1- «القول الجلي في شرح دربة أولاد علي» هو العنوان الذي اختاره العلامة الشيخ عثمـان سعيد أبو الزعالة البرهومي لكتابه في شرح النظام القانوني لقبائل أولاد علـي المـسمى (الدربة أو الدربة). وهذه التسمية مشتقة من الدرب الذي هو المـدخل بـين جبلين، أو الطريق المؤدي إلى ظاهر البلد، ويجمع على ذروب، هذا هو معناها اللغوي'. وفي اللغة أيضا تدرب على الشيء أصبح عالما به، ويستعملها العرب من قبائل أبناء علـى بمعنـى الطريق الواحد الذي يسير فيه الجميع، فإذا أرادوا معناها القـانونـي فـإنهم يعنـون بـهـا «مجموع المواد العرفية الحاكمة بين القبائل العربية القاطنة في كل من صـحراء مـصر الغربية، والقبائل العربية في برقة بليبيا»
2 - وأولاد علي هم أكبر القبائل العربية في مصر، إذ يزيد عددهم علـى مليـونـي شـخص. وهم ينتسبون إلى جدهم علي الأكبر بن عقار الشريف محمد أبو الليل الملقب أبو الليل الملقب بـ: الـذيب أبو الليل. وينقسمون مع هذا الانتساب إلى قسمين كبيرين: أبناء علـي الأبـيض وأبنـاء علي الأحمر، وكلاهما ولد بعد وفاة أبيه، من زوجتين مختلفتين، ولقب كل منهمـا بلقبـه (الأبيض/ الأحمر) للتمييز بينهما. وينتسب إلى هذا الجد نفسه القبائل المعروفـة بقبائـل (السننة) أولاد الابن الأكبر لعلي بن عقار وهو أبو سنينة الذي توفي أبوه وهو ابن عـشر سنين.
3- وقد هاجرت هذه القبائل إلى مصر في أوائل القرن التاسع الهجري، بعد نزاع مسلح بينهـا وبين إخوانها الحرابي (حرب) إذ كانت تقطن معا في أرض الجبل الأخضر بليبيا"، وانتهى هذا النزاع بانتصار الحرابي، مما اضطر أبناء علي إلى النزوح إلى مصر.
4- وينتشر أولاد علي في الصحراء الغربية لمصر، وبخاصة في الساحل الشمالي بـدءا مـن غربي الإسكندرية حتى هضبة السلوم على الحدود المصرية الليبية، وتقطن عشائر مـنهم محافظات البحيرة والغربية والدقهلية والمنوفية والشرقية والفيوم وبنـي سـويف وسـيناء وسيوة، غير أن المركز الرئيسي لقبائل أولاد علي هو محافظة مرسى مطروح. 5- ولأولاد علي ذكر في كثير من كتب التاريخ، وكتب وصف مصر من الناحيتين الجغرافية والاجتماعية: فذكرهم الجبرتي في تأريخه (عجائب الآثار) في مواضـع عديـدة منـه وذكرهم علماء الحملة الفرنسية في (وصف مصر)11 وذكرهم علي باشـا مبـارك فـي (الخطط التوفيقية الجديدة)12. وفي هذه المواضع كلها تُروى وقائع لـشيوخ هـذه القبائـل ولعشائر منها، مع الحكام المصريين، لا يخلو بعضها من قتـال بـهـدف الـسيطرة علـى الأرض واتخاذها مقاما لهم.
