تطوير قواعد التحكيم بالمغرب رهين باجتهاد قضائي ابداعي
لقد حظي موضوع التحكيم في علاقته بالقضاء باهتمام متزايد يعكس عمق الارتباط الحاصل بينهما ، الا أن ما يمكن تسجيله بهذا الخصوص هو طابع الارتباك والتضارب الذي عرفته الكتابات القانونية على مستوى الوطن العربي بخصوص هذه العلاقة والتي أتت كنتيجة فعلية لمرجعية القوانين العربية المنظمة للتحكيم أنذاك والتي لم يكتب لها أن تكون ثمرة الاجتهاد القضائي كما هو الحال بالنسبة لقانون التحكيم الفرنسي.
الذي كان السبق في وضع مبادئه وقواعده لاجتهاد المحاكم الفرنسية لاسيما اجتهاد محكمة النقض قبل وقت طويل من تبني المشرع لهذه القواعد والمبادئ ، ليكون بذلك التطور الذي حداه النص القانوني الفرنسي في مجال التحكيم ما هو إلى ثمرة الوظيفة الابداعية التي يواصل الاجتهاد القضائي القيام بها على الخصوص ، بغية ايجاد نظام وطني ودولي حقيقي للتحكيم يروم بالأساس ضمان فعالية هذه المؤسسة .
أما القضاء المغربي فلم يختلف مع نظيره العربي في كونه ورغم مجيء كل هذه القوانين المواكبة للتحكيم على حد تعبير بعض الفقه مازال على سوء تفاهم مع سلطان الارادة بل اشتد وقع سوء التفاهم هذا.
الا أن سرعان ما بدأ موقف القضاء المغربي يظهر شيئا فشيئا من خلال اجتهاداته القضائية الرامية إلى ایجاد فلسفة تخدم صالح التحكيم ، نظرا لأن تحديث الترسانة القانونية في مجال التحكيم وتوالي الحقبات التشريعية التي عرفتها منذ الحركة التقنينية الكبرى لسنة 1913 مرورا بظهير 28 شتنبر 1974 الى حين مجيء المقتضيات المنسوخة للقانون رقم 05-08 التي حاول من خلالها المشرع المغربي مسايرة التطورات الحاصلة على مستوى المعاملات المدنية والتجارية وأيضا التقنيات الأجنبية ، ليس بالخيار الوحيد لكسب رهان التطور الذي ما فتئت تصبوه أغلب الأنظمة القانونية للتحكيم .
حيث أضحي بالمقابل مطلب تحديث القضاء والرقي باجتهاده في المسائل التحيكيمة أحد أهم المتطلبات الأساسية لتعزيز دعائم الأمن القانوني في ميدان التحكيم من خلال ایجاد زخم قضائي متناسق وموحد يشكل مرجعية أساسية ونواة صلبة لارساء قواعد ومبادئ تشكل الحلول التي كرسها الاجتهاد القضائي الجانب الأهم فيما اعتمدت عليه.
لذا فالحديث عن هذا الموضوع يدفعنا بالأساس إلى التساؤل عن : أهم المرجعيات المؤسسة القضاء داعم الفلسفة التحكيم ؟ ثم إلى أي حد تمكن الاجتهاد القضائي المغربي من ايجاد حلول وخلق قواعد قانونية على نحو يروم ترسيخ دعائم الأمن القانوني في ميدان التحكيم ؟
لأجل ذلك فاننا سنتوقف ابتداءا عند أهم المرجعيات المؤسسة القضاء داعم الفلسفة التحكيم المبحث الأول) زد على ذلك ضرورة تتبع دور الاجتهاد القضائي المغربي في تحقيق الأمن القانوني في ميدان التحكيم (المبحث الثاني).
المبحث الأول : أهم المرجعيات المؤسسة لقضاء داعم لفلسفة التحكيم:
تعتبر وظيفة القضاء أسبق في الوجود تاريخيا عن فكرة قواعد القانون ، سواء تعلق الأمر بالقواعد العرفية أو التشريعية، ذلك أن خلق القاعدة القانونية تعد جزءا لا يتجزأ من وظيفة القضاء، ولعل أهم تطبيقات هذا الدور تجد سندها في العديد من المجالات القانونية يأتي في مقدمتها وارتباطا بالموضوع مرجعية قانون التحكيم الفرنسي الذي كان الفضل في وضع قواعده العظيمة لاجتهاد المحاكم الفرنسية لاسيما اجتهاد محكمة النقض ومحكمة الاستئناف بباريس نظرا لدورها البارز الذي لعبته بخصوص هذه المسألة.
وخلافا للنظام القانوني الفرنسي للتحكيم ، لم يكتب لقواعد التشريع المغربي ومبادئه في ميدان التحكيم أن تكون ثمرة الاجتهاد القضائي في حين ظلت حبيسة الاقتباس التشريعي المعيب للنص الفرنسي منذ الوجهة التشريعية الأولى التي أبانت عن احتلاله كقضاء خاص الى جانب المساطر الخاصة المضمنة بالقانون المسطري المدني، لتعلن بذلك عن ادماج مولود جديد في النظام القانوني المغربي يروم بمميزاته تجاوز مثالب القضاء العادي، هذا الأخير بعيدا عن الأدوار المساعدة أو الرقابية التي تحاول محاكم الموضوع بسطها حرصا على تحقيق فاعلية التحكيم ، نجد وظيفة الاجتهاد والابداع أو ما عبر عنه الفقه الألماني بالاجتهاد القضائي التطوريكه الذي بدت معالمه تظهر شيئا فشيئا بشكل يعكس أهمية المحطات التي ما فتئ أن احتلها التحكيم نظام قضائي خاص.
