الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التحكيم / تعريف التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 26 / قانون التحكيم المغربي في محيطه المغاربي دراسة إستقرائية

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 26
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    155

التفاصيل طباعة نسخ

    جاء في محكم التنزيل قول الحق عز وجل:

   "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجـاً مم قضيت ويسلموا تسليماً".

    وهكذا، يستمد قانون التحكيم المغربي جذوره، من مقاصد الشريعة السمحة ومبادئها السامية القائمة على حفظ النفس والعرض والمال، إلى جانب المحافظة على جو الإخاء بين أفراد المجتمع الإسلامي، ونبذ الشحناء والبغضاء واللدد بينهم مصداقا لقوله تعالى:

   "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".

    وكان أيضاً على المشرع المغربي، وهو يضع الهياكل الأساسية لإقامة نظـام التحكـيم أن يستحضر أهم النظم القانونية المعاصرة السائدة، ومن بينها النظامين الروماني الجرماني والنظام الأنجلو أمريكي.

    فالنظام الروماني الجرماني الضارب في القدم تطور عبر العصور في شقه المتعلق بالتحكيم، وأعطى نماذج رائدة في الميدان، نجد أن النموذج الأقرب لنا تاريخياً هو النموذج الفرنسي.

     وإن لمن خصوصيات النظام الفرنسي للتحكيم إرتباطه الوثيق بالإجتهـاد القـضائي علـ مستوى محكمة النقض التي رسمت لمسطرة التحكيم حدودها، كلما تعلق الأمر بتحكـيـم تجـاري دولي، وأرست له قواعده، ليأتي المشرع لإقرار تلك المبادئ والقواعد.

    وهكذا، يمكن رصد أهم هذه القواعد والأسس كالآتي:

أولاً- تحديد نطاق ومجال التحكيم التجاري الدولي:

   وذلك عبر تحديد مجاله في كل ما له علاقة بالتجارة الدولية، أي كل ما له مساس بمـصالح تجارية عبر الحدود.

ثانياً- إستقلالية بند التحكيم:

    فبعد أن إتسع مجال التجارة الدولية، وأصبح العالم بقاراته ودوله مجرد سوق صغير لتبادل الخيرات بين الأمم؛ أضحت الحاجة ملحة لمسايرة هذا المعطى الجديد.

    وبعد أن أكدت الحفريات والدراسات الإركولوجية أن أصل التجمع الإنساني الأول يرجع إلى ضرورة تبادل الخيرات في ما بين المجموعات العرقية، وليس الأصل في ذلك هو التكتل لـصد هجمات المعتدين المحتملة، كما كان الرأي سائداً، إلى حين إكتشاف حفريات تتعلق بتجمع إنساني يرجع إلى عشرات الآلاف من السنين في أمريكا الجنوبية، هو عبارة عن قرية بدائية لـصيادي الأسماك، إختص بعض أفرادها في صناعة أدوات العمل من شباك وغيرها، كما إخـتـص بـاقي أفراد المجموعة في الخروج إلى البحر، وكل فريق يتبادل مع الآخر ما ينتج أو يـصطاد. وقـد توسع مجال هذا التبادل البدائي الأول ليشمل دائرة أوسع لتجمعات قريبة.

    بعد أن تأكد كل هذا، وأجمعت الإنسانية أمرها يوماً من سنة 1994 لتوقع إتفاقيـة التجـارة الدولية، وإنشاء منظمة خاصة بها في مراكش، كان لا بد من تمكين الفاعلين في مجال التجـارة  الدولية من الوسائل الكفيلة لفض نزاعاتهم عبر إقامة نظام تحكيمي، ولإعطاء هذا النظام متانـة أكثر كان لزاماً إضفاء نوع من المناعة عليه، خصوصاً إذا جاء على شكل بند في عقد، إذ يبقـى هذا البند قائماً منتجاً لكافة آثاره القانونية، رغم ما قد يصيب العقد الذي تضمنه من آفات قد تؤدي إلى بطلانه، أو إبطاله أو فسخه.

ثالثاً- إحترام شروط المحاكمة العادلة:

    إن ما يفرض على القاضي إحترامه من مبادئ لتحقيق محاكمة عادلة يفرض أيـضاً علـى المحكم، لأن غاياتهما واحدة، وهي إحقاق الحقوق.

    فمبدأ التواجهية Contradictoire أصبح من المبادئ المستقرة لإقامة محاكمة عادلة، وإلى جانبه يقوم مبدأ إحترام حقوق الدفاع، وإلى جانبهما تقوم كل المبادئ السامية والحقوق التي أقرتها الإنسانية وإعترفت بها، بعد صراع طويل مع الظلم، وضمنت بعضاً منها مواثيقها ومعاهداتها.

    ومن خلال التاريخ السياسي الحديث، نلاحظ مدى الإرتباط الوثيـق بـيـن نـظـام والمؤسسات السياسية لأمة ما، خلال حقبة تاريخية معينة، أي يعكس هذا الإرتباط العلاقة القائمة بين الفرد والسلطة العامة.

   وهكذا، تم الإستغناء عن المحاكم في أوج الثورة الفرنسية؛ وبالمقابل سطع نجـم التحكـيم؛ وعلى العكس من ذلك، تم منع الإلتجاء للتحكيم إبان النظام الفاشي بإيطاليا، وبالمقابل تم تكـريس النظام القضائي وسطوته.

   وطبعاً، يلاحظ أن منحنى تطور نظام التحكيم داخل المجتمعات الإنسانية، يخضع لأهـم المؤثرات السياسية السائدة، ويمر عبر عدة مراحل، في بدايتها يكون نظام التحكيم مجرد استثناء للنظام القضائي ورديفاً له، وبعد ذلك منافساً له، ويقف أمامه كالند للنـد، يصبح ، وفـي مرحلـة متقدمة؛ يتم الإعتراف بالتحكيم كبديل للنظام القضائي، بعد أن يثبت جدارته ونجاعته في ميـدان ما، كما هو الشأن في وقتنا الراهن، إذ حجب التحكيم التجاري الدولي القضاء الداخلي، وأصـبح يعتبر بديلاً منه، ومن هنا أنت تسمية الوسـائل البديلـة لفـض النزاعـات Les procédures alternatives أو حسب التعبير الإنجليزي Alternative dispute resolution.

    وإن المتتبع لمسار تطور النظم القانونية المعاصرة، لا بد من أن يقف على حقيقة مفادهـا سيادة المساطر البديلة ذات الطابع التصالحي مقابل أفول نجم المساطر القضائية النزاعية.

    وهكذا أصبحت الأمم من أقصى الأرض إلى أقصاها، تشجع الأفراد والجماعات والمؤسسات على سلوك المساطر التصالحية.

    وإن إتحادنا المغاربي لن يشذ عن هذا التيار العالمي السائد في إقامة نظام تحكيمي مغاربي. وعليه، سنحاول التركيز على النظام التحكيمي المغربي داخل منظومتـه المغاربيـة، وسنتناول التحكيم الداخلي في مبحث أول، ثم نتبعه بالتحكيم الدولي في مبحث ثان.

مبحث أول

التحكيم الداخلي

   تطرق القانون رقم 08.5 المتعلق بالتحكيم والذي بمقتضاه أدخل تعديلاً على قانون المسطرة المغربي في فرعه الأول إلى تعريفه مع إيراد القواعد العامة التي تحكمه، ثم إلى الهيئة التحكيمية في فرعه الثاني؛ وبعد ذلك إلى الإجراءات والطلبات العارضة، ثم القواعد الموضـوعية، وفـي الأخير إلى القرار التحكيمي.

   وسنتبع المسار نفسه الذي سار عليه المشرع لإستعراض هذه الجوانب في مطالب مستقلة.

المطلب الأول: القواعد المنظمة للتحكيم:

    عرف المشرع المغربي التحكيم رغم كون التعاريف ليـست مـن إختـصاص النصوص القانونية، وإنما هي عمل فقهي وقضائي صرف، وذلك بقوله:

   "يراد بالتحكيم حل نزاع من لدن هيئة تحكيمية، تتلقى من الأطراف مهمة الفصل في نـزاع بناء على إتفاق تحكيم" (الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية المغربي).

   وبعد هذا التعريف التشريعي، إنبرى واضعوه إلى إرساء قواعد محكمة لقيام هذه المنطوقـة القانونية.

الفقرة الأولى: الإتفاق على التحكيم:

    يعتبر التحكيم من أسمى تجليات إرادة الأفراد في إختيار قاضيهم، لذا فهـو ينـشأ رضـائياً لينتهي إلزامياً.

    وقد عرف المشرع كل هذا عندما نص في الفصل 307 من قانون المسطرة المدنية على أن إتفاق التحكيم هو التزام الأطراف باللجوء إلى التحكيم قصد حل نزاع نشأ أو قد ينشأ على علاقة قانونية معينة، تعاقدية أو غير تعاقدية.

   وقد يأتي هذا الإتفاق على شكل عقد تحكيم أو شرط تحكيم ولكل حالة حكمها.

أولاً- عقد التحكيم:

   جاء الفصل 308 بمبدأ عام يجيز لكافة الأشخاص كاملي الأهلية سواء أكانوا طبيعيـين أو معنويين أن يبرموا إتفاقاً على التحكيم في الحقوق التي يملكون التصرف فيها.

    وبعد هذا المبدأ العام، لزم المشرع تخصيص أحكام لكل فئة من المخاطبين بأحكامـه، لأن ما يسري على أفراد القانون الخاص، لا يسري على أشخاص القانون العـام، لأن لكـل منهمـا أحكامه.

1- أشخاص القانون الخاص:

   من المعلوم أن أفراد القانون الخاص، سـواء أكانوا طبيعيـين أم معنـويين Persomes physiques ou morales يخضعون لأحكام القانون الخاص (قانون الإلتزامات والعقود والقانون التجاري).

    وهذا الشخص، إما أن يكون طبيعياً كزيد من الناس أو عمر، أو معنوياً كشركة أمـوال أو أشخاص، ولكل منهما أحكامه ونظامه. والجواز بالنسبة لهذه الفئة مطلق، في إختيـار التحكـيم بالنسبة للمنازعات المتعلقة بكافة مناحي حياتهم، إلا ما إستثني صراحة بنص. والنص هاهنا هـو الفصل 309 من قانون المسطرة المدنية الذي أدخل قيداً على الأصل، إذ جاء فيه "لا يجـوز أن يبرم إتفاق التحكيم بشأن تسوية النزاعات التي تهم حالة الأشخاص وأهليتهم، أو الحقوق الشخصية التي لا تكون موضوع تجارة".