6- وعلى الرغم من كون هذه القبائل – في الأصل – هي من البدو الرحل الذين ينتقلون وراء المرعى الخصيب ومصادر المياه، فإنهم كونوا في أماكن استقرارهم مجتمعات ذات نظـام خاص يحكم علاقاتهم بعضهم ببعض، وتطور النظام العرفي العفوي إلى قانون يحتكمـون إليه في تنظيم حياتهم، وفض ما ينشأ بينهم من منازعات هو (دربـة أولاد علـي وهـي تتضمن أحكاما لجميع أنواع المنازعات، بصرف النظر عن فرع القانون الـذي تـصنف المنازعة ضمنه، فالعقود المدنية والتجارية، وحقوق العمال، وملكية الأرض والإبل والخيل والأغنام، ومسائل الأحوال الشخصية، وقضايا العدوان على الأنفس بالقتل وما دونه مـن جراح، وقضايا السرقة والقذف والزنا، وأحكام التنظيم القبلي، وقواعد الإثبات، وغيرهـا، كلها تتضمن النصوص المنظمة لها (دربة أولاد علي). وهي تطبق على أبناء هذه القبائـل أينما كان مكان إقامتهم أو توطنهم، وتنطبق أيضاً على أبنـاء قبائـل الحرابـي (حـرب) الموجودين بصفة أساسية في منطقة الجبل الأخضر بليبيا، وقبائل الجبارنـة وهـم أبنـاء برغوث الأكبر بن محمد أبو الليل، وقبائل السلالمة أبناء سلام بن الذيب أبو الليل، أي أبناء عمومتهم. وتسري قواعد الدربة على القبائل الصغيرة المتحالفة مـع قبائـل أولاد علـي المختلفة تحت نظام (الخوت) أو (المؤاخاة) المستمد من نظام الولاء والحلف الـذي كـان معمولاً به في المجتمع العربي قديما ثم أقره الإسلام .
ولم أجد، فيما اطلعت عليه، كتابا يتضمن بيانا وشرحا للقانون الذي اتخذته القبائل المذكورة أداة لتنظيم حياتها قبل أن يصدر كتاب (القول الجلي). كما لم أجد في ما كتب عن التحكيم في مصر أي دراسة عن التحكيم كما يمارس بين أبناء هذه القبائل. لذلك كان من فـرض الكفاية أن أحاول عرض ما يتعلق بنظام التحكيم عندهم على المشتغلين بـه فـي مـصر والعالم العربي: تبييناً له، وإظهاراً لقيمته وتأكيداً لصلاحيته للتطبيق حتى يومنا هذا.
7- وقد أقرت التربة، وأصبحت قانوناً معمولاً به بين قبائل أولاد علي، وإخوانهم من قبائـل الحرابي (حرب) منذ أوائل النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، وتحديدا فـي سنة 1653م= 1064هـ، ففي هذا التاريخ «اجتمع كبار عواقل قبائل أولاد علي في مكان يسمى (الحقفة)، في منطقة (البطنان) بليبيا، ودام اجتماعهم نحوا من ستة شهور للخـروج بقانون ينظم الحياة بين أفراد هذه القبائل». ويبدو أن اتفاق هؤلاء كان اتفاقا على المبادئ التي تتضمنها (الدربة) أما الصياغة النهائية لها فقد كلفت بها لجنة من عشرين عضو قبائل أولاد علي المختلفة، رشحهم العواقل للمشاركة في تدوين الأعراف التي كانت متبعة بين تلك القبائل نحوا من قرن كامل قبل انعقاد اللجنة المذكورة، وصيغت التربة بمعرفـة هذه اللجنة، ثم عرضت نصوصها على فقيه مالكي لقب بـ (مقرر الدربة)، هو الشيخ عمر حسن الحبوني، من قبيلة بني مشيش الأشراف، وكان انتداب هذا الفقيه لذلك الغرض مـن قبل شیخ جامع الزيتونة في تونس، للتحقق من اتفاق نصوص (الدربة) مع أحكام الشريعة الإسلامية، وفق مذهب الإمام مالك الذي تتبعه قبائل أولاد علي .
8- ويقول الشيخ عثمان البرهومي إن التربة مبنية على الأعراف التي جاءت بها قبائل بنـي سليم، وبني هلال من نجد العربية، تم إقرارها واختيار ما يناسب العصر عند صياغتها، وانتقلت مع أولاد علي إلى مصر، وظلت حية معمولاً بها إلى اليوم.
9- وعند إنشاء المحاكم العسكرية الحدودية لم يتوقف تطبيق الدربة، بل أنشئت المحاكم البدوية التي كان قانونها هو دربة أولاد علي كي تكون الأحكام مقبولة عند القبائل ويتم تنفيذها بلا مشکلات. وعلى الرغم من تطبيق نظام الإدارة المحلية في محافظة مطـروح منـذ سـنة 1961، وإنشاء محاكم مدنية وجنائية تابعة للسلطة القضائية فإن مناطق البدو يجري فيهـا القضاء بين المواطنين على أساس (دربة أولاد علي) على يد القضاة العرفيين الذين يتقبل المتنازعون أحكامهم وينفذونها عن طيب خاطر.
