من المبادئ المسلم بها أن أحد أهم مميزات التحكيم يكمن في مرونة الإجـراءات مقارنـة بإجراءات المرافعات المعتادة أمام المحاكم ولعل الإجتهادات القضائية أشارت الى هذا المعنى من خلال القضاء بأن المحكم غير ملزم بتتبع كافة الإجراءات التي يفرضها القانون على القاضي في إصدار حكمه – ولا سيما الإجراءات الشكلية – إلا المبادئ الأساسية التي تكمن بشكل أساسي في منح الأطراف فرصاً متكافئة لتقديم دفوعهم ومستنداتهم، بالإضافة الى مراعاة القواعـد الآمـرة وعدم مخالفة تلك المتعلقة بالنظام العام.
على الرغم من التطورات الهائلة التي شهدها وما زال يشهدها التحكيم على مستوى العـالم، ولا سيما في العقدين الأخيرين، إلا أن عجلة التطوير تخطو بطيئاً فـي وطننـا العربـي، تـارة لافتقارنا الى التشريعات الحديثة التي يمكن الإستناد إليها لمواكبة ما آل اليه التحكيم عالميا، وتارة أخرى مازال القضاء يشكل عائقا يحول دون مسايرة النهضة التحكيمية على مستوى العالم مـن خلال إصدار الأحكام التي تصدر وتثير إستفهامات عديدة في معظم الأحيان.
لتقريب المطلب إرتأيت أن أتعرض لموضوعين من المواضيع المثيرة للجـدل مـن واقـع قضايا التحكيم التي تعقد في دولة الإمارات العربية المتحدة وتخضع لقانون الاجـراءات المدنيـة المعمول به في الدولة: أحدهما يتعلق بمكان توقيع حكم التحكيم وأثر إغفال توقيعه فـي دولـة الامارات إن كان التحكيم وطنياً، والآخر يتعلق بتوقيع حكم التحكيم وأثر إغفـال توقيـع جميـع صفحاته.
أولاً- مكان توقيع حكم التحكيم الوطني:
تنص المادة (4/212) من قانون الإجراءات المدنية الإتحادي على ما يلي:
"ويجب أن يصدر حكم المحكم في دولة الإمارات العربية المتحدة، وإلا اتبعت القواعد المقررة لأحكام المحكمين الصادرة في بلد أجنبي".
على الرغم من أن غاية المشرع واضحة في أنه أراد التمييز بين القواعد التي تسري علـى التحكيمات الوطنية وتلك الخاصة بالتحكيمات التي تجري خارج الدولة وخصوصا فـي مرحلـة الأمر بإعطاء حكم التحكيم الصيغة التنفيذية تمهيداً لتنفيذه في الدولة، وعلى الرغم من أن المشرع نص في صدر المادة على منح أطراف التحكيم حرية الإتفاق على إجراءات معينة ليسير عليهـا المحكم. إلا أن هاجس بطلان حكم التحكيم الوطني في حال توقيعـه مـن المحكـم أو الهيئـة التحكيمية خارج الدولة يسيطر على أطراف التحكيم وهيئاته، بل حتى على مراكز التحكيم التـي يجري التحكيم وفق قواعدها التي لا تنص على ضرورة وجود المحكـم بشخـصـه فـي دولـة الإمارات ليباشر إجراء توقيع حكمه فيها.
ماذا لو وقع المحكم أو الهيئة التحكيمية أو أحد أو بعض أعضائها حكم التحكيم الوطني خـارج الدولة؟
إزاء عدم وجود إجتهادات قضائية صريحة بهـذا الـشأن فإننـا بـصـدد إحـدى هاتين الفرضيتين:
الفرضية الاولى: بطلان حكم التحكيم:
بما أن المشرع فرق بين القواعد التي تطبق على حكم التحكيم الوطني وتلك المتعلقة بحكـم التحكيم الأجنبي، وإزاء غياب مفهوم مصطلح التحكيم الدولي في قانون دولة الإمارات العربيـة المتحدة، فإن حكم التحكيم الوطني يجب أن يصدر ويوقع داخل الدولة حتى تطبق بشأنه القواعـد الواردة تحديدا في المواد الخاصة بباب التحكيم، وإلا عد توقيعه خارج الدولة مخالفة لقاعدة آمرة يترتب على أثره بطلان حكم التحكيم.