    فالمشرع المغربي إستبعد من مجال التحكيم كل ما له علاقة بالحالة المدنية للأفراد، وذلـك لإرتباطها الوثيق بالنظام العام. كما إستبعد أيضاً كل ما له علاقة بأهلية الأفراد سواء كانت أهلية أداء أو أهلية وجوب، لأنهما خارج كل إتفاق أو تراض بشأنهما. وأتى النص أيضاً بأمر جديـد، وهو عدم قابلية الحقوق الشخصية، والتي ليست موضوع تجارة لإبرام إتفاق على التحكيم بشأنها.

    ومعشر رجال القانون يقسمون الحقوق إلى حق عيني وإلى حق شخصي، فـالأول مـرتبط بعين من الأعيان كحق الملكية مثلاً وما شابهه أو إتصل به من الحقـوق كالـسطحية والهـواء والزينة... ألخ.

    والحقوق الشخصية الناشئة بين الأفراد لا يحتج بها، إلا على من إلتزمها كالكراء المتعلـق بأصل تجاري مثلاً. وتتفرع عن الحق الشخصي بعض الحقوق التابعة كالحقوق السياسية ومـن و أمثلتها الحق في الإنتخاب والترشيح.

2- أشخاص القانون العام:

    تعتبر الدولة ومن في حكمها كالجماعات المحلية والمؤسسات العمومية، ومن في حكمهمـا من باقي الأشخاص الذين تسري عليهم أحكام القانون العام، من مستثنيات المبدأ العـام القاضـي بخضوع الكافة لأحكام التحكيم، أو ما يعرف بعدم أهلية الشخص العام لإبرام إتفاق التحكيم، وقـد جاء نص الفصل 310 من قانون المسطرة المدنية المغربي صريحاً.

   "لا يجوز أن تكون محل تحكيم النزاعات المتعلقة بالتصرفات الأحادية للدولة أو الجماعـات المحلية أو غيرها من الهيئات المتمتعة بإختصاصات السلطة العمومية".

    وقد حاول المشرع جاهداً، أن يضيق من نطاق المنع أعلاه، والمتعلق بأشخاص القـانون العام، فأورد قيداً أولاً على المنع، إذ جعله لا يسري إلا بخصوص التصرفات الأحادية الجانـب، أي تلك الصادرة عنهم بصفة إنفرادية.

   أما القيد الثاني، الوارد على المنع فقد جاء مباشرة بمقتضى الفقرة الثانية من الفصل أعلاه.

    "غير أن النزاعات المالية الناتجة منها (أي من التصرفات الأحادية الجانب) يمكن أن تكون محل عقد تحكيم ما عدا المتعلقة بتطبيق القانون الجبائي"، فواضح إذن أن المشرع أراد أن يخرج من نطاق المنع كل العقود التي يبرمها أشخاص القانون العام والتي تكتسي طابعاً مالياً.

    والملاحظ أن التدقيق المصطلحي قد خان المشرع هذه المرة بإيراده لفظة مالية التـي لهـا مدلول خاص في مجال الإقتصاد والقانون؛ وحبذا لو إستعمل المشرع لفظة تجارية، لكان المـراد أدق وأوضح.

   أما القيد الثالث فقد جاء كاشفاً عن فلسفة المشرع وأهدافه السامية، المتشوقة إلى بسط نطاق التحكيم ليشمل الأشخاص العامة أيضاً، إذا أبرمت عقوداً محل إتفاق تحكيم، شريطة أن يأتي هذا الإتفاق في نطاق المقتضيات الخاصة بالمراقبة أو الوصاية المنصوص عليها بمقتضى النصوص التشريعية التنظيمية الجاري بها العمل في ما يخص كل عقد بعينه (الفقرة الثالثة من الفـصل 310 أعلاه).

   وبالنظر لطبيعة عقد التحكيم الذي ينشأ بعد أن يثار النزاع بين أطراف العلاقة، فإن المشرع أوجب أن يتضمن تحت طائلة البطلان ما يلي:

    - تحديد موضوع النزاع؛

    - تعيين الهيئة التحكيمية أو التنصيص على طريقة تعيينها.

     يكون العقد لاغياً إذا رفض محكم معين فيه القيام بالمهمة المسندة إليه.

     وأعتقد جازماً أنه إذا خول لأطراف الإتفاق التحكيمي حرية إختيار الهيئة، أو علـى الأقـل رسم الطريقة التي يمكن أن يتم بها هذا الإختيار، فإن الجزاء المترتب على عدم قبـول المحك القيام بالمهمة المسندة، وهو أن يصبح العقد لاغياً، جزاء غير مؤسس على سند قانوني صـحيح وذلك لسببين:

     أولهما: إن التشريعات المدنية، ومن بينها قانون الإلتزامات والعقود المغربـي، لا يتـضمن أي جزاء بالنسبة للعقود المختلة من قبيل الإلغاء، وبالتالي لا نعـرف المـصدر الـذي إعتمـده المشرع الحالي لتطبيق هذا الجزاء الخطير، والذي يختلف إختلافاً جوهرياً عن البطلان والإبطال والفسخ.

    ثانيهما: إنه إعمالاً لقاعدة نسبية آثار العقد، فإن مقتضيات هذا الأخير لا تنفع ولا تـضر إلا أطرافه، وبالتالي فإن الغير الذي لم يكن طرفاً أصلياً ولا خلفاً عاماً ولا خاصاً لا يمكنه الإحتجاج بمقتضيات عقد هو أجنبي عنه، ومن ثم لا يمكنه طلب إلغائه لأن لا صفة له في ذلك.

    وبمفهوم المخالفة، لا يحق لطرفي العقد الإحتجاج على الغير بمقتضياته، إلا في نطاق مـا يخوله القانون؛ فبالأحرى لا يمكن أن يترتب البطلان على رفض الغير الإنضمام إلى عقـد مـن العقود حتى ولو كان عقد تحكيم.

    وفي تصورنا، لا يخرج تعيين المحكم عن مجرد دعوة إلى التعاقد، قد تثمر وقد لا تثمـر، وبالتالي لا يتأثر بها الإتفاق الأساسي.

    وبخصوص الجزاء الذي رتبه المشرع المغربي على عدم قبول المحكـم المختـار القيـام بالمهمة المسندة إليه، فإنه يخرج عن هذا التأصيل القانوني السليم، إذ رتب على عدم قبول شخص أجنبي إتفاق تحكيم صحيح بين طرفين، جزاء إبطال الإتفاق من أساسـه، وكـان مـن الأجـدر الرجوع إلى الحالة الطبيعية التي تجري عليها الأمور دائماً، إذ يرسم الأطراف طريقـة إختيـار محكميهم، كأن يختار المدعي مثلاً محكمه، ويختار المدعى عليه محكمه، وبعد ذلك يتم إختيـار المحكم الثالث من قبل المحكمين المختارين وعند عدم الإتفاق على المحكم الثالث، يتدخل القاضي لتعيينه، وهذه حالة كان منصوصا عليها في نطاق قانون المسطرة المدنية القديم (مادة 309) وتم الإحتفاظ بهذا المقتضى بصريح نص الفصل 327.4 من ذات القانون الجديد.

    وما دام القضاء يتدخل لتعيين المحكم الثالث لإنفاذ مسطرة التحكيم، فإنه يمكنه دائماً وأبـداً، وفي كل وقت، وحين التدخل من باب أولى وأحرى، لإنقاذ الإتفاق التحكيمي برمته من الإلغـاء، ويتم تعيين محكم خلفاً للمحكم الذي رفض القيام بمهمته، ونكون بالتالي قد طبقنا المساطر تطبيقـاً سليماً، ولم نترك مصير إتفاق قانوني معلقاً على إرادة شخص يعتبر في حكم الغير، وهو منطـق لا يقبله أي عقل سليم.

ثانياً- البند التحكيمي:

   إن إطلاق تسمية الشرط التحكيمي من قبل العديد من التشريعات، ومـن بينهـا التـشريع المغربي يضفي على الأمر نوعاً من الإلتباس، على الأقل في ذهن أهل القانون، لأن لمـصطلح الشرط عندهم معنى مخصوصاً، وهو أمر يتوقف على وقوعه أو إنعدامه بقاء الإلتزام أو زوالـه حسبما يكون الشرط واقفاً أو فاسخاً.

    وإن المقاربة بين اللغات تساعد على هذا الفهم، إذ أن المشرع الفرنـسـي يـسمي الأمـور بأسمائها ويطلق على بند التحكيم تسمية Clause Compromissoire ومصطلح clause يقابلـه في لغتنا مصطلح بند، ولو تعلق الأمر بشرط لأطلق مصطلح Condition، وشتان بينهما.

    وبخصوص هذا البند، إقتصر المشرع على تعريفه في المقام الأول، وتحديد شروط صحته في المقام الثاني، وعلى مبدأ إستقلاليته في المقام الثالث.

1- تعريف بند التحكيم:

    نص الفصل 316 من قانون المسطرة المدنية المغربي على أن:

"شرط التحكيم هو الإتفاق الذي يلتزم فيه أطراف عقد بأن يعرضوا على التحكيم النزاعـات التي قد تنشأ عن العقد المذكور".

   والملاحظ أن المشرع المغربي قد ضيق من نطاق تطبيق البند، إذ قصره على العقد الـذي يتضمنه، وبخصوص المنازعات التي تثار من العقد ذاته.

2- شروط قيام البند:

أ- شرط الكتابة:

   يعتبر شرط الكتابة بالنسبة لبند التحيكم شرط وجود وليس مجرد وسيلة إثبات، وبالتالي فإن البنـد غير المكتوب يعد هو والعدم سواء، ولا يحق لأطراف العلاقة إثباته بأية وسيلة أخرى غير الكتابة.

    وهنا يطرح تساؤل بخصوص إمكانية إثبات وجود البند بواسطة الإقرار.

    أعتقد جازماً، أن الإقرار هو سيد الأدلة، وأنه يعلو مرتبة حتى بالنسبة للوثيقـة المكتوبـة وقد تنبه المشرع المغربي لهذه المسألة، واعتبر أن البند الذي أغفل تـضمينه بالعقـد الأساسـي يمكن تداركه في وثيقة مستقلة تحيل عليه وبشكل لا لبس فيـه (الفقـرة الأولـى مـن الفـصل 317 ).

   وهنا لا بد من التأكيد على أمر هام، وهو أنه إذا كان بإمكان طرفي العلاقة الإقرار بوجـود بند تحكيمي تم إغفاله في العقد الأساسي، ومن ثم إبرام إتفاق جديد بشأنه يأتي على شكل مكتوب، فإنه ليس بإمكان أحدهما إثبات وجوده بإقراره المنفرد، إذا أنكره عليه الطرف الآخر ولـم يقـر بوجوده.