10- وتنقسم التربة إلى فصول يسمى كل منها (دربة كذا). فهناك دربـة الـصناعة، ودربـة العمال، ودربة شؤون النساء، ودربة الدعوى والبينات، ودربة التحكيم وغيرهـا، والـذي يعنينا النظر فيه هنا هو دربة التحكيم التي هي بمثابة قانونه المطبق بين قبائل أولاد علـي والحرابي وغيرهم من أبناء عمومتهم.
11- ويجب ملاحظة أن قانون التحكيم عند بدو أولاد علي الذي عمل به اعتبـاراً مـن سـنة 1653م، هو أقدم قانون للتحكيم في العـالم. ذلك أن أول قانون للتحكـيم تعرفـه الـنظم القانونية المعاصرة هو قانون التحكيم الإنجليزي الصادر سـنة 1697م". فالفـارق بـين (دربة التحكيم) وبين أول قانون صدر لتنظيمه في دولة أوروبية هو نحـو مـن أربعـة وأربعين عاما سبقت بها الدربة القانون الإنجليزي من حيث التدوين والإصدار لا من حيث التطبيق، فإن الدربة كانت مطبقة باعتبارها عرفا لقبائل أولاد علي قبل ذلك بنحو مائة عام أو تزيد.
12- تقرر الدربة أن التحكيم فرع من القضاء يختلف عنه في آلية الإجراءات والتنفيذ. فالمحكم يستمد ولايته ومشروعية عمله من إرادة المتحاكمين القابلين بحكمه على أسـاس قاعـدة شرعية وقانونية وعرفية يحددها الخصوم للمحكم للفصل في النزاع على أساسها، ويلتـزم الطرفان الحكم الصادر من المحكمين مطبقا لها.
13- والتعبير عن التحكيم بأنه فرع من القضاء يراد به أنه يقوم بذات الوظيفة التي يقـوم بـهـا القضاء، وهي الفصل في المنازعات. وكونه يختلف عن القضاء في الإجراءات والتنفيـذ نتيجة لازمة لاستقلال المتنازعين بالاتفاق على اللجوء إليه بديلاً من المحاكم – العرفية أو الرسمية – واختيارهم المحكمين الذين يفصلون في النزاع بينهم.
14- والمقرر في الفكر القانوني المعاصر أن «التحكيم طريق استثنائي لفض المنازعات قوامـه الخروج عن طرق التقاضي العادية وتخويل الأطراف سلطة اللجوء لفضتها إلى هيئة تحكيم يختارونها باتفاقهم، ويقررون القواعد التي تطبقها بإرادتهم» .
15- وباستعراض المسائل التي يجوز فيها التحكيم وفق دربة أولاد علي يتبين أن التحكيم لا يجوز إلا في ما يجوز فيه الصلح، وهي القاعدة المقررة في التشريعات الحديثة بغير خلاف.
16- وما يسمى في نظم التحكيم الحديثة "جلسات التحكيم"، تسميه التربـة الميعـاد، أو ميعـاد العرب، أو حق العرب، أو جلسة العرب، وهذه الأسماء كلها تنطبق على مسمى واحد هو (جلسة التحكيم). وتطلق الدربة على المحكمين أسماء: أعضاء لجنة التحكيم، أو المحكمين، أو المرضيين، أي الذين يرضى بهم الخصوم للفصل في منازعاتهم. وتنعقد هيئة التحكـيم حسب طلب الخصمين، أو أحدهما، في الموعد والمكان المتفق عليهما لمباشرة التحكيم وفق أحكام التربة وما يكملها من أعراف مستقرة بين قبائل أولاد علي. ولا يكون اجتماع الهيئة صحيحا إلا بحضور أعضائها جميعا23. ولفظ الميعاد يعني وقتا ومكانا، بمعنى أن تنعقـد هيئة التحكيم في الزمان والمكان المحددين لذلك، وتنصرف الكلمة (الميعاد) كذلك إلى هيئة التحكيم والخصوم وموضوع التحكيم، فيقال: حضر في الميعاد، وقال في الميعاد، واستمع له الميعاد، وحكم عليه الميعاد، وهكذا.
17- ويسمى المحكم (المرضي) وهذا الاسم مشتق من قولهم رضـيـت الـشيئ ورضــت بـه ورضيت عنه، أي اخترته وقبلته، وسمي المحكم بذلك، سواء أكان فردا أم هيئة، لرضـا الخصوم به وثقتهم في عدله وقبولهم حكمه عندما يفصل بينهم. والمرضي أسـم المحكـم الواحد، ويجمع – في لهجة أولاد علي - على (المراضي)25 لوصف هيئة التحكيم.