ليشكل بذلك القضاء المغربي أحد نماذج الأنظمة القضائية العربية التي لم يكن لها سبق طرق باب الاجتهاد والابداع في مسائل التحكيم الا بعد توالي العديد من المحطات التي كرست أهمية هذا النظام في علاقته بالقضاء من جهة والذي لايحدو أن يشكل أحد أوجه اصلاحه، لينطلق بذلك مسلسل الاجتهاد القضائي في المادة التحكيمية بفعل العديد من المرجعيات التي أسست لقضاء داعم لفلسفة التحكيم ، والتي يمكن اجمالها فيما يلي
: المطلب الأول : موقع التحكيم على مستوى السياسة المرتبطة بتشجيع الاستثمار كأهم المرجعيات
نظرا للمكانة التي أصبح يحتلها التحكيم باعتباره كأحد أهم الأليات القانونية والمبادرات التشريعية المهمة في مجال جذب الاستثمار وتشجيعه ، حيث أضحى الرهان عليه قائما بغية توفير المناخ القانوني السليم للاستثمار لينضاف بذلك إلى مصاف التدابير التي اتخذها المغرب والرامية إلى اصلاح الاطار القانوني والمؤسساتي للاستثمار وتشجيع المبادرة الحرة للمستثمرين المغاربة والأجانب. واذا كانت علاقة القضاء بالتحكيم واسعة ومتشعبة تشمل جل فروعه ولا تقتصر على القضاء التجاري فحسب، فان علاقة التحكيم بالاستثمار بالمغرب أخذت بعدين أساسيين : أحدهما دوليا يعكس الانخراط الفعلي للبلاد من جراء الانفتاح التجاري الدولي (الفقرة الأولى والأخر وطنيا بدى الاقتناع معه راسخا بأهمية التحكيم كقضاء خاص للمنازعات التجارية الوطنية لاسيما تلك المرتبطة بالاستثمار.
(الفقرة الثانية). الفقرة الأولى : على المستوى الدولي
بعد الانفتاح التجاري الدولي الذي عرفه المغرب على بقية دول العالم حيث أصبح من الضروري عليه مواكبة هذا التطور خصوصا في مجال النهوض بالتدابير القانونية والاقتصادية والمؤسساتية المتعلقة بالاستثمار باعتبارها جزءا لا تتجزأ من سياسة الإصلاح الذي عرفها قانون الأعمال طيلة النصف الأول من التسعينيات، من خلال الاستجابة لسياسة التشجيع على جلب الاستثمار الأجنبي التي أصبحت العديد من الدول النامية تنهجها بتوفير مجموعة من الضمانات القانونية بمقتضى قوانين الاستثمار الداخلية للدولة التي يرغب في التعامل معها.
ويأتي في مقدمة الضمانات القانونية التحكيم التجاري الدولي باعتباره الأسلوب المفضل للمستثمر الأجنبي في مقابل اللجوء الى قضاء المستثمر خوفا من خضوع المنازعات التي تثار بشأنها لنطاق تطبيق القانون الداخلي للدول التي يتم فيها الاستثمار، الا أن البعض قد يتسائل هنا عن غياب الاهتمام التشريعي بهذا القضاء الدولي الخاص ؟ خصوصا وأن الإصلاح التشريعي لسنة 1974 والذي هم أيضا الشق المتعلق بالتحكيم قد أتي بعد مصادقة المغرب على العديد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة
بالموضوع ؟
ولعل الاجابة عن هذا التساؤل، قد تجد سندها انذاك في مبرر كفاية التنظيم الاتفاقي الذي سبق التنظيم القانوني أو مايمكن الاصطلاح عليه ان صح التعبير بالتحكيم في اطار الاتفاقيات، بحيث كان أول تشريع للتحكيم التجاري الدولي في المغرب 47 يروم بالأساس تنزيل وتطبيق نصوص الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها في هذا الخصوص، ولعل أهمها : |
• اتفاقية نيويورك لسنة 1958
تعتبر أحد أهم الاتفاقيات الدولية الذي لقيت اهتماما ونجاحا كبيرا بشكل يعكس أهمية وصعوبة المجال الذي عالجته بخصوص الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، والمغرب بمصادقته عليها يكون قد تجاوز مشكل الاعتراف والتنفيذ الذي كانت تثيره مسألة الأحكام الأجنبية أمام قضاء الدولة المطلوب منه اعتراف وتنفيذ هذه الأحكام ، على خلاف صعوبة التطبيق التي كانت تطبع أحكام كلا من بروتوكول جنيف لسنة 1923 واتفاقية جنيف لسنة 1927 حيث أنها كانت تتطلب لكي يكون التحكيم قابلا للاعتراف به وتنفيذه ، أن يكون نهائيا وغير قابل للطعن.
ونظرا للحلول القانونية التي تضمنتها نصوص الاتفاقية لم يكن أمام القضاء المغربي على مستوى محكمة النقض - المجلس الأعلى سابقا - سوى خيار تطبيق مقتضيات اتفاقية نيويورك لسنة 1958 ولو تعارضت مع القانون الوطني، لتكون باجتهاداتها داعمة للتحكيم التجاري الدولية، حيث تم التخفيق بالمقابل من العراقيل التي تقف عائقا مانعا دون منح الصيغة التنفيذية وحصر مبدأ النظام العام في حدود ضيقة ومنع قاضي الصيغة التنفيذية من النظر في موضوع النزاع ولم يشترط أجلا لايداع المقرر التحكيمي ، كما حرص أيضا وبتوازن على التفسير الضيق للنظام العام سواء كان دوليا أو وطنيا ، وبنفس التوازن على خرق حقوق الدفاع.
• اتفاقية واشنطن لسنة 1965
تحقيقا لنوع من التوازن في المراكز القانونية بين الدولة المضيفة للاستثمار أو احدى مؤسساتها العامة التابعة لها كأشخاص معنوية والمستثمر الأجنبي، عملت الدولة المغربية على المصادقة على احدى أهم الاتفاقيات الهادفة إلى توفير الحماية للاستثمارات منذ ظهورها وعقدها في 18 مارس 1965، حيث بموجبها تم انشاء المركز الدولي لحسم المنازعات المتعلقة الاستثمارات باعتباره الجهة القانونية المختصة بتسوية منازعات الاستثمار التي تنشأ بين المستثمر الأجنبي والدولة المضيفة للاستثمار.
