دعا الأستاذ Julian D. M. Lew الى نشر أحكام التحكيم منذ ما يقرب من ثلاثين عامـاً بقوله أن "نشر قرارات التحكيم من شأنه أن يظهر المزايا الحقيقية للتحكيم والمتمثلة في المحكمين المتخصصين والخبراء الذين يعملون على المستوى الدولي.
فإرساء نظام السوابق القضائية للتحكيم سيمنح التحكيم ثقة أكبر مما هي عليه في الوقت الحالي حول مواقف المحكمين المحتملة، وتسهل معرفة وقبول الأوساط التجارية للأعراف التجارية lexmercatoria. ومن المؤكد أنه من خلال ذلك سيتم تجنب العديد من المشاكل المتكررة المعروضة أمام المحكمين. ومن شأن ذلك أيضاً أن يؤثر في الأساليب التفاوضية والقرارات التجارية لرجال الأعمال.
وفوق كل ذلك، فإن النشر المنهجي لقرارات التحكيم سيــــبين أن التحكـيـم لـيـس بـديلاً للمحاكم الوطنية كنظام لتسوية المنازعات فحسب، بل سيثبت بشكل قاطع أنه أنسب محفل لحـل المنازعات الناشئة عن التجارة الدولية".
وفقاً لما هو شائع، يروج أن السمة المميزة للتحكيم هي السرية. فقد سلم كثير من العلماء والفقهاء بصحة هذا الافتراض، وكأنه شيء بديهي لا يحتاج إلى أي إثبات، حتى وإن لم يكن هناك اتفاق محدد بين الأطراف أو حكم قانوني صريح ينصا على ذلك. وعادة لا تحدث مشاكل – أو قد تحدث بنسبة أقل- إذا اتفق الطرفان على واجبات محددة للمحافظة على السرية بشكل مباشر من خلال إضافة بند محدد لذلك في اتفاق التحكيم، أو بشكل غير مباشر من خلال الإحالة إلى قواعد مؤسسات التحكيم التي تتضمن مثل هذه الالتزامات. وعلى العكس من ذلك، يصبح الأمر أكثر تعقيداً في الحالات التي لم يحدد الأطراف فيها أي شروط تتعلق بالمحافظة على السرية.
أولاً- موقف التشريعات العربية من جواز نشر أحكام التحكيم:
تكاد تخلو معظم التشريعات العربية من نصوص قانونية تتعلق بمبدأ الشفافية في التحكـيم. ومن الممكن تقسيم التشريعات العربية إلى ثلاث فئات: الأولى لم تتناول مبـدأ الـسرية، ولكـن حظرت نشر أحكام التحكيم دون موافقة الأطراف، والثانية نصت على مبدأ السرية مـع التأكي على حظر نشر الأحكام، أما الفئة الأخيرة فلم تتناول مبدأ السرية أو نشر أحكام التحكيم، تاركـة الأمر برمته لإرادة الأطراف.
ففي الفئة الأولى، نجد أن المشرع المصري في قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994، علـى أي حكم يتعلق بالالتزام بالسرية أو حتى سرية مداولات هيئة التحكيم. ويلاحـظ أن السرية والإفصاح محكوم باتفاق الأطراف وسلطة هيئة التحكيم تطبيقا لما ورد في المـادة 25. إلا أن القانون نص صراحة على عدم جواز نشر حكم التحكيم أو أجزاء منه إلا بموافقة طرفـي التحكيم.
ونجد الموقف ذاته في نظام التحكيم السعودي الجديد"، الذي اشترط الموافقة الكتابيـة مـن الأطراف لنشر حكم التحكيم أو جزء منه؟. واتبع المشرع العماني النهج ذاته بخصوص السرية ونشر أحكام التحكيم. ولا يختلف موقف المشرع الكويتي عما سبق ذكره.
أما الفئة الثانية، فتشمل التشريعات التي نصت صراحة على مبدأ السرية مع عدم جواز نشر أحكام التحكيم، إلا باتفاق الأطراف. قانون التحكيم السوري لسنة 2008، حيث أفرد في المـادة 29 -3 التزما بسرية جلسات هيئة التحكيم ما لم يتفق الأطراف على عكس ذلك. وفي المـادة 2-36 يوجد نص صريح يتعلق بسرية مداولات هيئة التحكيم. واتبع القانون السوري الـنهج ذاته الوارد في القانون المصري بالنص على عدم جواز نشر أحكام التحكيم أو أجزاء منهـا دون موافقة طرفي التحكيم.