18- ويشترط في المرضي، أو المحكم، أن يكون «ذكرا بالغا مسلما عاقلاً عدلاً وأن يكون عالماً بما يحكم به في القضية المطروحة عليه»، ويجوز «أن يكون المحكم أميا لا يقرأ ولا يكتب فعدم العلم بالقراءة والكتابة ليس بقادح في حكم المحكـم، لأن فهـم الأمـور بالممارسـة والحكمة... وقد يجبر هذا النقص بأن يتخذ نائبا يكتب له ما أسفر عنه حكم التحكيم، ويقرأ له آيات الأحكام»، والمستندات المكتوبة التي قد يقدمها أطراف الخـصومة التحكيميـة. ويغني عن معرفة المحكم بالقراءة والكتابة اتخاذه، أو اتخاذ هيئة التحكيم، أمينا للسر يحرر المحاضر والحكم ويسلم نسخاً منها للأطراف.
19- فأما اشتراط الذكورة في المحكم فهو الذي كان متعارفا عليه في تشريعات عدة، وقد ظـل تحكيم المرأة محل خلاف في فرنسا إلى وقت غير بعيد. وكان التشريع اليوناني يمنع تتولى المرأة مهمة التحكيم إلى أن عدل المشرع اليوناني عن هذا الحكـم سـنة 1973 وأما اشتراط الإسلام في المحكم فهو نتيجة طبيعية لكون الدربة تطبق علـى قبائـل أولاد علي، وهي قبائل يجمعها – إلى أمور أخرى – أن أبناءها جميعاً يدينون بالإسلام؛ فحقيقة الشرط هنا هي أن يكون المحكم من هذه القبائل نفسها. وقد كانت اللائحة التنفيذية لنظـام التحكيم السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/46) بتاريخ 1403/7/12 تتضمن نصا على أن يكون المحكم، من غير مواطني المملكة العربية السعودية، مسلما [المادة الثالثة من اللائحة المذكورة]. وقد صدر نظام جديد للتحكيم في المملكة العربية السعودية بـرقم (م/34) لسنة 1433هـ بتاريخ 1433/5/24هـ (=2012/4/16) مشترطا في المحكم أن يكون حاصلاً على شهادة جامعية في العلوم الشرعية أو النظامية (=القانونية) فإذا كانـت الهيئة مكونة من أكثر من محكم يكتفى بتوافر ذلك في رئيسها. ولم تصدر بعد اللائحـة التنفيذية لهذا النظام الجديد ليتبين ما إذا كان سيرد فيها مثل ذلك الشرط أم لا، ولاسيما في ظل الانفتاح الاقتصادي والسياسي الذي بدأته المملكة منذ إقرار خطة 2030. أمـا عـن تحكيم المرأة فقد عينت أول محكمة في المملكة – في تحكيم تجاري – في 1437 الموافق لشهر مايو 2016م، وهي السيدة شيماء الجبران.
20- والذي تجري عليه جمهرة قوانين التحكيم الحديثة أنه يجوز تحكيم الرجل والمرأة، ويجوز تحكيم الوطني والأجنبي، وأنه لا شأن لدين المحكم بتوليته التحكيم، فيجوز أن يكون المحكم مسلما أو غير مسلم، ويجوز أن يكون غير ذي ديانة سماوية، أو غير معتنق ديانة علـى الإطلاق.
21- ولا ينال من صلاحية الأحكام المنظمة للتحكيم في دربة أولاد علي، ولا مـن ملاءمتهـا للعصر أنها تختلف في بعض تفصيلاتها عن النظم الحديثة للتحكيم. ذلك أن العبرة بقـدرة التنظيم القانوني على تحقيق العدالة بين الخاضعين له، وبقبولهم إيـاه ونـزولهم علـى أحكامه. ولكل نظام قانوني خصوصياته التي تمليها الظروف الاجتماعية التي يطبق فيها، والمصادر التاريخية التي يستمد منها، والحال السياسية التي يصدر في ظلهـا، ونـوع السلطة التي تفرضه على المجتمع وتضمن تنفيذه، وغير ذلك مما يتأثر به نظام قـانـوني دون آخر.
