الشريعة الإسلامية: فهو يؤكد على عدم عصمة الأحكام البشرية عند مقارنتها بالمعايير الإلهية، كما يُحذر المؤمنين من التصرف بما يخالف ضمائرهم. 114 أما مشكلة الفقة الإسلامي اليوم، فهي في كيفية التوفيق بين التفويض الإلهي والقوى التي تفعل المجتمع. "فلا بد للقانون أن يعكس روح المجتمع إذا ما أريد له أن يكون مصدراً للحياة."115 لذا تنتظر الحكومة السعودية مهمة مرهقة في ضوء الظروف الراهنة التي تتطلب درجة معينة من التغيير. أما كيفية حصول هذا التغيير، فمن المتوقع أن يتم، إما عبر التحكيم بالعدل والإنصاف، أو إعادة تفسير الشريعة، أو المحافظة على النظام العام المبهم.