وفي الاتجاه ذاته، نص القانون المغربي على سرية مداولات هيئة التحكيم، مع حظـر نشر أحكام التحكيم أو أجزاء منها دون موافقة طرفي التحكيم". ونجـد فـي القـانون اليمنـي للتحكيم نصاً يقضى بسرية مداولات التحكيم، وعدم جواز نشر حكم التحكيم أو جزء منه إلا بموافقة كتابية من الأطراف.
أما الفئة الثالثة، فتتضمن التشريعات التي لم تعالج مبدأ السرية أو نـشر أحكـام التحكـيم. وترتيباً على ذلك، فإن اتفاق الطرفين هو الأساس القانوني الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليـه لأي قاعدة تتعلق بالسرية. فيمكن للأطراف إدخال السرية أو استبعادها في اتفـاق التحكـيم، سـواء صراحة أو ضمناً. أما في حالة عدم توافر أي شروط في هذا الصدد، فوفقاً للتشريعات السابقة، فإنه لا يمكن افتراض أن التحكيم سري في جوهره.
فعلى سبيل المثال، نجد في قانون التحكيم السوداني لسنة 2005، لم يرد ذكـر الـسرية ، حيث أن سير إجراءات التحكيم يظل متروكاً لاتفاق الأطراف. والحكم نفسه نجده في المادة 42 من قانون التحكيم الأردني، رقم 31 لسنة 2001. أما فـي الجزائـر، فلـم يـتـضمن قـانون المرافعات والتحكيم لعام 2008، أي إشارة للسرية أو نشر أحكام التحكيم. والموقف نفسه نجده أيضاً في القانون التونسي للتحكيم والقانون البحريني للتحكيم التجاري الدولي.
ويعد قانون التحكيم الفلسطيني، رقم 3 لسنة 2000، نموذجاً فريداً من نوعـه فـي إطـار القوانين العربية. فلقد خولت المادة 41 من هذا القانون للمحكمة المختصة- وليس فقط للأطراف- الحق في نشر أحكام التحكيم. ولقد نصت اللائحة التنفيذية لقانون التحكيم الفلسطيني، رقم 39 لسنة 2004، في المادة 68-7، على حق هيئة التحكيم في الرجوع إلى المحكمة المختصة مـن أجل استصدار أمر بنشر قرار التحكيم أو جزء منه في الأحوال المنصوص عليها في القـانون. ولقد أوردت المادة 50 من اللائحة نصاً يفيد بكون الأصل العام في جلسات التحكيم هي أن تكون سرية، إلا إذا اتفق الأطراف على خلاف ذلك.
ونستخلص من ذلك، أن التشريعات العربية في مجملها تنظر الى التحكيم كـأجراء تعاقــدي ينبغي أن يتم في خصوصية وسرية. بمعنى أنه لا يلزم أن يكون العامة على درايـة بـه. فهنـا کافتراض ينظر إلى سرية الإجراءات على أنها أمر مسلم به. فالدول العربية تقف بعيـدة عـن حركة الإصلاح الأوسع التي تعم لصالح تحقيق مبدأ الشفافية في التحكيم بشكل عـام، وتتنــاول أيضاً جوانب أخرى من إجراءات التحكيم. ونعتقد أن هذا الاتجاه لن يدوم طويلاً. فالسرية، أو من الأفضل أن نطلق عليها "السرية المطلقة"، قد صارت "بمثابة الـضحية sacrificial victim أو القربان على مذبح التطوير الصحيح للتحكيم التجاري الدولي في عصر العولمة".
ثانياً- موقف مؤسسات التحكيم العربية من نشر أحكام التحكيم:
إذا تحدثنا عن مؤسسات التحكيم العربية في مجال التحكيم، فلا مناص مـن ذكـر الـدور التاريخي لمركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الـدولي" the Cairo Regional Centre ("for International Commercial Arbitration ("CRCICA كمنظمة دولية مـستقلة لا تهدف للربح، كما يعتبر أقدم مؤسسات التحكيم في الوطن العربي.