الا أن مجيء اتفاقية واشنطن لم يكن المبتغى الأساسي من وجودها فقط المساعدة على تحقيق التنمية والتطور الاقتصاديين من خلال توفير مناخ ملائم للاستثمارات الدولية ، بل أيضا التأثير على القضاء المتعلق بالتجارة والاستثمار لدى الدول وتوجيه اجتهاداته في ميدان التجارة الدولية إلى تغليب القواعد الدولية على الوطنية كما حدث مع القضاء المغربي خصوصا على مستوى الغرفة التجارية المحكمة النقض باعتبارها صاحبة الاختصاص للنظر في القضايا التجارية وقضايا الاستثمار والتحكيم التجاري الدولي ، حيث اتجهت في العديد من القرارات الصادرة عنها إلى حماية وصون حقوق المستثمر الراغب في اللجوء إلى التحكيم لفض النزاعات التي التي تعترضه، كما حاولت أيضا الحد من التوسع في النظام العام وغيرها من القرارات التي تهدف إلى تكريس عدالة فعالة سريعة، مبسطة تكون حافزا للاستثمار ومشجعا له .
الا أن كل ملاحظ أو متتبع مختص ، لا يجد أدنى صعوبة في ابداء ملاحظة مفادها خلال هذه المحطة على مستوى الممارسة هو محدوديتها بالنسبة للتحكيم الوطني خلافا للتحكيم الدولي الذي بالرغم من غياب التنظيم القانوني استطاع أن يشكل الوسيلة المتداولة لفض النزاعات بحكم التنظيم الاتفاقي الوازن الذي شهده من شتى الجوانب القانونية خصوصا تلك الضابطة لاختصاص القضاء الوطني سواء فيما يخص الدور المساعد أو الرقابي وكذا الاجتهادي الذي تطلع به الغرفة التجارية بمحكمة النقض بغية توجيه قواعد التحكيم الدولي في قضايا الاستثمار.
الفقرة الثانية : على المستوى الوطني - لا استثمار بدون تحكيم -
في اطار تعزيز الضمانات الخاصة بالتشريع الوطني عمل المشرع المغربي على اصلاح الاطار القانونية والمؤسساتي للاستثمار، كما سعي نحو توفير ضمانات قضائية واضحة لأن لا استثمار بدون قضاء كما عبر عن ذلك المغفور له الحسن الثاني قدس الله روحه حينما قال : " لا يمكن للمغرب أن يفتح أبوابه للمال الأجنبي ، اذا لم يكن ذاك المال الأجنبي عارفا أنه في مأمن من الشطط أو سوء الفهم ولا أقول دائما الشطط وانما سوء الفهم، فالقضاء أصبح أمرا ضروريا للنماء..".
والى جانب توفير الضمانات القضائية ، أصبح الاقتناع راسخا بضرورة تطوير القواعد التحكيمية والرقي بها إلى مستوى تطلعات المستثمر الوطني والأجنبي على حد سواء، وهذا بالفعل ما أبان عنه الاهتمام الملكي في العديد من المناسبات والخطب الملكية ذات البعد الاستثماري شكلت في اطارها الرسالة الملكية السامية الموجهة الى الوزير الأول في موضوع التدبير اللامتمركز للاستثمار والمؤرخة في 9 يناير 2002 من بين التوجيهات الملكية في ميدان توفير متطلبات المناخ الملائم للاستثمار وتطوير مستواه ، والذي أناط من خلالها صاحب الجلالة الدور التوفيقي واقتراح الحلول التوفيقية بخصوص النزاعات الناشئة بين المستثمرين و الادارات باحدى الشبابيك التابعة للمراكز الجهوية للاستثمار والتي شكلت في اطارها هذه الرسالة المرجعية الأساسية للتأسيس.
هذا ولم يقف الاهتمام الملكي عند هذه الرسالة، حيث شكل بذلك الخطاب الملكي السامي بتاريخ 29 يناير 2003 بداية بعد جديد أعلن عن تربع التحكيم كقضاء خاص على مستوى السياسة الملكية بخصوص توفير متطلبات المناخ الملائم للاستثمار وتطوير مستواه ، من خلال التوجيهات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس والرامية إلى تشجيع اللجوء إلى الطرق البديلة لفض النزاعات من خلال حثه على ضرورة مراجعة مساطر التسوية التوافقية لما قد ينشأ من منازعات بين التجار ، وذلك من خلال الاعداد السريع المشروع قانون التحكيم التجاري الوطني والدولي ليستجيب نظامنا القضائي لمتطلبات عولمة الاقتصاد و تنافسيته ويساهم في جلب الاستثمار الأجنبي .
وان تشكل الخطب الملكية توجيهات عملية تستدعي من الحكومة بلورتها كمشاريع قابلة للتطبيق والعمل على تنفيذها بقوة الدستور، فان التوجيه الذي أبان عنه صاحب الجلالة بخصوص توفير متطلبات المناخ الملائم للاستثمار والذي راهن من خلاله على التحكيم بحيث اعتبره جزءا لا يتجزأ من أوجه الإصلاح القضائي ، مما يفيد معه أن لا استثمار بدون تحكيم وبدون قضاء تجاري استثماري قادر بقراراته الاجتهادية على توجيه القواعد والمبادئ التحكيمية في قضايا الاستثمار، ليكون بذلك الخطاب الملكي أعلاه قد أسس لقضاء تحكيمي مسؤول يشكل معه الأعداد السريع لمشروع قانون التحكيم التجاري الوطني والدولي نقطة الانطلاق نحو قضاء معاصر يستجيب لمتطلبات عولمة الاقتصاد وتنافسيته ويساهم في جلب الاستثمار الأجنبي لاسيما ذلك المتعلق بالتجارة والاستثمار.
المطلب الثاني : تحديث المنظومة القانونية والقضائية في مجال التحكيم كأهم المرجعيات
شهد المغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر تطورات مهمة على مستوى الترسانة القانونية للتحكيم والتي تعززت بمناسبة الاصلاح القانوني الأخير لسنة 2007 الذي أتي في سياق التفاعل مع التطورات الدولية التي يعرفها ميدان المال والأعمال حيث هم بالأساس تطوير الاطار القانوني للتحكيم بشكل ينسجم والمبادئ الدولية الجديدة و يساير تطلعات الفاعلين الاقتصاديين ويضمن لهم الحصول على عدالة في ظروف يطمأن إليها الأطراف، عدالة ترتكز على قواعد مرنة وعلى مبادئ الإنصاف مع مراعاة عادات وأعراف الميدان التجاري المحلية والدولية.