الفرضية الثانية: صحة حكم التحكيم الوطني وإن تم توقيعه خارج الدولة:
إن المشرع قصد التفريق بين حكم التحكيم الوطني الذي تنطبق عليـه القواعـد الإجرائيـة والموضوعية الواردة في المواد من 203-218 من قانون الإجراءات المدنية، وتلـك الخاصـة بأحكام التحكيم الأجنبية التي تصدر خارج الدولة، فتطبق بشأنها إما الشروط الواردة في المـادة (235) من قانون الإجراءات المدنية أو نصوص إتفاقية نيويورك للإعتـراف وتنفيـذ أحكـام المحكمين الأجنبية لعام 1958.
فإذا إتفق أطراف التحكيم في شرط التحكيم أو المـشارطة علـى أن مقـر التحكـيـم هـو دولة الإمارات العربية المتحدة فذلك يكفي لإعمـال القواعـد الخاصـة بالتحكيمـات الوطنيـة وإعتبار حكم التحكيم وطنيا بصرف النظر عمـا إذا تـم توقيعـه أو عقـد جلـسات التحكـيم أو بعض جلساته خارج الدولة، فالعبرة بما إتفق عليه الأطراف وليس بمحـل صـدور وتوقيـع الحكم.
لقد شكلت المادة 4/212 إجراءات مدنية هاجساً للمحكمين ولمراكز التحكـيم فـي دولـة الإمارات العربية المتحدة، ولا سيما في التحكيمات الوطنية، إذ يعتقد البعض أن توقيـع حـكـم التحكيم الوطني خارج دولة الإمارات قد يعد مخالفة لإرادة أطراف التحكيم، مما قد يعرض حكم التحكيم للبطلان، والحال أن المادة – من وجهة نظري الشخصية – بعيدة عن هذا المعنى علـى النحو المشار إليه سلفاً.
ثانياً- توقيع المحكمين حكم التحكيم:
تنص المادة (5/212) من قانون الإجراءات المدنية الإتحادي ما يلي:
"ويصدر حكم المحكمين بأغلبية الآراء .... ويجب أن يشتمل بشكل خاص على صورة من إتفاق التحكيم وعلى ملخص أقوال الخصوم ومستنداتهم وأسباب الحكم ومنطوقه وتاريخ صدوره والمكان الذي صدر فيه وتوقيعات المحكمين، وإذا رفض واحد أو أكثر مـن المحكمـين توقيـع الحكم ذكر ذلك فيه ويكون الحكم صحيحاً إذا وقعته أغلبية المحكمين الخ."
من المسائل الإجرائية التي تثار حول الفقرة أعلاه ما إذا كان يجب توقيع كافة صفحات حكم التحكيم أو أن توقيع الصفحة الأخيرة من الحكم يكفي لإعتباره موقعاً ؟!
على الرغم من أن الفقرة (5) من المادة (212) إجراءات المنوه عنها أعلاه عامة ولم تحدد شكلاً معيناً للتوقيع أو مكاناً معيناً له في الحكم علاوة على أن قواعد مراكز التحكيم في الدولة؟ لم تشترط توقيع جميع صفحات حكم التحكيم، إلا أن الإجتهادات القضائية الصادرة عـن مـحـاكم النقض في الدولة لها آراء مختلفة في هذا الموضوع، إذا قضت محكمة تمييز دبي بعدم لزوم تعدد توقيع المحكم على كافة صفحاته طالما ورد التوقيع بالورقة التي تحمل المنطـوق وجـزء مـن الأسباب، حيث جاء في حكمها ما يلي:
