التحكيم / المرحلة الأولى: التحكيم خلال القرن التاسع عشر / رسائل الدكتوراة والماجسيتير / التحكيم في منازعات الدولة في ضوء القانون المصري للتحكيم / التحكيم في القانون المصري الحديث
تناول المشرع المصري منذ عشرات السنين أمر التحكيم بالتنظيم الكامل في قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالأمر العالي المؤرخ 13 نوفمبر 1983م، حيث أفرد هذا القانون الفصل السادس من الباب العاشر للتنظيم الخاص بالتحكيم، جاعلًا عنوان هذا الفصل (في تحكيم المحكمين).
وقد وقعت الأحكام التفصيلية لهذا الفصل في 26 مادة -هي المواد من 702 إلى 727 - وحملت تنظيماً قانونياً متكاملاً ومتطوراً للتحكيم، حيث جعلت الأمر فيه تعاقدياً مرهوناً بإرادة المتعاقدين، و استلزم ثبوت مشارطة التحكيم بالكتابة، كما حددت آجالاً لإنهاء إجراءات التحكيم، ورسمت الطريق لتعيين محكم عن الطرف الذي يتقاعس عن تعيين محكم، ثم بينت كيفية الطعن على أحكام المحكمين، وقد ظل هذا التنظيم القانوني هو النافذ في مسائل التحكيم، حتى ألغي قانون المرافعات القديم وحل محله قانون المرافعات المدنية والتجارية رقم 1949/77م، الذي عالج مسائل التحكيم في الباب الثالث من الكتاب الثالث تنظيماً أوفى عما كان عليه الحال في التنظيم القديم حيث احتوى هذا الباب المواد 818 إلى 850.
وبالرغم من موافقة التنظيم القانوني المتقدم للتحكيم كطريق ميسر لفض المنازعات منذ عام 1883م إلا أنه طوال الفترة الممتدة منذ ذلك التاريخ حتى صدور قانون المرافعات التالي عام 1949م بل وإلى ما بعد هذا التاريخ بسنوات لم يحظ التحكيم على مستوى الواقع الفعلي بأهمية تذكر، وظل اللجوء إلى القضاء هو الطريق المهيمن في تسوية المنازعات، فقد كان النشاط الاقتصادي في مصر محصوراً في المجال الزراعي ثم جاء النشاط الاقتصادي منذ الثلاثينيات وليداً ثم متتابعاً في نمو دون أن يبلغ مرحلة تشكيل الكيانات الاقتصادية الصناعية الكبيرة، وترجمة ذلك نوعية المنازعات القضائية ذات الطبيعة الاقتصادية، وظهرت المنازعات العقارية بفروعها المختلفة وفي وقت لاحق بدأت تبزغ المنازعات العمالية، فكان بديهياً أن ينحصر اللجوء إلى التحكيم لفض المنازعات لعدم توافر الظرف الموضوعي الذي يدفع إلى هذا الطريق برغم توافر تنظيم قانوني لطرق هذا السبيل، وشهدت الحياة الاقتصادية في مصر خلال حقبة الخمسينيات تغييرات ملحوظة في إعادة توزيع الأهمية النسبية لكل نشاط وفي توجيهات الاستثمار في الأنشطة المختلفة، ففي مقابل تقلص الاستثمار الزراعي زاد الاستثمار الصناعي والعقاري زيادات اتخذت طابع الطفرة.
كماتعاقبت الزيادة في النشاط التجاري، بيد أنه قبل أن تتبلور أية ضرورة موضوعية للجوء إلى التحكيم كوسيلة سريعة وناجحة لفض المنازعات، صدرت قوانين التأميم عام 1961م ونشأ القطاع العام ليستوعب جميع الأنشطة الاقتصادية ذات الأهمية فانعدمت الحاجة إلى التنظيم القانوني للتحكيم القائم على حرية المتعاقدين في اللجوء إليه، وبرزت حاجة جديدة ومختلفة تماماً، هي الحاجة إلى فض المنازعات بين وحدات القطاع العام عن طريق التحكيم، على أساس فلسفة مختلفة كلية، قوامها أنه طالما كانت هذه الوحدات مملوكة ملكية عامة وهي في النهاية روافد لذمة مالية واحدة فمن الأجدر حل المنازعات التي تنشأ بينها بالتحكيم.
وهكذا نشأ في مصر ما يعرف بالتحكيم الإجباري، وهو طريق نظمته القوانين المتعاقبة التي وضعت التنظيم القانوني لهيئات وشركات القطاع العام وكان أخرها القانون رقم 1983/97م، وقام هذا النظام على اختصاص هيئات التحكيم التي يصدر بتشكيلها قرار من وزير العدل، والتي يرأسها أحد المستشارين وتضم في عضويتها محكم من كل طرف من أطراف النزاع، واختصت هذه الهيئات بالحكم في المنازعات التي تنشأ بين الهيئات العامة أوالجهات الحكومية أوشركات العام وبعضها وانعكس هذا الوضع كله على المشرع عندما وضع قانون المرافعات المدنية والتجارية رقم 1968/13م، حيث نجده قد استشعر تضاؤل أهمية التحكيم التجاري إلى أقصى حد فلم يتناوله إلا في المواد من 501 إلى 513 في تنظيم أدنى بمراحل من التنظيم الذي أوردته قوانين المرافعات السابقة، سواء الصادر عام 1883م أو الصادر عام 1949م.
وقد جاء القانون منظماً الأحكام الخاصة بالتحكيم سواء كان داخلياً أو دولياً وسواء كان التحكيم تجاري أوغير تجاري، وينفرد هذا القانون بتنظيم يندر أن نجده في القانون المقارن، حيث يضم التحكيم الداخلي والدولي في تنظيم واحد، وقد توسع قانون التحكيم المصري في نطاق تطبيقه، حيث يسرى على أشخاص القانون الخاص والعام وكل تحكيم يجري في مصر ليجابه مشاكل العصر بلغة العصر.