وموازاة مع المجهودات المبذولة لايجاد اطار قانوني متكامل وفعال للتحكيم (الفقرة الأولى) كتب لهذا الأخير أن يحتل عتبات أحد أهم الأوراش الإصلاحية الكبرى الهادفة بالأساس إلى اصلاح قضائي شامل وعميق (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : تعزيز الترسانة القانونية في مجال التحكيم
بعد الفراغ التشريعي الكبير الذي شهده الاطار القانوني المنظم للتحكيم في ظل ظهيري 1913 و 1974 خصوصا من جانب كون أحكامهما معا غير منفتحة بما فيه الكفاية على التحكيم الدولي رغم
مصادقة المغرب على العديد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالموضوع كنتيجة للانتشار الواسع للتحكيم في التجارة الدولية من جهة، و للانخراط الفعلي لبلادنا في الانفتاح والسعي لرفع كل الحواجز المعيقة للاستثمار من جهة أخرى .
واستجابة للعديد من المرجعيات الأساسية، يأتي في مقدمتها الخطب الملكية لصاحب الجلالة لا سيما
الخطاب الملكي الذي ألقاه بمناسبة افتتاح السنة القضائية بأكادير بتاريخ 29 يناير 2003 حيث دعا من خلاله الى ضرورة التعجيل بالاعداد السريع لمشروع قانون التحكيم التجاري الوطني والدولي ايمانا منه بضرورته لكي يستجيب النظام القضائي لمتطلبات عولمة الاقتصاد وتنافسيته ويساهم في جلب الاستثمارالأجنبي .
ضف إلى ذلك، متطلبات عالم التجارة الدولية وما يتطلبه توفير المناخ الملائم للاستثمار في المغرب كأحد أبرز الخيارات الاستراتيجية المرتبطة بالتنمية خاصة مع اتساع العلاقات الدولية، وعولمة الاقتصاد، وسرعة تحرك الأموال ، من ایجاد لكيان قانوني للتحكيم قادر على كسب رهان الملائمة للتطورات التي تعرفها التجارة الدولية، الأمر الذي عجل بوضع مشروع مدونة التحكيم التجاري الذي أعدته المملكة المغربية حيث كان محل لقاءات ونقاشات علمية مستفيضة أبانت عن الانفتاح الذي يصبوه القضاء على محيطه الاجتماعي والاقتصادي من جراء الاهتمام الذي ما فتئت توليه وزارة العدل والهادف إلى الرقي بالقضاء وتمكينه من المساهمة الفعالة في مسار التنمية، وتوفير المناخ الملائم للاستثمار.
الا أن المشرع لم يكن وفيا لاختياره التشريعي القاضي بوضع تنظيم قانوني مستقل لمؤسسة التحكيم بالمغرب من خلال ما أبان عنه مشروع مدونة التحكيم، بحيث سرعان ما تم اجهاضه بعدما كان الأمل كبيرا في خروجه، ليفضل بذلك الاستكانة إلى سياسة الادماج في قانون المسطرة المدنية كما هو الحال عليه الأن قانون المقتضيات المنسوخة رقم 05-08.
ومن المؤكد أن هذا القانون قد شكل نقلة نوعية في مجال مواكبة المغرب للتطور الاقتصادي الذي عرفته جل دول المعمور، وكذا استجابة لرهان توفير المتطلبات المحفزة على الاستثمار والمبادرة الحرة بغية توفير مناخ ملائم للاستثمار، ناهيك أيضا عن كونه قد أتي لسد مكامن النقص الذي كان يعرفها قانون التحكيم الملغي سواء من جانب كون أحكامه غير منفتحة بما فيه الكفاية على التحكيم الدولي، بحيث أوجد اطارا قانونيا متكاملا للتحكيم من خلال التعريف به والتنظيم الدقيق لقواعده، وتوسيع مجاله ليشمل النزاعات المالية الناتجة عن التصرفات الأحادية للشخص المعنوي العام، والسماح بالتحكيم في النزاعات المتعلقة بالعقود التي يبرمها الشخص العام، وكذا النص على مقتضيات خاصة بالتحكيم الدولي.
الفقرة الثانية : تموقع التحكيم على مستوى ورش الإصلاح القضائي:
اذا كان ورش اصلاح القضاء بالمغرب معطى لا محيد عنه في سبيل تحقيق الاقلاع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فان ضرورة تشجيع اللجوء إلى التحكيم بتزامن مع تعزيز وتطوير قواعده أضحى يشكل أحد أهم الدعائم الأساسية لهذا الورش والهادفة بالأساس إلى ترسيخ سيادة القانون والشفافية والنزاهة والإنصاف والسرعة في الإنجاز على مستوى إصدار الأحكام وتنفيذها.
وفي هذا السياق خصص جلالة الملك الخطاب السامي الذي وجهه إلى الأمة بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك والشعب لاطلاق الاصلاح الشامل والعميق للقضاء، حيث من بين محاور الاصلاح التي أطلقها في خطابه السامي نجد محور تطوير الطرق القضائية البديلة لفض النزاعات حيث ذكر جلالته : "... وبموازاة ذلك، يتعين تطوير الطرق القضائية البديلة كالوساطة والتحكيم والصلح ....
ليشكل بذلك إلى جانب الخطاب الملكي السامي المؤرخ في 9 مارس 2011 الذي أعاد من خلاله التأكيد على ضرورة الارتقاء بمنظومتنا القضائية كمنظومة مستقلة وجعلها في خدمة المواطن تأسيسا المفهوم جديد لاصلاح العدالة يراعي الأسس والمبادىء التي أرساها الدستور، أحد أهم المرجعيات التي أسست إلى الاعلان عن انبثاق ورش اصلاح منظومة العدالة بغية التطلع إلى اصلاح قضائي شامل وعميق حمل بين أهدافه الاستراتيجية الكبرى ضرورة تشجيع اللجوء إلى الوسائل البديلة لفض النزاعات بمقاربة جديدة أتت كرد فعل عن العديد من الاختلالات والصعوبات التي طالت عمل هذه الأليات البديلة في شتى الميادين الجنائية والتجارية والمدنية وغيرها.