22- ولا مراء في أن استمرار تطبيق الدربة – بما في ذلك تنظيم التحكيم فيها – لمدة تقرب من أربعة قرون، دليل لا يقبل نقضا، على صلاحية أحكامها لتنظيم حياة القبائل التي تتخـذها قانوناً لها، وتنزل على أحكامها الموضوعية والإجرائية دون خلاف أو اعتراض يـستحق الذكر. وهذه الصلاحية تجعل مخالفة بعض أحكام الدربة لما تجري عليه جمهرة قـوانين التحكيم الحديثة أمرا غير ذي بال، كما أن موافقتها بعض ما تقرره هذه القوانين ليس دليلاً على صلاحيتها، وإنما هي دليل على سبقها، أو سبق واضـعيها ومـن تولـوا تـدوينها، إلى اكتشاف قواعد تحقق العدل، وتتوسل لإقامته بين الناس، وحسب أي قانون أن يكـون كذلك .
23- وأما الإشارة إلى أن المحكم، إذا كان أميا، يحتاج إلى من يقرأ له آيات الأحكام فـسببها أن التربة مبنية في جميع أحكامها على الاستمداد أصلاً مـن أحكـام الـشريعة الإسـلامية، ومصادرها المتعددة من القرآن والسنة والإجماع والقياس والمصلحة المرسـلة والعـرف والاستحسان والاستصحاب ومقاصد الشريعة والقواعد الفقهية، حتـى إن الشيخ عثمـان البرهومي وصفها بأنها: «عمل من أعمال الاجتهاد الفقهي الإسلامي تماما».
24- وأما اشتراط ألا يحكم المحكم في الحدود والقصاص والنكاح واللعان فذلك نتيجة طبيعيـة لكون التحكيم لا يجوز إلا في ما يجوز فيه الصلح. والحدود والقصاص واللعان لا يجـوز فيها الصلح، فتخرج من نطاق التحكيم الجائز، وأما النكاح فلأن أحكامه من النظام العـام، في الشريعة الإسلامية، فليس من الملائم أن يعهد بفض المنازعات حولها لغيـر القاض الذي تقيمه الدولة وتضمن تنفيذ أحكامه. وتعليل الشيخ عثمان البرهومي لمنع التحكيم فـي هذه الأمور بأنها: «من حق الإمام العام أو نائبه ولأنها تفتقر إلى اجتهاد وأمور ليس لـدى المحكم منها ما يحقق ذلك». هو تعليل محل نظر: ذلك أن هذه الأنزعة أضيفت إلـى سلطان قاضي الدولة - المعبر عنه في كتب الفقه بالإمام ونائبه – لكونها تخرج عن نطاق ما يجوز التحكيم فيه. أما الإشارة إلى الاجتهاد هنا فهي لا محل لها، لأن الاجتهـاد لـيس مقتصرا على قضاة الدولة، بل هو ملكة يكتسبها من تأهل لذلك بأن جمـع – كمـا يقـول الشافعي رحمه الله – الآلة التي يكون بها الاجتهاد . فقد يكون المحكـم مجتهـا وقـد لا يكون، وهو في الحالين ممنوع من الفصل في المسائل الجنائية التي لا يجوز فيها الصلح، ومن الفصل في المسائل المتعلقة بالنظام العام، لهاتين العلتين، لا لأنها تحتاج إلى اجتهاد لا تتوافر فيه شروطه.
25- وأما اشتراط العقل والعدالة (أن يكون عدلاً) والعلم بما يحكم فيه، فهي أمـور بديهيـة: إذ غير العاقل – أي غير كامل العقل – لا يجوز له التصرف في شأن نفسه ومن باب أولـى لا يجوز أن يمضي قوله على غيره؛ وناقص العدالة (الفاسق ونحوه) لا يوثق به، أن يجور فيما يقضي فيه، فلا يجوز أن يولى الحكم بين الناس؛ والجاهل بأحكام ما يعرض عليه من منازعات لا يؤمن خطؤه في الحكم، بل هو الذي يغلب على التوقع، ومن ثم فلا تصح توليته التحكيم فيه.
«وبذلك يكون المطلوب لدى المحكم هو سلامة الفهم، ومعرفة أبعاد القضية المطروحـة عليه وما تنتج من مآلات، ولأن المقصود من عمل المحكم هو إزالة أسباب النزاع، والحكم بالعدل، وقبول الخصمين بذلك دون ضرر أو إضرار» .
