التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 39-40 / في عدم وجاهة طلب تأكيد من مؤسسة التحكيم لعدم إبطال حكم التحكيم كشرط لتسجيل طلب إكساء بالصيغة التنفيذية
تتميّز التجربة التحكيمية البحرينية بالديناميكية والقدرة على استنباط حلول وصيغ تتماشى مع حجم السوق ورغبات المتعاملين. من ذلك أنّ البحرين من الدول القليلة (مثل مالطا) التي تسند الاختصاص وجوباً الى مؤسسة تحكيم في نوع معيّن من المنازعات، وقد تمّ تحديدها باعتبار حجم النزاع، بحيث تحال كل النزاعات التجارية التي يتجاوز مقدار الطلب فيها 1.5 مليون دينار بحريني وجوباً إلى غرفة البحرين لفضّ المنازعات BCDR. وقد برهن القضاء الدستوري البحريني على تشبّعه بروح العصر، خصوصاً من خلال حكم المحكمة الدستورية بتاريخ 25 جانفي (كانون الثاني) 2017 في القضية الدستورية رقم د/1/2016 حيث قضت برفض الاستئناف الدستوري على المادة 36 من قواعد التحكيم الخاصة بمركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون الخليجي التي تحدِّد صور الطعن بالبطلان (الإلغاء) في حكم التحكيم الصادر عن المركز في الحالات الآتية:
(أ) إذا تم إقراره في حال عدم وجود اتفاق تحكيم أو استنادًا الى اتفاق تحكيم باطل،
أو إذا كان مقررًا قبل مرور الوقت المحدّد أو إذا كان المحكَّم يتجاوز نطاق الاتفاق المبرم.
(ب) إذا كان الحكم قد أصدره محكمون لم يتم تعيينهم وفقًا للقانون، أو إذا أصدرت الحكم مجموعة ليس لديها السلطة لإصدار حكم في غياب الآخرين، أو أصدر طبقًا لاتفاقية تحكيم لم يقرّ بها موضوع التحكيم، أو أصدر الحكم شخص غير مؤهل قانونًا لإصداره.
واعتبرت المحكمة أنّ هذه المادة لا تخرق الدستور على الرغم من أنها لا تقرّ طرق طعن مماثلة لتلك التي يمكن تفعيلها في صورة اللجوء إلى القضاء العادي، بناءً على أنّ خيار اللجوء إلى التحكيم يضع المحتكمين في وضع لا يتساوى بالضرورة، وبشكل مطلق، مع وضع من يختارون اللجوء إلى المحاكم . وبذلك حصّنت المحكمة التحكيم من التدخّل المسرف للقضاء، الذي من شأنه أن يلغي الجدوى منه.
1. إطار الحكم القاضي برفض منح صيغة التنفيذ:
في قضية حديثة طرحت على محكمة بحرينية، اشترط كاتب المحكمة لتسجيل طلب إكساء بالصيغة لحكم تحكيم صادر في ظل غرفة التجارة الدولية أن يقدّم طالب التنفيذ شهادة من مؤسسة التحكيم (غرفة التجارة الدولية) تفيد أنّ حكم التحكيم لم يقع إبطاله.
وقد تمسّك طالب التنفيذ بأنّ هذا الشرط لا وجود له في القانون ولا في الاتفاقيات الدولية، وأنه غير مطالب بتقديم مثل هذه الشهادة، وأنّ غرفة التجارة الدولية لا تسلّم مثل هذه الشهادة، لكن كاتب المحكمة تجاهل هذه الحجج جميعاً، فاضطرت الشركة الطالبة إلى تقديم شهادات من كاتب محكمة الاستئناف بباريس وكاتب محكمة التعقيب الفرنسية تفيد أنّ الحكم القاضي بمنح الصيغة التنفيذية في فرنسا لم يقع الطعن فيه أمام كلا المحكمتين.