لذا فالمكانة التي أصبح يحتلها التحكيم كأحد أوجه الإصلاح القضائي بالموازاة مع التطور التشريعي والاتفاقي الذي حظي به يعكس عمق وأهمية هذا المولود القضائي الخاص، وما المحطات والأبعاد - التي سبق وأن أشرنا اليها - الا مرجعيات أسست القضاء داعم لفلسفة التحكيم، مادام أن فعالية هذا الأخير تتطلب وجود قضاء بأدواره المساعدة والاجتهادية قادر على تحقيق الجاذبية القانونية التي راهن عليها المشرع لجلب الاستثمارات والتخفيف من كثرة القضايا المعروضة على المحاكم.
المبحث الثاني : دور الاجتهاد القضائي في تحقيق الأمن القانوني في ميدان التحكيم لقد أصبح الاجتهاد القضائي مطلبا حقوقيا ، بالنظر لما يكفله من توحيد الحلول القضائية وتوقعها على نحو يرسخ الأمن القانوني و يحقق الوضوح والاستقرار و التوقع ، غير أن التسليم بهذا الرأي، يجعلنا نجنح التقدير وجاهته ونتساءل عما إذا كان القضاء المغربي قد استطاع تحقيق الأمن القانوني في مجال التحكيم باعتباره أحد أهم الدعائم الأساسية للاقتصاد بشقيه الوطني والدولي؟
ان الجواب عن هذا التساؤل يقتضي منا استقراء الاجتهاد القضائي الصادر في المادة التحكيمية لاسيما ذلك المنبثق عن محكمة النقض - المجلس الأعلى سابقا- نظرا لكونها تأتي في مقدمة الهيئات القضائية المصدرة للاجتهاد القضائي.
ولعل بعض القواعد والمبادئ التي تبناها مشروع قانون التحكيم الحالي يرجع الفضل في صياغتها إلى اجتهاد المحاكم المغربية لاسيما تلك الصادرة عن السادة رؤساء المحاكم و الغرفة التجارية لدى محكمة النقض لتشكل بذلك أرضية ومرجعية أخذت بعين الاعتبار عند وضع هذا المشروع (المطلب الأول) الا أنه مع ذلك يبقى اجتهاد المحاكم الفرنسية النموذج الأمثل في مجال خلق و تطوير قواعد التحكيم (المطلب الثاني).
المطلب الأول : أهم تمظهرات الاجتهاد القضائي المغربي في ظل مشروع قانون التحكيم :
اذا كان من المعترف به للاجتهاد القضائي المغربي دوره بخصوص مواكبة التطورات والتوجهات الدولية في مجال التحكيم قبل مجيء اتفاقية نييورك والاصلاح التشريعي لسنة 1974 أي منذ وقت مبكر، فان بداية تقمص الوظيفة الابداعية تزامنت والمقتضيات المنسوخة للقانون رقم 08-05 كما يظهر من خلال مجموعة من القرارات القضائية الصادرة عن رؤساء المحاكم وكذا عن الغرفة التجارية بمحكمة النقض.
ولعل أهم المحطات التشريعية المهمة في حياة التحكيم والتي كتب لها أن يشكل الاجتهاد القضائي مرجعا مهما ساهم في تجاوز العديد من نقائص القانون السالف الذكر، مشروع قانون التحكيم بما يحمله من مفاهيم وقواعد جديدة يعود الفضل الكبير في صياغتها للاجتهاد القضائي سواء تعلق الأمر بالاشكال الذي كان يثيره مفهوم رئيس المحكمة باعادة صياغته بشكل يستجيب للتوجه القضائي في أفق تجاوز اشكالية الاختصاص النوعي (الفقرة الأولى) إلى جانب تمظهرات أخرى (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : اعتماد المعيار الموضوعي كأساس لتحديد الاختصاص:
يأتي في مقدمة المفاهيم الغامضة التي حملها القانون رقم 08-05 والذي أثير بشأنها اللبس بشكل فتح المجال معه لتفسيرات وتأويلات انعكست سلبا على مستوى التعاطي معه، مفهوم رئيس المحكمة حيث جاء في الفصل 312 منه أنه " يراد في هذا الباب بمايلي : .... 3- رئيس المحكمة التجارية ما لم يرد خلاف ذلك ".
ولعل المستقرء للنص أعلاه، سيقف عند فهم مفاده أن الاختصاص حصري لرئيس المحكمة التجارية ما لم يرد خلاف ذلك، الا أنه قبل هذا الفصل منح المشرع اختصاص النظر في طلب تذييل الحكم التحكيمي الصادر في نطاق الفصل 310 للمحكمة الإدارية التي سيتم تنفيذ الحكم التحكيمي في دائرتها أو إلى المحكمة الإدارية بالرباط عندما يكون تنفيذ الحكم التحكيمي يشمل مجموع التراب الوطني.
ليتضح بأن الأمر يتعلق بجهتين للاختصاص لا ثالث لهما، مما يثار الاشكال معه في حالة اذا ما تعلق الأمر بنزاع مدني.
حيث هنا بالأساس أبان القضاء المغربي عن أحد الأدوار المنوطة به والمتجسدة في رفع الغموض واللبس وتجاوز النقص التشريعي بسد مكامنه وثغراته، كما حدث مع الاشكال الذي أثير بخصوص هذا المفهوم حيث نجد العديد من الاجتهادات القضائية الصادرة عن رؤساء المحاكم ومحكمة النقض قد تبنت توجها قضائيا موحدا ومتوترا أقرت من خلاله بأن رئيس المحكمة المراد به هو رئيس المحكمة المختصة حسب طبيعة موضوع النزاع، ومن بين هذه القرارات نجد أمر صادر عن المحكمة التجارية بالدار البيضاء بتاريخ 05-03-2008 جاء فيه : " أن الاختصاص بمنح الصيغة التنفيذية يرجع إلى رئيس المحكمة أن تعلق الأمر بنزاع مدني، ولرئيس المحكمة التجارية اذا تعلق الأمر بنزاع تجاري، أما اذا كان النزاع اداريا فان المشرع منح النظر فيها إلى المحكمة الادارية بمقتضى المادة 310 من ق.م.م".
وهو نفس التوجه لمحكمة النقض - المجلس الأعلى سابقا - في قرار لها حيث جاء فيه :" أن عدم الاختصاص النوعي من النظام العام ويجب اثارته ولو تلقائيا من قبل القضاء، ويمكن أثارته في أي مرحلة من مراحل الدعوى، حيث يصير حكم المحكمين قابلا للتنفيذ بأمر من رئيس المحكمة الابتدائية التي صدر في دائرة نفوذها ، ولما تعلق الأمر بنزاع تحكيمي تجاري فان رئيس المحكمة التجارية يصبح هو المختص.
