تطلعت البشرية منذ القدم إلى حياة آمنة يستقر فيها العمل لتنعم بالطمأنينة، وظل العدل دائما هدف الإنسانية في مختلف مراحل تطورها، وقد الجات المجتمعات القديمة إلى التحكيم لأن القضاء لم يصبح بعد سلطة عامة بما يمثله ذلك من ضمانات. وفي العصر الحديث بدأ التحكيم يعود إلى الواجهة مجددا نتيجة بعض السلبيات التي لحقت بالقضاء، كالليد في الخصومة والبطء في إجراءات التقاضي وغيرها.
وإذ يعد التحكيم من أهم الوسائل البديلة عن القضاء لتسوية المنازعات، فلاشك أن تحديد مفهومه والجوانب القانونية المتعلقة به، سيساعد على تطوير آلياته ليواكب تطور المجتمع، ويسهم في نشر ثقافة التحكيم، لاسيما وأن الدولة الحديثة لم تحتكر وحدها سلطة الفصل في المنازعات التي يمكن أن تنشأ بين مواطنيها، وإنما سمحت لهم بالالتجاء إلى نظام التحكيم للفصل في منازعاتهم القائمة أو المحتملة.
وتتحدد أهمية التعريف بالتحكيم كنظام قانونی حدیث معترف به فی معظم التشريعات ليس فقط كشأن خاص بأطرافه، وإنما لبيان علاقة الغير باتفاق التحكيم، و الخصومة التي تترتب على ذلك الاتفاق، والحكم الصادر عن المحكم، لاسيما وأن العملية التحكيمية تبدأ بعقد وتنتهي بحكم يحوز الحجية، وهو ما يحتم تسليط الضوء على مفهوم الغير في نظام التحكيم.
مفهوم التحكيم
نظام التحكيم هو أداة فعالة للفصل في المنازعات بين الأفراد والجماعات، بدلا من القضاء العام في الدولة الحديثة، ولما كان أحد الوسائل البديلة عن القضاء، كان لزاما تعريفه دون إغفال الغاية من اللجوء إليه، سواء كانت المنازعة المتفق على التحكيم بشأنها محتملة اشرط التحكيم) أو قائمة (مشارطة التحكيم)، وبتعدد طرق تسوية المنازعات بدءا بالقضاء ومرورا بالصلح والوكالة وانتهاء بالخبرة ، وجب تمييز التحكيم عن تلك النظم التي قد تختلط به من خ لال تحديد طبيعته وخصائصه ومزاياه وحتى عيوبه .
والتحكيم كنظام قانوني يعتمد في أساسه على مبدأ سلطان الإرادة الاطراف الاتفاق ، نجد أشخاص التحكيم العادي هم أطراف الاتفاق والمحكم الذي اختاروه، بينما في التحكيم القضائي المختلط- (المطبق في الكويت) يتسع نطاق الأشخاص ليضم إلى جانب المحكم أعوان يحددهم قانون التحكيم القضائي، كما يتضح اختلاف الموضوع والسبب في التحكيم العادي عنهما في التحكيم القضائي.
كما حاول جانب من الفقه التوسع في تعريف التحكيم بذکر عناصره وتقسيماته وحجيته، فهو بنظرهم "نظام قانوني يجيز للأفراد، أو يوجب عليهم، إخضاع ما يثور بينهم من نزاع نشأ فعلا أو لم ينشأ بعد الحكم تحكيم يصدره شخص أو أكثر ينتمي أو لا ينتمي إلى هيئة نظامية المعينة، وتلعب إرادة الأفراد بدرجات متفاوتة دورا في تسميته.
ولعل هذا التعريف برأينا - فضلا عن دقته يبرر لنا الحاجة إلى التحكيم ومسوغات اللجوء إليه، فلا يكفي أن نصفه بنظام بديل عن القضاء الرسمي ، بل يجب أن نحدد الغاية من وجوده وسبب تفضيله على قضاء تضطلع به الدولة بكل ضماناته .
عرفت المحكمة الدستورية العليا في مصر التحكيم بأنه عرض نزاع معين بين طرفين على محكم من الأغيار يعين باختيارهما أو بتفويض منهما أو على ضوء شروط يحددانها ليفصل هذا المحكم في ذلك النزاع بقرار قاطع الدابر الخصومة في جوانبها التي أحالها الطرفان إليه بعد أن يدلي كل منهما
بوجهة نظره تفصيليا من خلال ضمانات التقاضي الرئيسية")، وتعرفله محكمة التمييز الكويتية بأنه"عقد يتفق طرفاه بمقتضاه على عرض المنازعات التي نشأت بينهما، على فرد أو أفراد متعددين ليفصلوا فيه بدلا من المحكمة المختصة.
ونعتقد بأن مهمة تعريف النظم القانونية وضبط معاييرها ليست منوطة بالقضاء، بل هي من صميم عمل الفقهاء والباحثين، والدليل على ذلك أن التعريف الذي أوردته المحكمة الدستورية العليا في مصر لا يحيط بحقيقة التحكيم كاملة، لأن مسألة اختيار المحكم ليست اختيارية محضة وفي جميع الأحوال، فقد يضطر أحد الخصوم إلى اللجوء للقضاء لطلب تعيين محكم عن الطرف الذي تخلف عن اختيار المحكم الذي يمثله، أو تعيين المحكم المتمتع بالصوت المرجح في حالة تساوي الأصوات متى لم يتفق الأطراف على تعيينه.
كما جاء تعريف محكمة التمييز الكويتية مخالفا لواقع التحكيم في الكويت حيث يعانی - حسب وجهة نظرنا - من قصور تشريعي يتمثل في عدم إصدار قانون مستقل للتحكيم العادي، والاستعاضة عنه بقانون تحكيم قضائی، تهيمن فيه السلطة القضائية على إجراءات التحكيم واختيار المحكمين ناهيك عن مسألة التحكيم الإجباري.
وبناء عليه نؤكد بأن القضاء ليس مكلفا بوضع تعريفات محددة للنظم القانونية التي يتعامل بها، حتى لا يلتبس الأمر على المتقاضين والباحثين