ب- تعيين المحكم أو المحكمين:

   مرة أخرى يشترط المشرع لصحة بند التحكيم أن يتضمن تعييناً للهيئة التحكيمية، أو علـى الأقل رسم الطريقة التي يتم بها هذا التعيين. ومعلوم أنه حالة نشوب خلاف حول تعيين المحكـم يمكن الإلتجاء إلى القضاء لفصل الموضوع بأمر لا معقب عليه (الفصل 327.5) وبالتـالي فقـد أحسن المشرع صنعا، عندما وضع بين يدي الأطراف، الميكانيزمات والوسائل القانونية الكفيلـة بتجاوز العقبات المتعلقة بإختيار الهيئة التحكيمية، ومباشرة أشغالها.

ج- جزاء تخلف أحد الشرطين:

    لقد رتب المشرع على تخلف شرط من الشرطين أعلاه جزاء البطلان، وأعتقـد جازمـاً أن المشرع لم يكن منسجماً هذه المرة على الأقل مع الخط الذي رسمه منذ البداية للمحافظة على بقاء البند التحكيمي وصحته. وهذا الإنسجام المفتقد عبر عنه المشرع نفسه مباشرة في الفصل 318 من القانون ذاته، فبعد أن قرر بطلان البند الذي إختل شرط من شروط قيامه، قرر مباشـرة أن هذا البند يبقى قائماً رغم بطلان العقد أو فسخه أو إنهائه. فكان بالأحرى تضييق سبل بطلان البند أولا، ثم إضفاء صفة الإستقلالية عليه ثانياً، ليحصل الإنسجام بين مكونات النص.

    وفي إعتقادي أن جزاء البطلان بخصوص شرط تضمين الهيئة التحكيمية على الأقل، غيـر متصور حدوثه، ما دام محول للطرفين معاً إمكانية اللجوء إلى القضاء في نطاق الفصل 327.5 المشار إليه أعلاه. كما أن عدم التقيد بشرط الكتابة، يمكن تجاوزه في كل وقت وحين بإبرام إتفاق جديد يحيل على الإتفاق القديم ويشير اليه .

3- استقلالية البند Autonomie de la clause compromissoire:

    تسجل هذه الحسنة لفائدة تشريعنا المغربي، الذي أدخل مبدأ من مبادئ التحكيم التجـاري الدولي، ألا وهو مبدأ إستقلالية بند التحكيم، ضمن قواعد التحكيم الداخلي. وإن إدخال هذا المبدأ، ليعبّر كما أسلفنا عن مدى تشوق المشرع للمحافظة على الإتفاق التحكيمي برمته وعلـى صـحة البند ووجوده على وجه الخصوص.

    ولنا وقفة مطولة بخصوص طبيعة البند التحكيمي وإستقلاليته عنـدما سنتناول التحكيم التجاري الدولي، وهو المكان الطبيعي لدراسة الموضوع بتفصيل.

الفقرة الثانية: صور التحكيم:

   يكون التحكيم إما خاصاً أو مؤسساتياً (الفصل 319 الفقرة الأولى).

أولاً- التحكيم الخاص ADHOC:

   يعتبر التحكيم الخاص ADHOC هو الأصل، إذ يتم بمعرفـة أطرافـه، فهـم يختـارون محكميهم الذين ينظمون إجراءاته دون تدخل من أية جهة خارجية، وذلك بإتباع مسطرة معلومـة تم الإتفاق بشأنها مسبقاً (الفقرة الأولى من الفصل 319).

    وقد حاول المشرع تنظيم مؤسسة المحكم الخاص، إذ أوجب على الأشخاص الطبيعيين الذين يقومون إعتيادياً في إطار المهنة بمهام المحكم، إما بصورة منفردة، أو في نطاق شخص معنـوي يعتبر التحكيم أحد أغراضه الإجتماعية، أن يصرحوا بذلك إلـى الوكيـل الـعـام لـدى محكمـة الإستئناف الواقع في دائرة نفوذها محل إقامـة الأشخاص الطبيعيـيـن المـذكورين، أو المقـر الإجتماعي للشخص المعنوي (الفصل 321). ويعد إحداث هذا التنظيم تحـت سـلطة ومراقبـة القضاء من أهم مستجدات النص المغربي، وميزة من مميزاته.

ثانياً- التحكيم المؤسساتي Arbitrage Institutionnel:

    وهو التحكيم الذي يتم بمعرفة مؤسسة قائمة لهذا الغرض بالذات، وقـد تكـون مؤسـسات التحكيم وطنية، كالمؤسسات التابعة لغرف التجارة أو الصناعة في معظم دول العالم، وقد تكـون دولية كمحكمة التحكيم الدولية التابعة لغرفة التجارة الدولية بباريس، أو الجمعية الأمريكية للتحكيم بنيويورك American Arbitration Association، وقد تكون هـذه المؤسسات قطاعيـة كمؤسسة التحكيم الخاصة بتجارة القطن، أو النقل البحري بإنجلترا.

    وسواء أكان التحكيم خاصاً أو تابعاً لمؤسسة فتقع على كاهل المحكم عـدة إلتزامـات، من أهمها كتمان السر المهني، وأن يكون خارج مجال التجريح المنصوص علـى حالاتـه على وجه التحديد بصريح نص الفصل 322 وما يليـه مـن قـانون المـسـطـرة المدنيـة المغربي .

 المطلب الثاني: إجراءات التحكيم:

   تعكس إجراءات التحكيم أهم سمة من سماته المميزة، وهي أنه قضاء بالتراضـي، ترجـع للطرفين وحدهما وللمحكمين مهمة رسم الإجراءات الكفيلة لتحقيق السرعة المتطلبة للفصل فـي النزاع في وقت معلوم ومعقول، ثم النجاعة، إعمالاً بمبدأ الغائية المسطرية، إذ أن وضـع أي

 إجراء مسطري يرجى من ورائه تحقيق غاية ما للوصول إلى الحقيقة؛ وكل إجراء لا يرمي إلى تحقيق غاية يعتبر زائداً.

    وهكذا وضع المشرع مجموعة من الضوابط لتحقيق التحكيم هذه الغايـة الـسامية وبلـوغ المرمى والهدف.

أولاً- إختصاص الإختصاص Compétence de la competence :

    إن من حسنات النص المغربي أنه حسم مسألة كانت مثار العديد من المشاكل التي قد تعوق مسطرة التحكيم بأكملها، ألا وهي مسألة إختصاص المحكمين.

    فإذا كان إختصاص المحكم مقيداً بقيدين، أحدهما عام ويتعلق بنطـاق المنازعـات القابلـة للتحكيم، وتلك الخارجة عن هذا النطاق، كما حددها الفصل 309، وثانيهما خاص وهو موضوع النزاع، كما حدده وحصره أطراف النزاع، فإن مسألة الإختصاص من أهم المشاكل العارضـة التي تؤرق المحكم.

    ولرفع هذا العنت، تدخل المشرع لتمكين المحكم من بت إختصاصه، ويكون الأمر الـصـادر في هذا الشأن نهائيا ولا يقبل أي طعن.

   ومجال تحرك المحكم لا يقتصر على مجرد بت إختصاصه، بل يمتد إلى مجال أرحب،‘إلا وهو بت مدى صحة الإتفاق التحكيمي الذي يستمد منـه مـشروعية مهمتـه (الفـصل 327-9 ).

ولمساعدة الهيئة على إتخاذ القرار الصائب بخصوص الإختصاص، وضع المشرع بين يديها إمكانية طلب إستشارة النيابة العامة في شخص الوكيل العام للملك لدى محكمـة الإسـتئناف ذات الإختصاص المكاني بالنظر إلى مكان التحكيم، وذلك قصد موافاة الهيئة بالمعلومات التي تراهـا مفيدة بالنظر إلى مقتضيات الفصل 308 من ذات القانون، وأوجب الـنص علـى هـذه الجهـة القضائية السامية أن توافي الهيئة بالمعلومات المطلوبة، والعناصر القانونية اللازمة لبـت داخـل أجل خمسة عشر يوما التالية لرفع الطلب .

  وهنا، تظهر مدى الأهمية القصوى التي تكتسيها مسطرة التحكيم، وتستدعي تدخل الوكيـل العام في إجراءاتها لتذليل الصعوبات وتجاوز العقبات وإنارة الطريق أمام المحكمين.

ثانياً- قواعد الإجراءات:

   تضبط الهيئة التحكيمية إجراءات مسطرة التحكيم التي تراها مناسبة مـع مراعـاة أحكـام القانون الإطار، دون أن تكون ملزمة تطبيق القواعد المتبعة أمام المحاكم، ما لم يتفق الأطـراف على خلاف ذلك (الفصل 327.10)، وهذه أيضاً من أهم سمات التحكيم، وموطن قوتـه، وهـي الإبتعاد المطلق عن إجراءات التقاضي المعقدة، إلا أنه ليس هناك ما يمنع الأطراف مـن إحالـة المحكمين على إعمال قواعد إجراءات معينة ومعدة سلفاً كالقواعد المعمول بها في قانون التحكيم الفرنسي مثلاً أو الإلماني.

ثالثاً- إجراءات التحقيق في الدعوى :

    للمحكم أن يأمر بكافة إجراءات التحقيق في الدعوى التي يعمل بها القاضـي دون قيـد أو شرط.

   فله مثلاً، أن يأمر بإجراء بحث بين الطرفين، كما له أن ينتدب من يراه أهلاً من أهل الخبرة والفن والصناعة لإستجلاء نقطة تقنية أو فنية لا قبل له بها؛ كما له أن يستمع إلى الشهود وإلـى أي شخص يرى فائدة في الإستماع إليه، وله سلطة إستيفاء اليمين القانونية قبل الإستماع إلـى هؤلاء .

   وبإمكانه أخيراً أن يقوم بكل ما يراه لازماً ومفيداً للوصول إلى الحقيقة، كالمعاينـات مـثلاً سواء بشخصه أو بواسطة مندوب ينتدبه (الفصل 327.11).

رابعاً- الإجراءات الكتابية والمرافعات الشفوية:

   تتم الإجراءات الكتابية أو الشفوية باللغة العربية، إلا إذا تم الإتفاق على إعتماد لغة أخـرى، ويتعين ترجمة كل الوثائق والمذكرات إلى اللغة المعتمدة (الفصل 327.13) .

   وتنطلق الإجراءات بمقتضى صحيفة بالدعوى أو مقال يرسل خلال الموعد المتفق عليه بين الطرفين أو الذي تعينه هيئة التحكيم، صادر عن المدعي وموجه إلى المدعى عليـه وإلـى كـل المحكمين، يشتمل على إسمه وعنوانه، وإسم المدعى عليه وعنوانه، وشـرح وقـائـع الـدعوى، وتحديد المسائل موضوع النزاع والطلبات؛ مرفقاً بالوثائق والأدلـة المثبتـة للحـق (الفـصل 3.7.14).