"مـن المقرر وفق ما تقضي به الفقرة الخامسة من المادة (212) من قـانون الإجـراءات المدنية – أن من بين البيانات التي يجب أن يشتمل عليها حكم المحكم توقيع المحكم الـذي نظـر التحكيم بإعتبار أن هذا التوقيع هو السند الوحيد الذي يشهد بوجود الحكم من الناحية القانونيـة، ولأنه من دونه لا يمكن نسبته إلى المحكم، والمقصود بحكم التحكيم منطوقه وأسبابه، ولذلك فإنـه يلزم توقيع المحكمين على منطوق الحكم والأسباب وإلا كان الحكم باطلاً، وتستثنى مـن ذلـك الحالة التي تكون فيها الأسباب أو جزء منها متصلاً بالورقة المدون بها منطوق الحكم والموقـع عليها من جميع المحكمين حيث ينصرف أثر هذا التوقيع على أسباب الحكم بمـا يتحقـق مـعـه غرض المشرع في ما أوجبه من توقيع جميع المحكمين على الحكم ، أما إذا حـررت الأسـباب على أوراق منفصلة عن ورقة المنطوق وجب توقيع كافة أوراقها من جميــع المحكمـيـن الـذين أصدروه بالإضافة إلى الورقة الأخيرة المشتملة على ورقة المنطوق وإلا كان الحكم باطلا وهـو بطلان متعلق بالنظام العام يجوز إثارته لأول مرة امام هذه المحكمة. لما كان ذلك، وكانت صورة حكم التحكيم – محل النزاع – المقدمة بحافظة مستندات المطعون ضدها المرفقة بصحيفة الدعوى تحمل توقيعاً منسوبا إلى المحكم... وهو ما يكفي للقول بصدور هذا الحكم عنه، ولا يلزم قانونـاً تعدد توقيعاته على كافة صفحاته، خاصة وقد ورد في الورقة التي تحمل المنطـوق جـزء مـن الأسباب.......
أما محكمة نقض أبو ظبي فقد قضت بعدم وجوب توقيع جميع صفحات الحكم عدا الـصفحة الأخيرة فقط سواء كانت تلك الصفحة تحمل المنطوق وجزءا من الأسباب أو المنطوق فقط إذ أن الأمر سيان، وعليه قضت المحكمة بما يلي:
"من المقرر على ما جرى به قضاء هذه المحكمـة أن نـص المـادة (212) مـن قـانون الإجراءات المدنية أن المحكم لا يتقيد بحسب الأصل – بإجراءات المرافعات المتبعة في الدعاوى أمام المحاكم ولكنه يلتزم إتباع الإجراءات الواردة في باب التحكيم وما يتفق عليه الخصوم مـن إجراءات معينة، كما يلتزم إحترام حقوق الدفاع بتمكين كل خصم من الإدلاء بما يعن لـه مـن طلبات ودفاع وتمكينه من اثبات ما يدعيه ونفي ما يثبته الخصم الآخر وإتخاذ الإجـراءات فـي مواجهة الخصوم وأن المنوط في بطلان حكم المحكم بسبب مخالفة قواعد المرافعات وهو خروجه عن القواعد الأساسية لإجراءات التقاضي التي تحقق مبدأ المواجهة والمساواة بين الخـصوم ومخالفته الإجراءات المتفق عليها بينهم في هذا الخصوص – وليس من تلك الإجراءات وجـوب توقيع جميع صفحات الحكم، بل إن من المقرر في قواعد المرافعات ذاتها أن نسخة الحكم الأصليه يكفي توقيع رئيس الدائرة صفحتها الأخيرة، وقد خلا نص المادة (131 من قانون الإجـراءات المدنية من وجوب توقيع جميع الصفحات .
الخلاصة:
إزاء تباين الآراء في شأن موضوع توقيع حكم التحكيم ومكان التوقيـع فـي مـا يخـد التحكيمات الوطنية، فإننا نستخلص عدة أمور يجب أخذها بعين الإعتبار حتى يتم تدارك إبطـال حكم التحكيم لأمور شكلية على نحو ما ذكر أعلاه بصرف النظر عما إذا كان التحكـيـم حـراً أو مؤسسيا، فالتوصية التي نستخلصها من هذه الدراسة الموجزة هي:
1. التحقق والعمل قدر الإمكان على توقيع حكم التحكيم الوطني داخـل دولـة الإمـارات العربية المتحدة حتى يتم تفادي بطلان الحكم لعلة توقيعه خـارج الدولـة، وإن كنـت شخصياً لا أرى ولا أتفق هذا التوجه.
2. ضرورة توقيع جميع صفحات حكم التحكيم كمبدأ أمان تفاديـاً للإجتهـادات القـضائية مع المفاجئة والمتباينة.