واذا كان النزاع بين الطرفين مدنيا يرجع اختصاص البت للمحكمة الابتدائية ولرئيسها واذا كان تجاريا يرجع الاختصاص للمحكمة التجارية ورئيسها ".
واستجابة للحل والمعيار الذي تواترت العديد من القرارت في اقراره كمحدد قضائي أساسي لمنح الاختصاص في مقابل تجاوز اشكال الاختصاص النوعي الذي لطالما أثاره مفهوم رئيس المحكمة، توجه المشرع المغربي في اطار مشروع قانون التحكيم إلى اعتماد المعيار الموضوعي كأساس لتحديد الاختصاص من خلال ما تضمنته مقتضيات الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من المشروع ، حيث جاء فيها أنه : " يراد في هذا القانون بمايلي : .....12- رئيس المحكمة: رئيس المحكمة الابتدائية أو رئيس المحكمة الادارية أو رئيس القسم المتخصص في القضاء الاداري بالمحكمة الابتدائية، أو رئيس المحكمة التجارية، أو رئيس القسم المتخصص في القضاء التجاري بالمحكمة الابتدائية، أو من ينوب عنهم".
الفقرة الثانية : تمظهرات أخرى للاجتهاد القضائي المغربي
اذا كان من بين أهم المرجعيات الأساسية التي اعتمد عليها واضعوا مشروع قانون التحكيم نجد الاجتهاد القضائي المغربي الصادر في المادة التحكيمية، فانه بالمقابل لم يقف عند وضع المعيار الموضوعي كأساس لتحديد الاختصاص بل تجاوزه ليشمل بعض التمظهرات الأخرى ، يبقى أهمها :
• الاعتراف بالعقود الادارية الدولية وتجاوز اشكال الاختصاص للتحكيم في العقود الادارية الدولية صبغة خاصة نابعة بالأساس من خصوصية الأطراف التي تبرمه والمتمثلة في الدولة بوصفها سلطة عامة والشخص المعنوي العام أو الخاص الأجنبي. بحيث يشكل وسيلة لحل المنازعات الناشئة عنها دون اتباع الإجراءات القضائية العادية ، نظرا لما يتسم به من قلة التكلفة وسرعة الفصل.
الا أن المشكل الذي طال التحكيم في هذا النوع من العقود الدولية بالنسبة للقانون المغربي هو غياب الاعتراف التشريعي الصريح بتزامن مع سكوت حول الجهة المختصة بتذييل الحكم التحكيمي الصادر بشأن نزاع يتعلق بالعقود الادارية الدولية بالصيغة التنفيذية، وهذا ما يتبين من خلال استقراء مقتضيات الفصل 327-46 من القانون رقم 08-05 بخصوص الاعتراف بالأحكام التحكيمية الدولية ، خصوصا وأن المشرع عندما حدد الجهة المختصة بتذييل هذه الأحكام نص بصريح العبارة على أن الاختصاص من صميم رئيس المحكمة التجارية في اشارة منه إلى أن نطاق تطبيق الفصل أعلاه يقتصر على العقود الدولية ذات الطابع التجاري وليس الاداري.
والقضاء المغربي وان اعترف بالعقد الاداري الدولي ، فانه بالمقابل لم يسلم من الاشكال المرتبط بالجهة صاحبة الاختصاص بالتذييل عندما يكون هذا العقد من موضوعات الأحكام التحكيمية، الا أن سرعان ما استجاب الاجتهاد القضائي لهذا الاشكال بحيث عوض أن يتم اللجوء إلى تطبيق مقتضيات الفصل 46-327 بمنح الاختصاص لرئيس المحكمة التجارية وما يشهده من اقصاء للجبهة صاحبة الاختصاص بالنظر لطبيعة موضوع النزاع - القضاء الاداري - كما ذهبت عليه بعض القرارات، فان المحكمة بالمقابل تذهب إلى تمديد مقتضيات التحكيم الداخلي للعمل بها في التحكيم الدولي مانحة بذلك الاختصاص للمحكمة الادارية بناءا على الفصل 310.
لذا فالمشرع وايمانا منه بضرورة الاعتراف الصريح بالتحكيم في هذا النوع من العقود في مقابل سد النقص التشريعي الذي كان يطالها بهذا الخصوص، خصوصا وأن القضاء باسناده الاختصاص للمحكمة الادارية بناء على مقتضيات التحكيم الداخلي نظرا لطبيعة موضوع النزاع يكون قد أقره بناءا على الاستثناء من الأصل الذي يقضي بعدم تطبيق مقتضيات الجزئين الفرعيين الثاني والثالث بالفرع الأول المتعلق بالتحكيم الداخلي على التحكيم الدولي، حيث حسنا ما فعل من خلال مشروع قانون التحكيم لما اتجه صوب الاعتراف والاقرار بالعقود الادارية الدولية وتجاوز اشكالية الاختصاص بالاستناد إلى المعيار الموضوعي لمنح الاختصاص للمحكمة الادارية صراحة .
المطلب الثاني : اجتهاد المحاكم الفرنسية في مجال خلق و تطوير قواعد التحكيم - النموذج الأمثل -
اذا كانت حركة التشريع التحكيمي التي عرفها المغرب متأثرة بشكل كبير الى جانب الفقه والاجتهاد بالتشريع والفقه والاجتهاد الفرنسي، فان ذلك راجع بالأساس إلى الدور الذي لعبه اجتهاد المحاكم الفرنسية من جراء الوظيفة الابداعية التي يضطلع بها والتي تروم بالأساس ایجاد فلسفة تخدم صالح التحكيم بشقيه الوطني والدولي.
فالتنويه ينبغي أن يطال الدور الذي لعبته ولازالت تؤديه محكمة الاستئناف بباريس باعتبارها أن صح التعبير المنشئ الفعلي للعديد من المبادئ والقواعد التحكيمية التي كان مرغوبا فيها من قبل محكمة النقض الفرنسية جراء التأييد والتأكيد الذي كانت تحظى بها من قبل غرفها، ليعلن بالمقابل عن تصدر الاجتهاد القضائي الفرنسي الصدارة كأحد الاجتهادات الأكثر تطورا وتقدما في مجال التحكيم .