   ويتعين بعد ذلك أن يرد المدعى عليه بواسطة مذكرة مكتوبة تتضمن أوجه دفاعه، وكذا كافة دفوعاته.

  وله الحق في أن يتقدم بطلب عارض أو طلبات، كما له أن يتقدم بطلب معـارض متـصل بموضوع النزاع، كما له الحق في أن يتمسك بحق ناشئ عنه بقصد الدفع بالمقاصة متى توافرت شروط هذه الأخيرة، وعليه أن يرفق كل هذا بالوثائق ووسائل الإثبات التـي ينـوي إعتمادهـا. و (الفقرة الثانية من الفصل 327.14).

    تبقى للهيئة السلطة التامة المطلقة لطلب توضيح كل أمر مبهم، أو تكملة بيـان نـاقص، أو الإدلاء ببينة حاسمة في النزاع، شريطة التقيد بمبدأ الوجاهية، الذي يفرض ألا تعتمد أية وثيقة في الحسم، إلا إذا عرضت ونوقشت من قبل الطرف الآخر، وقال كلمته فيها.

   وخلال كل هذا، يحق لكلا الطرفين تعديل طلباتهما، وأوجه دفاعهما وإستكمالها، ما لم تقرر هيئة التحكيم عدم قبول ذلك، منعاً لإعادة فصل النزاع (الفقرة الخامسة من الفصل 327.14).

    وهنا كان المشرع دقيقاً، إذ سمح بتعديل الطلبات، ولم يسمح بتعديل سبب الدعوى مـثلاً أو نطاق النزاع، لأن نطاق النزاع محدد سلفاً ومتفق بـشأنه، ولا يحـق لا تنطـرفين ولا للمحكـم تعديله.

   فالنزاع المثار بخصوص عقد يتضمن بندأ تحكيمياً محدد نطاقه في ذات العقـد، ولا يحـق تمديد مسطرة التحكيم لتشمل منازعات مثارة خارج ذات العقد.

    وللهيئة التحكيمية الكلمة الفصل، بخصوص قبول الطلبات المعدلة، وذلك بالإعتمـاد علـى الإتفاق التحكيمي أساساً، و ومحضر إسناد المهمة إذا أنجز، ومدى إرتباط الطلبات الجديدة بالطلـب الأصلي.

   وأخيراً، بإمكان الأطراف او نوابهم، تقديم مرافعات شفوية لشرح موضوع الدعوى وعرض الحجج والأدلة.

خامساً- الإجراءات التحفظية:

   يجوز للهيئة ما لم يتفق على خلاف ذلك، أن تتخذ بطلب من أحد الأطراف كل تدبير مؤقت، أو تحفظي تراه لازماً في حدود مهمتها (الفقرة الأولى من الفصل 327.15).

   وهنا يكون المشرع، قد حسم في مسألة قد كانت مثار خلاف لمدة طويلة، حول إختـصاص المحكمين لبت الإجراءات التحفظية التي تكون الغاية منها المحافظة على حق هـذا الطـرف أو ذاك، أو الأمر بالحراسة على مال أو عقار موضوع النزاع إلى أن يحسم في أمره؛ إلى غير ذلك مما يدخل في نطاق الإجراءات التحفظية.

    ولنفاذ الأمر الذي تصدره الهيئة تحفظياً، وضع المشرع بين يدي الطرف الذي صدر الأمر لصالحه، إمكانية اللجوء إلى القضاء ممثلاً في رئيس المحكمة الذي يجري التحكيم داخل دائـرة إختصاصه، لإستصدار أمر بالتنفيذ، وهنا تنتقل إجراءات التنفيذ لتتم بمعرفة السلطة القضائية، لما تتوافر عليه من وسائل للإجبار.

   وهذه أيضاً من مستجدات القانون الجديد، إذ لم يقتصر تمكين الهيئة من بت النزاع في أصل الحق، وبت أيضاً كل ما يحيط بهذا الحق من ضمانات للمحافظة عليه، بل مكن الهيئة من تنفيـذ مقرراتها المؤقتة والتي ليس لها مساس بأصل الحق بواسطة السلطة القضائية، التي تبقى دائمـاً وأبدأ خير سند ومعين للهيئة التحكيمية في كل وقت وحين.

المطلب الثالث: القواعد الموضوعية:

    تطبق هيئة التحكيم على موضوع النزاع القواعد القانونية التي يتفق عليها الطرفان. (الفقرة الأولى من الفصل 327.18).

   وهذا أيضاً مظهر من مظاهر سيادة المحتكمين، المتمثلة في إختيار القواعد القانونية الواجب تطبيقها للفصل في النزاع. وقد تكون هذه القواعد المرجعية مرتبطة بقانون معين، أو نظام قانوني بعينه، كما يمكن أن تكون منبثة الصلة بكل القوانين الوضعية، وتستمد مشروعيتها من القواعـد العامة LEXMERCATORIA أو فقط مستمدة من المبادئ القانونية المتفق عليها بين الأمـم المتحضرة.

    وفي حالة عدم الإتفاق على قانون موضوعي، فإن الهيئة تطبق القواعد الموضوعية، في القانون التي ترى أنه أكثر إتصالاً بالنزاع، وعليها في جميع الأحوال، أن تراعي شـروط العقـد مـوضـوع النزاع، وتأخذ بعين الإعتبار الأعراف التجارية والعادات، وما جرى عليه التعامل بين الطرفين (الفقرة الثانية في الفصل 327.18). وهذا بالطبع مجال واسع وشاسع يمكن الهيئة من التحـرك بكـل حرية.

   فإذا كان القاضي لا يتحرك إلا في نطاق ضيق من القواعد القانونية الآمرة ولا يحيد عنهـا أبدأ وإلا تعرض حكمه للإلغاء بسبب مخالفة القانون، أو تطبيقه غير السليم له، فإن للمحكم حرية إختيار القواعد القانونية الملائمة لموضوع النزاع شريطة مراعاة ما يلي:

  • أن تكون هذه القواعد ذات صلة بالنزاع المعروض عليه، فالمحكم الذي يبت نزاعـاً مدنياً صرفاً، يتعين عليه أولاً تطبيق قواعد القانون المدني التي لها صـلـة بـالنزاع، والمنازعة التجارية تستدعي تطبيق قواعد القانون التجاري، مع مراعاة خصوصية هذا القانون، من حيث حرية الإثبات، وحماية المقاولة إذا كان مصيرها مهدداً، لما في ذلك من محافظة على مناصب الشغل، وبإعتبارها الخليـة الأساسـية سیج 37 الإقتصادي .

  • أن يحصل تجانس بين القواعد المختارة، وبين مقتضيات العقد وشروطه، إذا تعلق الأمر بتحكيم في إطار بند في العقد، فيما يسري من قواعد العقود البنكية، يختلف إختلافاً تامـاً عن عقود القرض بين الأفراد، لأن الأولى تبرم في نطاق نظـام مـعـيـن وهـو مدونـة الإئتمان، أما الثانية فتبرم في نطاق القواعد العامة للقرض.

  • أن يراعي عند إختيار القواعد الموضوعية، ما جرى به العرف، وما سار من العـادات المرعية بين الأفراد، والعادات المستحكمة تقوم مقام الأعراف، وإلى جانب هـذه وتلـك يتعين مر اعاة ما جرى به التعامل بين الطرفين.

وإن أقصى ما يمكن أن تبلغه حرية الهيئة، هو الفصل في النزاع بناء على قواعـد العـدل والإنصاف، بعيدا عن النصوص القانونية، وذلك إذا خولت مهمة الفـصل كوسيط بالتراضـي (الفقرة الأخيرة من الفصل 327.18).

المطلب الرابع: المسائل العارضة والطعن بالزور الفرعي:

    تعد من قبيل المسائل العارضة، كل مسألة تثار خلال النظر في النزاع، ويكون من واجـب المحكم إيقاف البت إلى حين الفصل فيها، ومن بينها الطعن بالزور الفرعي.

    فإذا تم الطعن بالزور في ورقة أو سند قدم أمام الهيئة التحكيمية واتخذت إجراءات جنائيـة بـشأن تزويره، يجوز للهيئة الإستمرار في النزاع، إذا إرتأت أن الفصل في المسألة أو فـي التزويـر أو فـي إدعاء الزور ليس لازماً للفصل في موضوع النزاع، وإلا أوقفت الإجراءات حتى يصدر حكـم نـهـائي في الموضوع، ويترتب على ذلك، وقف سريان الموعد المحدد لإنهاء حكم التحكيم (الفصل 327.27).

    الملاحظ أن المشرع قد أطال وأطنب، وهو يؤكد قاعدة مشهورة في فقه الإجراءات، ويتعلق الأمر بالقاعدة القائلة بأن الجنائي يعقل المدني.

    أما الاشكال الذي تغاضى عنه المشرع، فيتعلق بالحالة التي يتم فيها الطعن بالزور الفرعـي أثناء النظر في النزاع دون اللجوء إلى المسطرة الزجرية، فهل يحق للمحكم النظـر فـي هـذه المسألة العارضة إعمالا لقاعدة ان قاضي الأصل هو قاضي الفرع؟    

    في إعتقادنا، لا يحق للمحكم النظر في المسائل العارضة، لأنه مقيد بالإتفاق التحكيمي ومـا رسم فيه من حدود، وبالتالي إذا أثيرت أمامه مسألة الزور الفرعي، وجب علـى الأطـراف أن يرفعوا أمرهم أمام القضاء المختص لبت مدى صحة الوثيقة أو زورها، ويتعين على هيئة التحكيم إيقاف البت إلى حين صدور حكم نهائي حائز لقوة الشيء المقضي به.

المطلب الخامس: القرار التحكيمي:

    يصدر الحكم التحكيمي بأغلبية الأصوات بعد مداولة الهيئة التحكيمية ويجب علـى جميـع المحكمين التصويت لفائدة مشروع الحكم التحكيمي أو ضده وتكون مداولات المحكمـين سـرية (الفصل 327.22).

    يتعين أن يحرر الحكم كتابة، ويجب أن يشار فيه إلى إتفاق التحكيم وعرضاً موجزاً للوقائع، وإدعاءات الأطراف، ودفوعاتهم على التوالي، والمستندات، وبيان النقاط التي تم الفصل فيهـا بمقتضى الحكم التحكيمي وكذا منطوقا لما قضى به (الفصل 327.23).

    يجب أن يكون الحكم التحكيمي معللاً، ما لم يتم إتفاق الأطراف على خلاف ذلك في إتفـاق التحكيم؛ أو كان القانون الواجب التطبيق على مسطرة التحكيم لا يشترط تعليل التحكيم .

   إذا تعلق الأمر بنزاع يكون أحد الأشخاص الخاضعين للقانون العام طرفاً فيـه، فيجـب أن يكون دائماً معللاً.