2. المآخذ على استنباط شرط للتنفيذ لا أصل له في القانون:
(أ) غياب السند الواقعي:
انتقد الدكتور عبد الحميد الأحدب هذا التعامل الإداري في كلمته الافتتاحية للعدد 38 من مجلة التحكيم العالمية (الثلاثية الثانية لسنة 2018). والواضح أن هذا الاجتهاد الإداري لا سند له في الواقع ولا في القانون ولا في الاتفاقيات الدولية. وهو يقيم توجهاً تضييقياً غير مبرر، وينقل عبء الإثبات إلى الطرف غير المكلف به قانوناً، ويحشر مؤسسة التحكيم في أمور لا علاقة لها بها، مع تحميلها مسؤولية ذلك دون مبرِّر. كما يمنح كاتب المحكمة صلاحيات تتجاوز في الحقيقة صلاحيات القاضي، وبالتالي يقيم غربالاً سابقاً للتقاضي لا يخضع لرقابة قضائية حقيقية.
ففي الواقع، لا تقوم مؤسسات التحكيم بمثل هذا الدور، وهي لا تملك سجلاّت أو مصادر معلومات حول مصير أحكام التحكيم التي تصدر في ظلها، ولا تعلم وليس بإمكانها أن تعلم في جميع الأحوال إن وقع إبطالها أم لا. وفي القضية موضوع هذا التعليق، لم تستطع الشركة الطالبة أن تقدّم مثل هذه الشهادة من غرفة التجارة الدولية فاضطرت إلى تقديم شهادات من كتبة المحاكم الفرنسية المعنية بالتحكيم الدولي.
فمؤسسات التحكيم تهتم بمصير أحكامها، لكن لا توجد أي آلية تضمن حصولها على هذه المعلومات، إذ أنّ المحاكم لا تُعلم مؤسسات التحكيم بإبطال أحكامها من عدمه، كما أنّ المحكوم لفائدته لا يعلم مؤسسة التحكيم بما آل إليه أمر حكم التحكيم، إذ لا مصلحة ولا فائدة له في ذلك طالما أنّ الأمر يصبح في يد محاكم الدول التي يُطلب فيها الإبطال أو التنفيذ.
وما يزيد الأمر تعقيداً هو أنّ بعض القوانين الوطنية لا تضع قواعد واضحة تبيّن حدود اختصاص محاكمها في مجال الإبطال، ولا تنصّ بكامل الوضوح على أنها لا تنظر إلاّ في إبطال أحكام التحكيم التي تصدر على إقليم تلك الدولة. كما يوجد غموض في خصوص الصورة التي يتفق فيها الأطراف على خضوع التحكيم لقانون دولة غير قانون دولة المقر (كالقانون التونسي مثلاً). ففي هذه الصورة، يوجد خلاف بين قائل بأنّ هذا الخيار يقيم رابطة موضوعية قوية بين التحكيم وتلك الدولة فتصبح محاكمها مختصة بالنظر في طلب الإبطال، وقائل أنّ التحكيم يظل دائماً مرتبطاً بدولة المقر، في ما يتعلق بطلب الإبطال وغيره من الطعون المباشرة كالاستئناف واعتراض الغير، ضماناً لوحدة الاختصاص وتقليصاً لاحتمال تضارب الأحكام.
وهكذا، يمكن أن تتعهد محاكم بلدان مختلفة، ولو بصفة تعسفية أو اعتباطية، بطلب إبطال. فكيف لمؤسسة التحكيم أن تعلم بذلك؟ ثم من كلّف مؤسسة التحكيم بأن تقوم بهذا الدور الذي قد يحمّلها مسؤوليات لا تتحكم فيها وفي حدودها، في غياب مصادر المعلومات؟
(ب) غياب السند القانوني الصحيح:
وفي القانون، يقوم نظام الاكساء بالصيغة التنفيذية على مبدأ جوهري، أقامته اتفاقية نيويورك منذ سنة 1958، وهو الذي طبع قانون التحكيم المعاصر، مقتضاه أنّ من يطلب اكساء حكم التحكيم بالصيغة التنفيذية غير مطالب بإثبات أي شيء، عدا تقديم حكم التحكيم واتفاقية التحكيم، في حين أنّ من يعترض على التنفيذ هو المطالب بإثبات وجاهة اعتراضاته مهما كان نوعها، في ما عدا مخالفة النظام العام الدولي التي يمكن أن تثيرها المحكمة من تلقاء نفسها.