لذا سنحاول الوقوف عند بعض أهم المبادئ والقواعد التي حاول الاجتهاد الفرنسي صياغتها في مجال التحكيم، والتي شكلت في الشق الغالب منها مبادئ وقواعد موضوعية مؤسسة للتحكيم الدولي (الفقرة الأولى تميل إلى جانب مبادئ أخرى إلى ايجاد فلسفة تخدم صالح التحكيم (الفقرة الثانية). الفقرة الأولى : ايجاد قواعد موضوعية مؤسسة للتحكيم الدولي والقواعد الموضوعية الأساسية التي صاغها الاجتهاد القضائي الفرنسي، والتي تشكل المبادئ المؤسسة للتحكيم الدولي تتمحور أهمها في النقاط التالية:
- التوجه نحو محو مفهوم عدم قابلية المنازعات للتحكيم - Inarbitrabilite -
وذلك من خلال تبني معيار ذو طبيعة اقتصادية لتحديد دولية التحكيم يروم بالأساس ملامسة الوضوح والدقة عند تحديد حالات التحكيم التي ستخضع للقواعد الخاصة المطبقة في المجال الدولي، حيث في هذا الصدد كان المحكمة النقض الفرنسية باب السبق في التوجه نحو الأخد بالمعيار الاقتصادي لتحديد دولية التحكيم من خلال ثاني قراراتها الصادرة عنها سنة 2012.
وقبل ذلك، كان اجتهاد محكمة النقض الفرنسية بخصوص تعريف التحكيم الدولي ثابتا وقارا، حيث أصدرت الغرفة المدنية الأولى بتاريخ 28 يناير 2003 قرارا اعتبرت فيه أن الشرط التحكيمي المبرم بين شركة وغير تاجر يعتبر صحيحا لمجرد فقط الطابع الدولي للعمليات المعنية.
- مبدأ صحة اتفاق التحكيم الدولي
يعد هذا المبدأ من بين أهم المبادئ في مجال التحكيم الدولي الذي يعود الفضل في التأسيس له للاجتهاد الفرنسي، حيث بني شيئا فشيئا عبر سلسلة من القرارات الصادرة عن محكمة الاستئناف بباريس و الغرفة المدنية الأولى ليشكل معها قاعدة موضوعية لدى قانون التحكيم الدولي، حيث ذهبت محكمة النقض
في قرارها Jules verne بتاريخ 7 يونيو 2006 إلى "صحة مبدأ اتفاق التحكيم معتبرة اياه قاعدة موضوعية لدى قانون التحكيم الدولي الفرنسي يكرس شرعية شرط التحكيم بغض النظر عن قانون أي دولة "، لكن هذا لا يعني بالمقابل أن القاعدة جديدة بل سبق أن تم تأكيد هذا المبدأ من خلال احدى قراراتها السابقة في قضية Zanzi بتاريخ 25 يناير 1999.
وتأسيسا لنظام قانوني خاص بشرط التحكيم المضمن بالعقود الدولية والذي يستهدف اخضاع المنازعات المحمتل وقوعها للتحكيم، كرس الاجتهاد القضائي قاعدة استقلالية شرط التحكيم الدولي والذي تحول إلى قاعدة قارة وهي صحة شرط التحكيم بمعزل عن العقد الأصلي، حيث تم تكريسها بالعديد من القرارات الصادرة عن محكمة النقض الفرنسية 72، يأتي في مقدمتها قرار الغرفة المدنية الأولى بمحكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 7 ماي 1963 في قضية "كوسي"- Gosset- والذي جاء فيه بأنه " في مادة التحكيم الدولي فان الشرط التحكيمي يتمتع دائما بالاستقلالية القانونية الكاملة، وبالتالي لا يمكن أن يتأثر بعدم الصحة المحتملة للعقد الذي يتضمنه ".
واعتبارا لذلك، ذهب بعض الفقه الفرنسي الى أن ارساء مبدأ صحة اتفاق التحكيم على المستوى الدولي قد كان مرغوبا فيه من لدن محكمة النقض الفرنسية كأداة للسياسة القضائية بغية تعزيز فرنسا في مجال التحكيم الدولي وجعلها أكثر جاذبية و فعالية.
- مبدأ اختصاص الاختصاص - le principe compétence-competence
يعتبر مبدأ اختصاص المحكم بالفصل في مسألة اختصصه من بين أهم المبادئ التي عرفت تطورا لدى القانون الفرنسي للتحكيم وأدقها في ذات الوقت، بحيث أثار العديد من الجدل وذلك بالرغم من الاعتراف الشبه الكامل بهذا المبدأ في الأنظمة القانونية المعاصرة.
ولا شك في أن الأثر الإيجابي لهذا المبدأ يجسد ضمانة اضافية لاستقلالية التحكيم وأحد مظاهر تطوره وتقدمه ، فبقدر ما يزيد للمحكم القدرة والصلاحية من أجل البث في الاختصاص أو الصلاحيات الخاصة به فاته بالمقابل يشكل معطى ايجابيا للقوانين والاتفاقيات الدولية الذي تضمنته كما هو وارد في المادة 16 من القانون النموذجي للأونسترال المتعلق بالتحكيم التجاري الدولي.
وتكريسا له ذهبت محكمة النقض الفرنسية في قرار لها صادر بتاريخ 1 دجنبر 1999 اعتبرت فيه بأن البث في مسألة قيام وصحة الاتفاق التحكيمي هي من اختصاص المحكم ولايمكن للهيئة القضائية البث فيه 78، كما تم التأكيد عليه في قرارها بخصوص قضية Zanzi.
-
خصوصية النظام القانوني الخاص بالقرار التحكيمي الدولي ولعل هذه القاعدة تبين بوضوح عن الوظيفة الابداعية للاجتهاد القضائي الفرنسي الذي لطالما أبان من خلال قراراته بدقة عن فلسفة تروم خدمة التحكيم، وبالتالي فاذا كان القرار التحكيمي الدولي يتمتع بنظام قانوني خاص يؤهل قابليته للاعتراف به واعتماده وتنفيذه في كل الدول سواء بالنظر إلى اتفاقية نيويورك أو بالنظر إلى المقتضيات المحلية عملا بمقتضيات المادة السابعة من الاتفاقية السابقة، فان النظام القانوني الخاص بالتحكيم الدولي الفرنسي له خصوصية تنبع من سمو قواعده في بعض الأحيان عن القواعد الاتفاقية الدولية كما حدث مع قواعد اتفاقية نيويورك.