   يكتسب الحكم التحكيمي بمجرد صدوره حجية الشيء المقضي به بخصوص النزاع الذي تم الفصل فيه.

   غير أن الحكم لا يكتسب هذه الحجية، عندما يتعلق الأمر بنزاع يكـون أحـد الأشخاص الخاضعين للقانون العام طرفاً فيه، إلا بناء على أمر بتخويل صيغة التنفيذ، وفي هـذه الحالـة، يطلب إعطاء الصيغة التنفيذية من قبل الطرف الأكثر إستعجالا أمام القاضي المختص (الفـصل  327.26 ).

    لا يجوز نشر حكم التحكيم أو نشر أجزاء منه إلا بموافقة طرفي التحكيم. (الفقرة الأخيرة من الفصل 327.27).

    وهو تأكيد لمبدأ سرية التحكيم، والمحافظة على سـرية إجراءاتـه وكـذا كـافـة الوثـائق والمرافعات الخاصة به.

المبحث الثاني:

التحكيم الدولي

   سار المشرع المغربي على نهج التشريعات التي تميز بين التحكـيم الـداخلي والتحكـيم الدولي .

    وهكذا تطرق إلى تعريف هذا التحكيم، ثم حدد الإجراءات المسطرية لإتمامه، ورسم القواعد الموضوعية لبت منازعاته، ثم بعد ذلك تعرض لمسطرة الطعن في القـرارات الصادرة عـن هيئاته، وفي الأخير تعرض لمسطرة الإعتراف به، مما يتوجب التطرق إلى كافة هذه الجوانـب في فقرات مستقلة.

الفقرة الأولى: ماهية التحكيم الدولي:

    بداية حدد المشرع الإطار القانوني للتحكيم الدولي، كمؤسسة قائمة بذاتها، تنظم أحكامهـا مقتضيات الفرع الثاني من القانون عدد 08.05 القاضي بنسخ وتعويض الباب الثامن من القـسم الخامس من قانون المسطرة المدنية المغربي، مع التركيز بخضوعه أيـضاً لأحكـام المواثيـق والإتفاقيات الدولية التي صدق عليها المغرب والمنشورة بالجريدة الرسمية (الفصل 327.39).

    والمشرع هاهنا أراد أن يؤكد على التزام صريح بسمو المقتضيات المعترف بها بمقتـضى مواثيق دولية، على النص الداخلي والتعارض بينهما، وذلك عندما نص على أنه:

    "تطبق مقتضيات هذا الفرع على التحكيم الدولي، دون الإخلال بما ورد في الإتفاقيات الدولية المصادق عليها من لدن المملكة المغربية والمنشورة بالجريدة الرسمية" (الفصل 327.39).

    ومعلوم أنه في إطار القانون الدولي تدخل زمرة الإتفاقيات ذات الطابع الـدولي، كـل مـا يصدق عليه البلد من إتفاقيات ومواثيق دولية سواء أكانت متعددة الأطراف وأبرمت فـي الهيئة العامة للأمم المتحدة أو أحد فروعها وأجهزتها المتخصصة، أو أبرمت فقـط فـي نطـاق إقليمي أو قاري، وحتى تلك المبرمة ثنائياً بين دولتين.

    يعتبر التحكيم دولياً حسب المدلول القانوني:

   التحكيم الذي يتعلق بمصالح التجارة الدولية ويكون لأحد أطرافه على الأقل موطن أو مقـر في الخارج.

    وبداية يطرح تساؤل عن الصياغة التي جاء بها هـذا التعريـف، إذ إسـتعمل الـنص واو العطف، دون استعمال فاصل بين الشرطين.

   والتساؤل يجد مشروعيته في عطف الشق الأول من الشرط على شقه الثـانـي بـواو ودون فاصل لتوحي الصياغة النحوية والبلاغية بأن الشرطين متلازمان، ولا يغني أحدهما عن وجود الآخر، أي يتعين أن يمس التحكيم أولاً بمصالح تجارية دولية وأن يكون لأحد أطرافه على الأقل موطن أو مقر في الخارج.

    ثانياً: ويترتب على الأخذ بهذا المنحى أن تخلف أحد هذين الشرطين يؤدي إلى نزع صـفة الدولية عن التحكيم، وتوافر أحدهما لا يغني عن وجود الآخر.

     إلا أن هذا التدقيق اللغوي قد إنحرف عنه النص، لأنه أورد مباشرة تعريفاً أشمل لما يعتبـ في حكم القانون، تحكيماً دولياً بقوله:

   يعتبر التحكيم دولياً إذا:

    1- كان لأطراف إتفاق التحكيم وقت إبرام هذا الإتفاق مؤسسات بدول مختلفة؛

   2- أو كان أحد الأمكنة التالي بيانها واقعاً خارج الدولة الموجودة بها مؤسسات الأطراف:

     أ- مكان التحكيم عندما يكون منصوصا عليه في إتفاق التحكيم أو معيناً بمقتضى هذا و الإتفاق.

ب- كل مكان يجب أن ينفذ فيه جزء مهم من الإلتزامات المترتبة على العلاقة التجارية أو المكان الذي تربطه أكثر بموضوع النزاع صلة وثيقة.

3- أو كانت الأطراف متفقة صراحة على أن موضوع إتفاق التحكيم يهم أكثر من بلد.

    وهذا يؤاخذ على النص، ما أثاره من لبس، وذلك عندما أورد تعريفاً عاماً وشاملاً لما بعـد من زمرة التحكيم الدولية في فقرة أولى عاطفاً شرط تعلق النزاع موضـوع التحكـيم بمـصالح التجارة الدولية، على شرط تواجد موطن او مقر أحد أطرافه أي: أطراف النزاع، بالخارج.

    وفي فقرة ثانية من ذات الفصل 327.40 فصل القول تفصيلاً، وبإسـهاب، حـول دوليـة التحكيم بالإعتماد فقط على إنتماء أطراف الإتفاق إلى دول مختلفة، سواء تعلق الأمـر بمجـرد توافر أحد الأطراف على مؤسسة أو مؤسسات بدول مختلفة، أو كان مكان التحكيم، أو مكان تنفيذ العقد التجاري خارج الدولة الموجودة بها مؤسسات الأطراف.

   ويزيد النص إبهاماً عندما أشار في فقرة مستقلة إلى ما يلي:

  3. أو كان الأطراف متفقون صراحة على أن موضوع إتفاق التحكيم يهم أكثر من بلد.

    وهنا يتبين أنه لإضفاء صفة الدولية على تحكيم ما، يكفي أن يتفق أطرافه على أنه يهم أكثر من بلد، فالإتفاق ها هنا ينشئ وضعاً قانونياً متميزاً، يغني عن البحث في باقي المعايير الأخرى.

    وفي نفس التسلسل المنطقي للأمور، إذا قال الأطراف بأن الأمر يتعلق بتحكيم يهم أكثر من بلد، وضمنوا ذلك إتفاقهم، صدقوا في ما قالوا.

    ويقول أحد المحللين للنص موضوع الدراسة، أنه للتمييز بين التحكيم الداخلي والتحكـيم الدولي، هناك مقياسان للتعريف معتمدان:

   - مقياس يسميه البعض "عناصر أجنبية في العقد" ويسميه البعض الآخر "مقياسـاً جغرافيـاً تتعدد فيه الجنسيات ومحلات الإقامة".

   - مقياس "مصالح التجارة الدولية" ويسميه البعض "المعيار الإقتصادي".

     وواضح أن النص المغربي قد جمع بين المقياسين الجغرافي والإقتصادي، لإضـفاء صـفة الدولية على التحكيم ومن هنا جاء مصدر الإلتباس، وحبذا لو سار على ما سارت عليـه أغلـب القوانين المقارنة كالقانون الفرنسي الذي أخذ بأحد المقياسـين دون الآخـر، إلا وهـو المقيـاس الإقتصادي المعتمد من طرف أغلب دول العالم حالياً.

الفقرة الثانية: الإجراءات المسطرية:

    يمكن لإتفاق التحكيم أن يحدد مباشرة، أو إستناداً إلى نظام التحكيم، المسطرة الواجب إتباعها خلال سير التحكيم (الفصل 42-327) كما لإتفاق التحكيم إخضاعه لقانون المسطرة المحددة فيه.

   وحرية المحتكمين ها هنا، جدا واسعة في إختيار القواعد الإجرائية التي تسير عليها مسطرة التحكيم، فلهم أن يختاروا قواعد لا صلة لها بأي نظام محدد شريطة أن تحترم المبادئ الأساسية في كل محاكمة عادلة، ولهم أيضاً أن يستندوا إلى قانون مرجعي، وفي هذه الحالة يتوجب علـى الهيئة التقيد بالمقتضيات الواردة وعدم الإخلال بها، لأن من شأن ذلك أن يرتب بطلان القـرار، كما سوف نرى.

   وصورة ثانية لم يتطرق إليها المشرع، وهي حالة محاولة التوفيق بين عدة قوانين مرجعية، وإستنباط قواعد إجرائية منها جميعاً تلائم التحكيم التجاري الدولي.

    لا نعتقد أن محاولة الجمع بين نظامين للتحكيم أو أكثر، بغية التوفيق بينهمـا وإستخلاص قواعد حصرية من كل منهما صالحة للتطبيق، فيه أي ضرر، شريطة عدم الجمع بين متناقضين أو متعارضين، مع محاولة الأخذ بالمقتضيات الإيجابية من كل نظام ونبذ مقتضياته السلبية إن وجدت، على أن تهيمن على هذا الإنتفاء روح المحافظة على المبادئ الأساسية الواجب إحترامها في كل محاكمة عادلة، أي الإبتعاد على كل تلفيق، ومعلوم أنه إذا أغفـل الأطـراف إختيـار القواعد المسطرية الواجبة التطبيق، فإن هذا الإختيار ينتقل إلى الهيئة وبنفس الشروط والحدود.

    ومن الناحية العملية، قلما يعمد الأطراف أو الهيئة إلى رسم قواعد مسطرية خاصـة، بـل الأغلب الأعم هو الركون إلى نظام قائم يسهل الرجوع اليه، وهي ضمانة لعدم تعريض القرار التحكيمي للبطلان إستنادا على الفقرة الأخيرة من الفصل 49-327.

الفقرة الثالثة: القواعد الموضوعية:

   تحدد بكل حرية، في إتفاق التحكيم القواعد القانونية التي يتعـيـن علـى الهيئـة التحكيميـة تطبيقها، تفصل في النزاع طبقا للقواعد التي تراها ملائمة.

    إن هذه الميزة وحدها تكفي، للقول ببداية ظهور نظام تحكيم دولي، يكون فيه الأطراف وكذا الهيئة متحررين من قيود كل التشريعات الوضعية، مهما كان مصدرها، وكذا قوة إنتشارها .