26- ومما يفترق فيه التحكيم في دربة أولاد علي، عن النظم القانونيـة الحديثـة للتحكـيم، أن المحكم في الدربة يمارس إجراءات الصلح بين الأطراف، بالإضافة إلى مباشرته إجراءات التحكيم بمعناه الفني الدقيق. فإذا وافق الطرفان على الصلح تصدر هيئة التحكيم قرارا بذلك وتحرر وثيقة التصالح وتبين فيها حقوق كل طرف وواجباته، ويوقعها المحكمون بـصفتهم شهودا على الصلح .
أما في قوانين التحكيم الحديثة فإن المحكمين لا يعقدون صلحا بين طرفي النـزاع، وإنمـا يصدرون حكما هو عمل قضائي متكامل الأركان لا دخل للأطراف في صنعه الذي تـستقل به هيئة التحكيم أو المحكم الفرد .
27- وإذا كان المحكمون مفوضين بالصلح فإن هيئة التحكيم «تفصل في موضوع النزاع علـى مقتضى قواعد العدالة والإنصاف دون التقيد بأحكام القانون»39. أي إنهم في هـذه الحالـة يكونون مفوضين بإصدار حكم منه للنزاع غير ملتزمين فيه بأحكـام القـانون أيـاً كـان مصدرها ولو كان تشريعا أو عرفاً – إلا ما تعلق من التشريع بالنظام العـام أو تـضمن قاعدة آمرة – ما داموا يرون أن ما حكموا به يحقق العدالة والإنصاف بين المتنـازعين. ولأنهم، على كل حال، لا يعملون على تحقيق صلح بين الطرفين أو على التوفيق بينهما أو على الوصول إلى حل وسط للنزاع. وهذا فارق مهم بين التحكيم في دربة أولاد علـي والتحكيم في النظم القانونية الحديثة، وينطبق هنا ما ذكرناه آنفاً من كون العبـرة فـي أي نظام هي بقدرته على تحقيق العدالة في المجتمع الذي يطبق فيه، لا بمطابقته أو مخالفتـه لنظام قانوني آخر.
28- ومن المسائل التي يظهر فيها جليا الاختلاف بين التربة وبين نظم التحكيم المعاصرة قبول حكم التحكيم – وفقا للدربة – للطعن فيه مرتين بحيث إن التحكـيـم يكـون علـى ثـلاث درجات. وللطعن في حكم التحكيم أسباب أوردها الشيخ عثمان البرهومي في القول الجلي، وهي مقررة على سبيل الحصر، كما أن أسباب الطعن التي توردهـا قـوانين التحكـيم الحديثة تكون – عادة - محددة على سبيل الحصر. فإذا لم يقبل أحـد الخـصوم الحكـم الصادر من هيئة التحكيم الثالثة، فإنه يعرضه على هيئة متخصصة في درائب (جمع دربة) العرب طالبا فتواهم في صحته أو بطلانه أو تعديله. وبصدور هذه الفتوى يـصـل النـزاع حول الحكم التحكيمي إلى منتهاه ويلتزم الطرفان بتنفيذ ما قررته هيئـة الفتـوى. ويقـول الشيخ عثمان البرهومي إن حالات طلب «الفتوى بعد الحكم الثابت هـي حـالات نـادرة الحدوث».
* * *
وبعد، فهذه إطلالة سريعة، وجولة غير شاملة، على دربة أولاد علي، وبوجه خـاص يتصل منها بالتحكيم؛ تدلنا على صحة مقولة: إن التحكيم مظهر من مظاهر الحريـة فـي مواجهة السلطة؛ وإن الشريعة العامة في التحكيم هي اتفاق الأطراف .
ويقطع ما سلف بأن الفطرة السليمة، والنفوس المستقيمة، والتعامل الإنساني غير المـشوب بالأحقاد والضغائن، كل ذلك يمكن الإنسان من التوصل إلى تنظيم قانوني يحقـق العـدل والاستقرار في المجتمع ولو لم تكن وراءه من قوة تفرضه، وتضمن نفاذه، إلا قوة القبـول المجتمعي العام؛ ويقطع كذلك بأن الحضارة المعنوية أهم مـن الحـضارة الماديـة، وأن الصحراء القاحلة الجدبة يمكن أن تظهر فيها نظم قانونيـة واجتماعيـة لا ينكـر تقـدمها وصلاحيتها عبر الزمن.