فالصحيح هو أنّ المطلوب التنفيذ ضده هو المطالب بتقديم ما يثبت إبطال حكم التحكيم، وهو أمر يسير وأيسر من إثبات الأمر السلبي، ويحترم منطق التقاضي، إذ أنّ مؤسسة التحكيم ليست طرفاً في الإجراءات القضائية ولا مجال لتحميلها أي التزام في غياب نص قانوني يقتضي ذلك.
وعليه فالمفروض أن يسجِّل كاتب المحكمة طلب الإكساء بالصيغة التنفيذية بما ورد معه من وثائق، وله أن يدوِّن على الملف ملاحظة موجّهة إلى القاضي تشير إلى أنه لم يقع تقديم مثل هذه الشهادة. وهذا إجراء طبيعي يهدف إلى لفت نظر القاضي إلى ما يعتقد الكاتب أنه خلل في الطلب، مع ترك حرية الاجتهاد للقاضي، بحيث لا يتحول الكاتب إلى محكمة قبل المحكمة، لكنه يؤدي دوره الطبيعي في مساعدة القاضي على الالمام بجوانب القضية في حدود صلاحياته.
وهذا الأمر غير مخالف لأي قانون، ومعمول به في بلدان أخرى.
ففي تونس مثلاً، تقدّم أحد أطراف خصومة تحكيمية بطلب إبطال أمام محكمة الاستئناف بتونس ولم يقم بتأمين مبلغ الخطية القانونية المستوجبة لدى الاستئناف (20 ديناراً)، فدوّن كاتب المحكمة على ظهر الملف باللون الأحمر ملاحظة مفادها أنه لم يقع تأمين هذا المبلغ، فتفطنت المحكمة إلى هذا الأمر في حين طلب طالب الإبطال تسجيل رجوعه في طعنه، وجاء في قرار محكمة الاستئناف بتونس ما يأتي:
"لا ترى المحكمة مانعاً من قبول طلب الرجوع في الطعن، خصوصاً وقد فوّض لها محامياً المطلوبة النظر و... يتّجه تمكين طالبة الإبطال من استرجاع المبلغ المؤمّن بعنوان خطية طالما أن لا شيء في القانون يوجب تأمينه أصلاً، (الفصل78 من مجلة التحكيم). و... إنّ المصاريف تبقى محمولة على المتسبب بها ".
ويثير المقطع الأخير من هذا القرار الإنتباه بما أنه يشير إلى عدم وجوب تأمين أي مبلغ بعنوان خطية عند رفع طلب الطعن بالإبطال. فرغم أنّ القاعدة هي الرجوع إلى الإجراءات المعمول بها عادة لدى المحكمة ذات النظر، فإنّ ذلك لا يشمل وجوب تأمين خطية يقع حجزها عند القضاء برفض الطعن. وقد برزت أهمية هذه المسألة في قضية أخرى لاحظ فيها كاتب المحكمة على ظهر ملف القضية أنّ الطاعن لم يؤمِّن الخطية "القانونية". وتصبح المسألة حاسمة بالنسبة لمآل الطعن إذا كان سليماً من كل النواحي الإجرائية والشكلية والأصلية، فيصبح الطاعن مهدداً برفض طعنه لمجرد أنه لم يؤمِّن مبلغاً قدره عشرون ديناراً. ولئن اعتبرت محكمة التعقيب أنه لا يوجد ما يمنع المحكمة من تأخير القضية والإذن للطاعن بتأمين المبلغ المذكور، فإنّ محكمة الاستئناف بتونس اعتبرت أنّ طالب الإبطال ليس مطالباً بتأمينه أصلاً، وهو ما يعني وجوب إرجاع المبلغ المؤمّن (إن تمّ تأمينه) إلى صاحبه بصرف النظر عن مآل الطعن، كما يعني عدم جواز الحكم برفض الطعن لعدم تأمينه .