   وفي إعتقادنا، هذا هو الطريق الصحيح نحو عولمة القاعدة القانونية، القـادرة علـى ضـبط ومسايرة عولمة الإقتصاد، فالقواعد الوطنية مهما أوتيت من دقة وإحكام، لن تستطيع مسايرة ركب تطور التجارة الدولية بما يستجد فيها كل لحظة من مستجدات. فمجال التجارة الإلكترونية الدوليـة الآن E-Business ومجال التبادل المالي E-Finance، مما تثيره كل رمشة عين مـن إشـكالات عبر حدود الدول، لا يمكن بحال أن يستوعبه أي نظام قانوني بمفرده، مهما كانت درجة تطوره.

    لذا أصبح التحكيم التجاري الدولي، تحكيماً أصيلاً للفصل في المنازعات الدولية التجاريـة، بعيداً عن النصوص القانونية القاصرة، والتي شرعت منذ البداية لتحكم العلاقات الداخليـة بـين الأفراد، هذه العلاقات التي تتسم بنوع من الإستقرار والثبات، عكس ما عليه الأمر بالنسبة للتجارة الإفتراضية، إذ تتغير مراكز الأطراف الحقوقية بمجرد لمسة خفيفة على أزرار الحاسوب، ويـتم ذلك من أقصى الأرض إلى أقصاها، وفي ذات الوقت Temps reel.

    ولحصر حرية الأطراف في إختيار قانون الموضوع لا بد من التطرق إلى إرادتهـم هـذه الصريحة أولا، ثم إرادتهم الضمنية أو المفترضة ثانياً.

أولاً- إرادة الأطراف الصريحة:

   مبدأ حرية الإرادة هذا تم إستنباطه من الإتفاقات الدولية، إذ نصت إتفاقية جنيف بخـصوص التحكيم التجاري الدولي لسنة 1961 في مادتها السابعة على ما يلي:    

   "للأطراف الحرية في تحديد القانون الذي يجب أن يطبقه المحكمون على موضوع النـزاع، وفي حالة غياب إشارة الأطراف إلى القانون الواجب التطبيق فيجب علـى المحكمـين تطبيـق القانون الذي تحدده قاعدة التنازع التي يرونها ملائمة في الحالة المعروضة."

    والمقتضى نفسه أوردته إتفاقية واشنطن المحدثة لمركز التحكيم الخاص بمنازعات الإستثمار بين المستثمرين والدول المضيفة للإستثمار سنة 1965، إذ جاء في مادتها 42 ما يلي:

    تتصدى الهيئة للفصل في المنازعة، وفقاً للقواعد القانونية التي يحددها الأطراف، وإلا فـإن الهيئة تطبق قانون الدولة المتعاقدة الطرف في النزاع، بما فيه من قواعد تنازع القوانين ومبـادئ القانون الدولي.

 ثانياً- إرادة الأطراف الضمنية أو المفترضة:

    إذا لم يعبر الأطراف عن إرادتهم الصريحة لإختيار قانون معين يطبق على موضوع النزاع، فإن المحكم يجد نفسه مضطراً لإستجلاء إرادتهم الضمنية tacite أو المفترضة Hypothétique والمحكـم في نطاق بحثه عن الإرادة الضمنية أو المفترضة للأطراف، يستعين بعدة مؤشرات، منها ما يمكـن أن يطلق عليه إسم المؤشرات العامة، مثل قانون محل إبرام العقد أو قانون محل التنفيـذ، وأخـرى يمكـن إعتبارها مؤشرات خاصة، مثل محل إقامة المتعاقدين، وموضوع العقد الرابط بين الطرفين والذي فـي نطاقه أثيرت المنازعة مكان التحكيم، ومؤدى هذه المؤشرات على إختلاف درجاتها في قوة الإستدلال، إقامة قرينة على إتجاه إرادة الخصوم ولو قدر لهم إختيار مثل هذا القانون صراحة.

   والمشرع المغربي لم يحد عن هذا التوجه، إذ نص في الفقرة الأخيرة من الفصل 44-327 على أنه "في جميع الأحوال، تأخذ الهيئة التحكيمية بعين الإعتبار، مقتضيات العقد الذي يربط بين الأطراف، والأعراف والعادات السائدة في ميدان التجارة".

    وإذا كانت مقتضيات العقد الرابط بين الطرفين هي المعبرة عن إرادتهما المـشتركة، فإنهـا تبقى أهم وسيلة لإستكشاف رغبتهما المشتركة أيضاً في تحديد القانون الموضوعي الذي يرغبـان في إعتماده للفصل في النزاع.

الفقرة الرابعة: الطعن في القرار التحكيمي:

   يكون حكم التحكيم الصادر بالمملكة في مادة التحكيم الدولي قابلا للطعـن بـالبطلان فـي الحالات التالية:  

   1- إذا بتت الهيئة التحكيمية دون إتفاق تحكيم، أو إستناداً إلى إتفاق باطل، أو بعـد إنتهـاء أجل التحكيم؛

   2- إذا تم تشكيل الهيئة التحكيمية، أو تعيين المحكم المنفرد بصفة غير قانونية؛

   3- إذا بنت الهيئة دون التقيد بالمهمة المسندة إليها؛

   4- إذا لم تحترم حقوق الدفاع؛

   5- إذا كان الإعتراف أو التنفيذ مخالفا للنظام العام الدولي أو الوطني (الفصل 51-327).

    وإستناداً إلى النص اعلاه يمكن تقسيم هذه الفقرة بدورها إلى التعريف بطبيعة هـذا الطعـن أولا، ثم إستعراض حالته ثانياً، ومسطرته ثالثاً، وآثاره رابعاً.

أولاً- التعريف بالطعن عن طريق البطلان:

    من القواعد المستقرة أن البطلان هو جزاء يسلط على العقود، وذلك إمـا لإفتقادهـا ركنـاً أساسياً من أركانها أو بسبب نص خاص.

    وعليه، فالبطلان لا يلحق المقررات ذات الطبيعة القضائية حتى لو صدرت عن هيئـة تحكيميـة لأنها ليست بعقود ولا يمكن تشبيهها بها، وقد أطلق مرة أخرى هذا اللفظ في غيـر محلـه الـصحيح، وحبذا لو إستعيض عنه بلفظ الإلغاء مثلاً، لأن العقود قابلة للبطلان، أما القرارات فهي قابلة للإلغاء.

ثانياً- حالات البطلان:

    إكتفي المشرع بالإحالة بخصوص حالات البطلان، على الحالات المنصوص عليهـا فـي الفصل 49-327، وفي إعتقادنا أيضاً تكون هذه الحالات غير دقيقة لسببين:

    أولهما: إن الحالات المنصوص عليها في الفصل 49-327 تتعلق بالحالات الموجبة للطعن بالإستئناف، وهو طعن يختلف إختلافاً جوهرياً عن الطعن بالبطلان، لسبب بسيط هو أن الطعـن بالإستئناف، كما هو متعارف عليه، ينشر النزاع من جديد أمام المرجـع الإستئنافي والقـرار التحكيمي غير قابل أن تنشر وقائعه أمام المرجع الإستئنافي، ويترتب علـى ذلك أن المرجـع الإستئنافي بعد دراسة النازلة من جديد يمكنه أن يؤيد أو يعدل أو يلغي، وهذه كلها أمور محظورة في مجال التحكيم عموماً، وغير متصورة في نطاق التحكيم الدولي على وجه الخصوص.

   ثانيهما: كون الحالة الخامسة المشار إليها بالفصل 49-327 تتعلق بـالإعتراف التحكيمـي وتنفيذه، وهذه مرحلة لاحقة على صدور القرار وإكتسابه قوة الشيء المقضي به، وهي مرحلـة قضائية صرفة.

    وهكذا يلاحظ أن المشرع قد فتح باباً واسعاً في القرار التحكيمي، وذلك في الوقـت الـذي تسعى فيه كل الأنظمة المعاصرة للتحكيم إلى تضييق أسباب وسبل الطعن في القرار، عبر مناعة ذاتية تبعده عن دهاليز المحاكم ومساطرها المعقدة.

ثالثاً- إجراءات الطعن:

   ترفع دعوى البطلان أمام محكمة الإستئناف التي صدر الحكم التحكيمي في دائرتها، يمكـن تقديم هذا الطعن بمجرد صدور حكم التحكيم، ولا يتم قبوله إن لم يقدم داخل أجل خمـسـة عـشر يوما على تبليغ الحكم القابل للتنفيذ (الفصل 52-327).

    وبالرجوع إلى الفصل أعلاه يلاحظ أنه قد حدد أجلا لقبول الطعن، كما حدد المحكمة الواجب تقديم الطعن أمامها.

1- أجل تقديم الطعن:

   حدد المشرع أجل (15 يوماً) إبتداء من تاريخ تبليغ الحكم القابل للتنفيذ، بمعنى أن القـرار التحكيمي بعد أن يكتسي الصيغة التنفيذية يتعين أن يبلغ إلى الطرف المحكوم عليه، ومن تـاريخ هذا التبليغ يبدأ سريان أجل 15 يوماً.

    ولا يعتقد أن نية واضعي النص قد إنصرفت في هذا الإتجاه، لسبب وحيد، وهو أنـه بعـد صدور الأمر القضائي بإعطاء الصيغة التنفيذية للمقرر التحكيمي لا يحق للأطراف بتاتاً الرجعـة إلى الوراء للطعن في المقرر التحكيمي الذي يكون قد حاز قوة الشيء المقضي به، إذ لا يمكـن قبول طلب إضفاء الصيغة التنفيذية، إلا في حق المقررات النهائية والتي لا معقب عليها (المـادة 431 من قانون المسطرة المدنية المغربي) وما دام إعمال كلام المشرع خير من إهماله، فالتفسير الأقرب للصواب هو أن المقرر الذي يبلغ الى الأطراف هو ذاك المقرر الذي حاز قـوة الـشـيء المقضي به، وأصبح قابلاً لطلب إعطائه الصيغة التنفيذية، وليس الحكم القابل للتنفيـذ، لأن هـذا الأخير لا يصبح كذلك، إلا بعد إعطائه الصيغة التنفيذية لا قبلها.

2- المحكمة التي يرفع الطعن أمامها:

   يرفع الطعن أمام محكمة الإستئناف ذات الإختصاص المكاني بالنظر الـى مـكـان صـدور المقرر التحكيمي.