وكمثال على ذلك، نسوق ما حدث بخصوص قضية « هیلمارتون » الشهيرة والتي تتعلق بقرار تحكيمي دولي تم الغاءه في بلده الأصلي، لكن تم الاعتراف به وتنفيذه في فرنسا بقرار للغرفة المدنية الأولى الصادر بتاريخ 23 مارس 1994 حيث ذهب هذا الأخير إلى تطبيق مقتضيات المادة السابعة من اتفاقية نيويورك التي تنص على أن الشخص الذي يطلب تنفيذ قرار دولي صادر عن هيئة تحكيمية يمكنه التماس تطبيق قانون محل التنفيذ، اذا كان أكثر امتیازا من قواعد هذه الاتفاقية. لكن في الحالة المتعلقة بهذه القضية فان اتفاقية نيويورك تعتبر بأن القرار التحكيمي الدولي الذي تم الغاؤه في بلده الأصلي يعد من بين الأسباب الموجبة لرفض الاعتراف والتنفيذ، والحال هنا أن القرار تم الغاؤه في بلده الأصلي - سويسرا -، لكن نظرا لخصوصية القانون الفرنسي للتحكيم الدولي والذي يعد أكثر تسامحا وامتيازا من اتفاقية نيويورك فانه لم يتعرف به كسبب موجب لرفض التنفيذ أو الاعتراف ما دام في وضعية قانونية سليمة، مما يفيد معه بأن سبب الالغاء المعتمد بالخارج يعتبر غير مقبول في التحكيم الدولي الفرنسية.
الفقرة الثانية : اجتهاد المحاكم الفرنسية فلسفة في خدمة التحكيم اذا كانت معظم القرارت الاجتهادية الصادرة عن المحاكم الفرنسية لاسيما محكمة النقض ومحكمة الاستئناف بباريس تبين بوضوح عن فلسفة تروم خدمة التحكيم، فانه بالاضافة إلى المبادئ التي كرسها الاجتهاد في مجال التحكيم الدولي شملت الوظيفة الابداعية جوانب أخرى في غاية من الأهمية، نذكر منها:
مبدأ استقلالية ونزاهة المحكم -
L'indépendance et L'impartialité
يضاف هذا المبدأ إلى خانة المبادئ الذي عرفت تطورا ملحوظا لدى القانون الفرنسي للتحكيم، فالنزاهة هنا تفيد معها عدم احتمال وجود صلة محتملة بين المحكم والقضية القانونية التي يثيرها الأطراف، أو بين المحكم وأحد الأطراف، مما يعني أنه ينبغي أن حكم محايدا وألا يظهر لديه تحيز اتجاه أي طرف، أما الاستقلالية فتقضي باستقلاليته في الاتصال بالأطراف ومحاميهم، وكذا عدم وجود أي العلاقة التحكيمية كيفما كان نوعها، أي ما يفيد عدم تبعيته لأي علاقة سابقة أو حالية مع أطراف طرف.
وقد حظي بتكريس للاجتهاد القضائي حيث تم التأكيد عليه بقوة من قبل الغرفة المدنية الأولى في احدى قراراتها بتاريخ 16 مارس 1999 حيث جاء فيه : « أن الاستقلالية والنزاهة هما أساس وجوهر الوظيفة التحكيمية، قبل أن يترجم إلى نص تشريعي تخلل ثنايا مرسوم 2011 بموجب الفصل 1456 كما تم تميمه بموجب الفصل الثاني من المرسوم رقم 48-2011 بتاريخ 13 يناير 2011.
- توسيع نطاق تدخل قاضي الدعم - le juge d'appui
والصعوبات ذات الصلة بسير اجراءات حالات التوقف تمثل مهمة قاضي الدعم في فك وحل التحكيمة، كما هو الحال في حالة تعذر تشكيل الهيئة التحكيمية حيث ذهب المشرع المغربي على غرار حيث باقي التشريعات المقارنة إلى الاعتراف الأطراف بصلاحية اللجوء إلى رئيس المحكمة المختصة حيث يوصف في هذه الحالة بقاضي الدعم جراء المساعدة التي يقدمها للأطراف الاجراءات التحكيمية.
والمشرع الفرنسي بدوره قد كرس هذا التدخل في ثنايا المرسومين 1980 و 1981، قبل أن يتجه الاجتهاد القضائي بعد ذلك الى الاعتراف بتدخل قاضي الدعم في اطار نطاق واسع بموجب قرار المحكمة النقض سنة 2005 من أجل ضمان فعالية حقيقية لتدخله بشكل يخدم صالح التحكيم، وهو الأمر الذي استجاب له المشرع وعمل على تكريسه بموجب مرسوم 13 يناير 2011.
هذه فقط بعض المبادئ والقواعد الأساسية التي صاغها الاجتهاد القضائي الفرنسي في مادة التحكيم، تجيب المتساءل عن مرجعية جودة النص القانوني الفرنسي في مجال التحكيم بأن الأمر يتطلب قضاءا تحكيميا موحدا كما هو الحال لمحكمة الاستئناف باريس وتنسيقيا بينها وبين المحكمة العليا - محكمة النقض الفرنسية - لكي نكون أمام حلول واجتهادات بشأن المسائل التحكيمية بحجم وقيمة الاجتهاد القضائي الفرنسي.
لذا ندعو الى ضرورة اصلاح قضائي يروم توحيد الجهة القضائية المختصة بالنظر في المسائل التحكيمية في مقابل التنسيق بينها وبين الغرفة التجارية بمحكمة النقض، ناهيك أيضا عن ضرورة انفتاح القاضي على المحيط الخارجي من جراء البحث في القانون الأجنبي والاجتهاد القضائي المقارن لا سيما الفرنسي وكذا مسايرة التطورات والاتفاقيات الدولية حتى يتمكن القضاء المغربي بالمقابل من بلورة اجتهاد قضائي وطني مستقل بشأن مسائل التحكيم وايجاد حلول واقعية بدلا من التشبت بحرفية النص القانوني.