الفقرة الخامسة: الإعتراف بالمقرر التحكيمي:

ملاحظة أولى:

   نص المشرع على مسطرة الإعتراف بالمقرر التحكيمي الدولي في صلب القـانـون المـنظم للتحكيم، وهذه حسنة تحسب لفائدته، إلا أنه أغفل الإحالة على النصوص المسطرية الواجبـة التطبيق لإستصدار الأمر بالإعتراف، وهذه نقطة ضعف أولى، كما أنه تطرق للإعتـراف قبـل التطرق لأوجه الطعن في المقرر التحكيمي، وهذه شائبة من شوائب تقنيات التشريع، إذ التسلـسل المنطقي والعملي للأمور، يستوجب أن يستنفذ المقرر التحكيمي كافة أوجه الطعـن المنـصوص عليها قانونا ليصبح قابلا للتنفيذ، وليس العكس؛ وقد حاولنا في هذه العجالة أن نتدارك ما أغفلـه النص، وذلك بتأجيل الحديث عن الإعتراف بالمقرر التحكيمي، إلى حين الإنتهاء مـن مـسطرة الطعن في المقرر التحكيمي.

    وعليه، فقد تطرق النص إلى مسطرة الإعتراف بالمقرر التحكيمي الدولي إبتداء من الفصل 327.46 إلى الفصل 327.50 بإدخال الغايتين. وسوف نتبع النص في تسلـسله، بعـد التطـرق للإطار القانوني للإعتراف. ثم بعد ذلك شروط قبول طلب الإعتـراف، لنعـرج علـى الجهـة المختصة للنظر في الطلب، مستعرضين حدود إختصاصها، وفي الأخير طرق الطعن ضد الأمر الصادر بإعتراف، وكل هذا في نبذ متسلسلة.

النبذة الأولى: الإطار القانوني لمسطرة الإعتراف:

    إقتصر الفصل 327.46 على القول بأنه يعترف بالأحكام التحكيمية الدولية في المملكـة، إذا أثبت وجودها من يتمسك بها، ولم يكن هذا الإعتراف مخالفاً للنظام العام الوطني والدولي.

    وقد كان على واضعي النص الإشارة إلى الإطار القانوني الذي تتم فيه هذه المسطرة، وهي الفصول من 430 إلى 432 من قانون المسطرة المدنية المغربي.

  فالفصل 430 جاء فيه:

    "لا تنفذ في المغرب الأحكام الصادرة عن المحاكم الأجنبية، إلا بعد تذييلها بالصيغة التنفيذية من طرف المحكمة الإبتدائية لموطن أو إقامة المدعى عليه أو لمكان التنفيذ عند عدم وجودهما.

    يجب على المحكمة التي يقدم إليها الطلب أن تتأكد من صحة الحكم وإختـصاص المحكمـة الأجنبية التي أصدرته، وأن تتحقق أيضاً من عدم مخالفة أي محتوى من محتوياته للنظام العـام المغربي".

    أما الفصل 327.46 المتعلق بالإعتراف بالأحكام التحكيمية الدولية في المملكة فقد نص على أنه يتم الإعتراف بهذه الأحكام إذا أثبت وجودها من يتمسك بها، ولم يكن هذا الإعتراف مخالفـاً للنظام العام الوطني والدولي.

    فإذا كان النص القديم المعمول به للإعتراف بالأحكام الأجنبية عموماً لا يشترط إلا مطابقـة الحكم موضوع الطلب للنظام العام الوطني أو الداخلي، فإن النص الحديث قد أضاف قيداً جديـداً هو مطابقة المقرر التحكيمي الدولي للنظام العام الدولي.

    ومعلوم أن الحديث عن النظامين العامين سواء الداخلي أو الدولي قد يطول بما لا يتلاءم مع طبيعة هذه الورقة53، إلا أنه وجب التأكيد منذ الآن، على أن مفهوم النظام العام الدولي يتغير على الدوام عكس مفهوم النظام العام الداخلي، ومن أهم سماته الثبات والإستقرار. وعليـه، فمفهـوم النظام العام الدولي يتأثر ويتفاعل سلباً وإيجاباً بالأحداث الكبرى التي يعرفها المجتمـع الـدولي، وتحدث تغيراً ملموساً في النظام الدولي، ويكفي أن نستدل على ذلك بحدثين كونيين مهمين:

     أولهما: إحداث منظمة التجارة العالمية، وذلك بمقتضى إتفاقية الكات GAT الموقع عليهـا بمراكش سنة 1994.

     ثانيهما: أحداث الحادي عشر من شتنبر، يوم الهجوم على مركز التجارة الدولي بنيويورك، وما ترتب عليه من تبعات.

    فالحدث الأول إيجابي وسار، أدخل على منظومة التجارة الدولية تغييراً جوهريـاً حداً فاصلاً بین حقبتين تاريخيتين للتبادل التجاري الدولي، حقبة ما قبل إتفاقية الكات وحقبة مـا بعد إتفاقية الكات.

   أما الحدث الثاني فهو حدث سلبي، إلا أنه بدوره وضع تصوراً جديداً لمفهوم النظـام العـام الدولي حسب المنظور الأمريكي الغربي لمحاربة الإرهاب الدولي، وإقرار مفهوم نظام عام دولي جدید .

نبذة ثانية: شروط قبول طلب الطعن في الإعتراف:

   إقتصر الفصل 327.47 على أنه يثبت وجود الحكم التحكيمي بالإدلاء بأصله مرفقاً بإتفـاق التحكيم أو نسخ من هاتين الوثيقتين تتوافر فيها شروط الصحة المطلوبة.

    وبالنظر لأهمية هذه المسطرة، التي سوف تضفي على المقرر قوته التنفيذية، كان لزاماً على المشرع ان يبسط على الأقل شروط الصحة المطلوبة، أو أن يحيل الطالـب علـى النـصوص المرجعية التي تمكنه من إستنباط هذه الشروط وما دام لم يفعل، فإنه يتعين الرجوع إلى القـانون الإطار وهو الفصل 431 من قانون المسطرة المدنية إذا جاء فيه:

   يقدم الطلب – إلا إذا نصت مقتضيات مخالفة في الإتفاقيات الدبلوماسية على غيـر ذلـك - بمقال يرفق بما يلي:

  • نسخة رسمية من الحكم،

  • أصل التبليغ أو كل وثيقة أخرى تقوم مقامه؛

  • شهادة من كتابة الضبط المختصة تشهد بعدم التعرض والإستئناف والطعن والنقض،

  • ترجمة تامة إلى اللغة العربية عند الإقتضاء للمستندات المشار إليها أعلاه مصدق علـى صحتها من طرف ترجمان محلف.

   وبخصوص طلب الإعتراف بالمقرر التحكيمي الدولي، فإن تطبيق مقتضيات الفصل أعلاه لا يثير إشكالاً بالنسبة للشرطين الأول والأخير، بينما تثار صعوبات مسطرية بخصوص الـشرطين الثاني والثالث.

أولاً- بخصوص وثيقة التبليغ:

   لا بد من الرجوع إلى ما سبق بسطه عند الحديث عن أجل تقديم الطعـن فـي المقـرر التحكيمي، وما قلناه بأن المقصود بالمقرر التحكيمي الذي يبلغ هو ذاك المقرر الذي أصبح قـابلاً لإضفاء الصيغة التنفيذية عليه، وليس المقرر القابل للتنفيذ، كما تم التنصيص على ذلك في صلب الفصل 327.52، لأن المقرر لا يصبح قابلاً للتنفيذ، إلا بعد الإعتراف به بمقتضى حكم قضائي.

   ولا بد أيضاً من التساؤل عن طبيعة ومصدر وثيقة التبليغ هذه، وهل يكتفى بإجراءات التبليغ التي تمت داخل تراب الدولة التي يقطن فيها الطرف المحكوم عليه، أو يتطلب حـصول التبليـغ بمعرفة السلطات القضائية المغربية؟ وهل يشترط في التبليغ الأجنبي ما يشترط لصحة التبليـغ الوطني؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتوارد إلى ذهن كـل متخـصص وتـؤرق بـال كـل ممارس.

 ثانياً- بخصوص وثيقة تشهد بعدم التعرض والإستئناف والنقض:

   في إعتقادنا ما كان على المشرع أن يغفل الحديث عن هذه الوثيقة على الأقل عند تعرضـه لثبوت حكم التحكيم في إطار الفصل 327.47، لأنها وثيقة حاسـمة للقـول بإكتساب المقـرر التحكيمي لقوة الشيء المقضي به وإستنفاذه كل طرق الطعن المضمنة بها؛ أو شـموله كليـاً أو جزئياً بالنفاذ المعجل إذا كانت هذه الإمكانية متاحة قانوناً للمحكمين.

    وما دام المشرع قد سكت، فإنه يتعين الرجوع إلى الشهادة المشار إليها في الفصل 431 من قانون المسطرة أعلاه، والتي لا يمكن الركون إليها لسبب بسيط، وهو عدم قابلية المقرر التحكيمي الدولي لا للتعرض ولا الإستئناف، بل لا يقبل الطعن إلا بالبطلان، ومن ثم فإن الإدلاء بالوثيقـة أعلاه من عدمه غير منتج في المسطرة القضائية وحتى الإدلاء بها يـأتي مـن بـاب تحـصيل الحاصل، إذ يمكن لكل كاتب ضبط أن يسلم لأي طالب شهادة بعدم التعرض والإستئناف لمقـرر تحكيمي دولي، مشيراً في آخر إشهاده إلى أن هذا المقرر غير قابل للطعنـيـن أعـلاه، وتكـون الشهادة صحيحة قانوناً، إلا أنها غير منتجة وهي والعدم سواء.

    فالمطلوب إذن، أن تتأكد الهيئة القضائية التي تبت طلب الإعتراف من عدم وجـود طعـن بالبطلان، ويتعين على الجهة المختصة أن تشهد صراحة على عدم الطعن بالبطلان لا بالتعرض والإستئناف.

ثالثاً- الجهة المختصة للنظر في طلب الإعتراف:

   ميز المشرع عن حق، بين إجراءات التحكيم التي تمت داخـل المغـرب، وبـيـن القـرار التحكيمي الدولي الذي سينفذ في الخارج.

1- المقرر التحكيمي الصادر داخل المغرب :

    اسند المشرع المغربي الإختصاص لإعطاء الصيغة، لرئيس المحكمة التجارية الذي صـدر القرار التحكيمي داخل دائرة إختصاصه الترابية، وبالنظر لإتساع الـدائرة الترابيـة للمـحـاكم التجارية، حبذا لو سمح المشرع لرؤساء المحاكم الإبتدائية في الدوائر التي لا توجد بها محكمـة تجارية، بإعطاء الصيغة التنفيذية للقرارات التحكيمية الصادرة من داخل دائـرة إختصاصاتهم، وذلك رفعاً للعنت وتقريب القضاء من المحتكمين، وذلك أسوة ببعض المصالح التي أبقى عليهـا داخل المحاكم العادية كمصلحة السجل التجاري مثلاً.

    بالإضافة إلى أن إسناد الإختصاص لرئيس المحكمة التجارية لإعطاء الصيغة التنفيذية لكـل القرارات التحكيمية الدولية قد تدخل عليه بعض الإستثناءات، وتثار بشأنه بعض الملاحظات:  

أ - من حسنات النظام التحكيمي المغربي، أنه منح أشخاص القانون العام (الدولة ومن في حكمها) أهلية الإتفاق على التحكيم سواء داخلياً أم دولياً. وإشترط بالنسبة للنزاعـات المتعلقة بالعقود التي تبرمها الدولة والجماعات المحلية لكي تخضع لمقتضيات المسطرة التحكيمية، مراعاة المقتضيات الخاصة بالمراقبة أو الوصاية المنصوص عليها بمقتضى النصوص التشريعية أو التنظيمية الجاري بها العمل، في ما يخـص العقـود المعينـة (الفقرة الأولى من الفصل 310).

ب - منحت الفقرة الأخيرة من فصل الإختصاص إلى المحكمة الإدارية بالرباط، عندما يكون تنفيذ المقرر التحكيمي يشمل مجموع التراب الوطني، وإلى كل محكمة إدارية في مـا يخص القرارات التحكيمية الصادرة داخل دائرة إختصاصها الترابية .

ج- إن إختصاص المحكمة الإدارية ينعقد لقضاء الموضوع لإعطاء الصيغة التنفيذية، ولا ينعقد لرئيس هذه المحكمة في نطاق سلطاته الولائية.

وأعتقد أن المشرع قد راعى مدى أهمية المقررات التحكيمية ذات الطبيعة الإداريـة، لإرتباطها بإختصاص القانون العام ومساسها بالمرافق العامة الحيوية للدولة، وأحيانـاً بمالية الدولة العامة.

د- ما هي حدود اختصاص رئيس المحكمة التجارية في نطـاق الإعتـراف بـالقرارات التحكيمية الدولية؟

   عملاً بنص المادة 20 من القانون المحدث للمحاكم التجاريـة يمـارس رئيس المحكمـة التجارية، إختصاصات يستمدها من الإختصاصات المسندة إلى رئيس المحكمة الإبتدائية بموجب قانون المسطرة المدنية، وكذا الإختصاصات المخولة له في المادة التجارية.

    والنص يوحي أن كافة الإختصاصات التي كان يمارسها رئيس المحكمة العادية، قد إنتقلـت الى رئيس المحكمة التجارية، لكن في حدود الإختصاصات التي يستمدها من الإختصاص النوعي المسند الى محكمته.

    وهذا التحليل قد يؤدي بنا الى التساؤل عن مدى إختصاص رئيس المحكمـة التجاريـة، إذا عرض أمامه قرار تحكيمي دولي بت مسألة خارج إختصاص المحكمة التجارية، ويدخل قانونـاً ضمن إختصاصات محكمة عادية أو إدارية.

   في رأينا المتواضع، يقتصر نظر الرئيس وهو يبت الطلب في تـوافر الشكليات المتطلبـة قانونا، وعدم مخالفة المقرر للنظام الداخلي والدولي، ولا يمتد نظره إلى صلب النزاع موضـوع التحكيم ولا إعادة تكييفه، وبالتالي يبقى مختصاً ما دام القرار لا يمـس النظـام العـام الـداخلي والدولي، وتوافرت أمامه شكليات قبول طلب إعطاء الصيغة التنفيذية.

   لكن، ما هو الحل إذا كان على الرئيس بت مسألة ما من القرار التحكيمي لها مساس بالنظام العام الداخلي والدولي، وكان عليه بالتبعية أن يحسم في أمر يخرج عن دائرة إختصاص محكمته، كأن يكون أحد طرفي الإتفاق التحكيمي قاصراً أثناء إبرامه الإتفاق، أو أبرم إتفاق التحكيم لفائـدة الشخص العام، من طرف شخص غير مؤهل للقيـام بـذلك، أو خرقـاً للنصوص التشريعية والتنظيمية؟

    ففي هذه الحالة بالذات يتعين على رئيس المحكمة التجارية التصريح بعدم إختصاصه، ليرفع الأمر من جديد أمام رئيس المحكمة المختصة من قبل من له الصفة.

   2- اسند النص الإختصاص الى رئيس المحكمة التجارية التابع لها مكان التنفيـذ إذا كـان مكان التنفيذ في الخارج.

    وكان على المشرع أن يكتفي بالتنصيص على إسناد المهمة الى رئيس المحكمة المختصة مكانياً، أخذا بالإعتبار أن جل الدول لا تعرف تعدد الأنظمة القضائية من عادية وتجارية وإدارية، كالنظام القضائي الصيني مثلاً.

نبذة ثالثة: الطعن في الأمر القضائي:

   ميز المشرع المغربي بين حالتين للطعن في الأمر القضائي.

  • الحالة الأولى: تتعلق بقبول الإعتراف بالقرار التحكيمي.

  • الحالة الثانية: تتعلق برفض طلب الإعتراف.

      وقد خص كل حالة بأحكام وسكت عن الطعن بالنقض، بخصوص القرار الإستئنافي ممـا يوجب التعرض لكل حالة على حدة، ثم بعد ذلك التطرق لآثار الطعن.

 أولا- لا يقبل الطعن بالإستئناف في الأمر القاضي بتخويل الإعتراف أو الصيغة التنفيذية إلا في الحالات التالية:

   1- إذا بنت الهيئة التحكيمية دون إتفاق تحكيم أو إستناداً إلى إتفاق باطل أو بعد إنتهاء أجل التحكيم؛

   2- إذا تم تشكيل الهيئة التحكيمية أو تعيين المحكم المنفرد بصفة غير قانونية؛

    3- إذا بنت الهيئة التحكيمية دون التقيد بالمهمة المسندة إليها؛

    4- إذا لم تحترم حقوق الدفاع؛

    5- إذا كان الإعتراف أو التنفيذ مخالفاً للنظام العام الدولي أو الوطني (327.49).

   وبخصوص هذه الحالة لا بد من إبداء الملاحظات التالية:

    الملاحظة الأولى: يميز النص بين الإعتراف وإعطاء الصيغة التنفيذية، وكأن الأمر يتعلـق بمسطرتين مختلفتين، والحال أن القرار التحكيمي الدولي كي يعترف به لا بـد مـن أن يكتـسي الصيغة التنفيذية.

    الملاحظة الثانية: تمس الشروط الأربعة الأولى القرار التحكيمي من حيث وجوب إسـتناده إلى إتفاق صحيح بين الأطراف، مع إحترام شكليات وشروط تشكيل الهيئة التحكيمية، ومراقبـة إحترام القرار حقوق الدفاع.

    الملاحظة الثالثة: أشار النص إلى أمر هام، وهو إحترام الهيئة حدود المهمة المسندة إليها.

   وقد جرت العادة، على أن مؤسسات التحكيم المتخصصة تسلك دائماً وأبداً سـبيل تحريـر وثيقة يوقعها الأطراف تحدد بدقة متناهية ماهية النزاع المعروض على أنظار المحكمين وهي ما يعرف بسند المهمة Acte de mission، وتصبح هذه الوثيقة هي الفيصل، عند إثـارة منازعـة بخصوص نطاق التحكيم ومداه.

    وحبذا لو إشترط المشرع تحرير هذه الوثيقة بمناسبة التحكيم الداخلي والـدولي، لتكـون مرجعية بالنسبة للمحكمين وحاسمة لكل نزاع محتمل بالنسبة للقضاء.

   الملاحظة الرابعة: أن الشرط الخامس المنصوص عليه في الفصل 327.49 أشـار ضـمن حالات قابلية المقرر التحكيمي للطعن لحالة تتعلق بالأمر ذاتـه القاضـي بـالإعتراف والتنفيـذ ووجوب عدم مخالفته النظام العام الدولي أو الوطني.

    وحبذا لو ميز المشرع في فصلين مستقلين بين الحالات الموجبة للطعن المتعلقـة بـالقرار التحكيمي، وتلك الموجبة للطعن في الأمر القضائي رفعاً لكل التباس.

   الملاحظة الخامسة: أورد المشرع حالات تبرر الطعن في الأمر القاضي بإضفاء الـصيغة التنفيذية، وبعض هذه الحالات كإحترام الحق في الدفاع يمكنها أن تستوعب الكثير مـن الـصور والعديد من التجليات.

   إنما يبقى التساؤل مطروحاً بخصوص طبيعة التعداد الذي أورده المشرع، هل هو على سبيل الحصر أو المثال فقط؟

ثانياً- الطعن في الأمر القضائي القاضي برفض الإعتراف:

   وضع المشرع مبدأ عاماً يقضي بقبول كافة الأوامر القاضية برفض طلب الإعتراف، للطعن بالإستئناف (327.48).

    وحسناً فعل، ذلك أن الأمر القاضي بالرفض يجب أن يكون معللاً، ومحكمة الإستئناف فـي نطاق مراقبتها الأمر القضائي مجبرة على مراجعة تعليلاته وحيثياته وأسبابه، مما يمكنهـا مـن إعتماد ذات العلل، أو تعويضها بعلل أخرى مطابقة للقانون.

ثالثاً- الطعن بالنقض:

    لم يتطرق المشرع الى مسألة الطعن بالنقض فـي القـرار الـذي يـصـدر عـن محكمـة الإستئناف، وهي تبت في صحة الأمر القضائي القاضي سواء بقبول طلب الإعتـراف بـالمقرر التحكيمي أو رفضه، إلا أنه بالرجوع إلى مقتضيات الفصل 327.38 في فقرته الأخيـرة نجـده ينص على أنه:

   "تكون قرارات محكمة الإستئناف الصادرة في مادة التحكيم قابلة للطعن بالنقض طبقا للقواعد العادية".

     ورغم أن هذا الفصل قد ورد في الفرع الأول من القانون المتعلق بالتحكيم الـداخلي، فـإن إعماله أولى من إهماله، لأنه ورد على وجه العموم والإطلاق بإستعماله لفظة "مادة التحكيم" دون تخصيص أو تقييد، ومن ثم وجب أخذ النص على إطلاقه، والقول بقابلية القرار الإستئنافي للطعن بالنقض.

رابعاً- آثار الطعن في الأمر القضائي:

    يوقف أجل تقديم الطعون المنصوص عليها في الفصول 327.48 و327.49 و327.51 تنفيذ الحكم التحكيمي (الفصل 327.53) وواضح أن الأثر الواقف للطعن يسري في الحالات الثلاث الأتية :

  • الحالة الأولى: حالة الطعن في الأمر القاضي برفض إضفاء الصيغة التنفيذية (327.48).

  • الحالة الثانية: حالة الطعن في الأمر القاضي بإضفاء الصيغة التنفيذية (327.49).

  • الحالة الثالثة: حالة الطعن بالبطلان في الحالات المنصوص عليها في الفصل (327.49).