وتستند قواعد التحكيم الحالية الى مركز القاهرة، والسارية منذ الأول من مـارس 2011، إلى قواعد تحكيم الأونسيترال الجديدة في صيغتها المعدلة عام 2010. وفـي مـا يتعلـق بمبـدأ السرية، تنص المادة 28-3 على مبدأ سرية جلسات المرافعة الشفهية، إلا إذا اتفق الأطراف على عكس ذلك. ولقد وضعت المادة 40 من القواعد الاطار العام للالتزام بالسرية والـذي يـشمل المستندات المقدمة في النزاع، مداولات هيئة التحكيم. وأخيراً حكم التحكيم الذي لا يجوز نـشره كله أو جزء منه، إلا بموافقة الأطراف.
أما بخصوص مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربي، ومقـره بالبحرين، فلم يتبن نصاً صريحاً بخصوص السرية في التحكيم، إلا أن المادة (22) نصت على أن تكون جلسات المرافعة وسماع الشهود سرية ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك. كما أكدت المادة (31) على سرية مداولات هيئة التحكيم". ولم تتناول قواعد المركز صراحة مسألة نـشـر أحكام التحكيم.
أما المركز الدولي للوساطة والتحكيم بالرباط38، فقد خلا من النص على ما يجيز نشر حكم التحكيم حتى ولو باتفاق الأطراف. وقد تضمنت الفقرة الثالثة المـادة 19 مـن قواعـد التحكـيم الصادرة من المركز ضرورة المحافظة على سرية جلسات التحكيم3. كما أكدت المادة 35 مـن القواعد ذاتها على التزام الأطراف الطبيعة السرية للتحكيم، وضرورة عدم الإفصاح بوجود عملية التحكيم ذاتها أو أي معلومات أو مستندات مطروحة أمام التحكيم. ومع ذلك، سـمحت القواعـد للأطراف بمخالفة الالتزام بالسرية في حال إذا كان حكم التحكيم يتعلق بالشأن العام بسبب عرض المسألة على القضاء أو السلطة المختصة، أو في حال إذا كان هناك نص قـانوني يلـزم أحـد الأطراف بالإفصاح من أجل حماية مصالحه ضد الغير.
كما تقضي أيضاً ذات المادة بالتزام المحكمين وموظفي المركز سرية المستندات والوقـائع المطروحة في النزاع التحكيمي، وأيضاً حكم التحكيم ذاته. إلا أن للمركز الحق في استخدام بعض المعلومات المتعلقة بنزاعات التحكيم في طور أنشطته الإحصائية، وذلـك دون تحديـد أطـراف النزاع أو الظروف المرتبطة بالوقائع المعروضة على التحكيم .
وعلى العكس مما سبق، تنص المادة 14 من القانون رقم 1 لسنة 2008، المتعلق بـالتحكيم أمام محكمة مركز دبي المالي الدولي 4 Dubai International Financial Centre، علـى أن كل المعلومات ذات الصلة بالتحكيم هي معلومات سرية، باستثناء ما يصدر بشأنه أمـر مـن المحكمة. وتناولت المادة 30 من القواعد الإجرائية للمركز، الـصادرة فـي 2008، محتـوى الالتزام بالسرية في التحكيم، ليشمل جلسات الاستماع، كل المستندات أو المعلومات المقدمة مـن الأطراف. وشمل هذا الالتزام بالمحافظة على السرية كلاً من المحكمين وأطراف التحكيم.
ومن الجدير بالذكر، أن قواعد تحكيم مركز دبي المالي لا تسمح بنشر أحكام التحكيم، إلا بعد الحصول على موافقة الأطراف وهيئة التحكيم معاً. وهذا الموقف يختلف عن قواعد مركز قطر الدولي للتوفيق والتحكيم، التي اشترطت فقط موافقة الأطراف قبل نشر حكم التحكيم أو جزء منه، حيث نصت في المادة 41-3 بأن "يتعهد المركز بعدم نشر أي قرار أو حكم تحكيم أو جزء منـه بما يكشف عن شخصية أي من الأطراف بدون الموافقة الكتابية المسبقة من جميع الأطراف".
وعلى المستوى الإقليمي، نجد أن قواعد مركز طهـران الإقليمـي للتحكيم (TRAC) الصادرة في 2005 واللوائح الداخلية للمركز، نصت على المحافظة على سرية إجراءات التحكيم، وسرية النزاع. فتحوي المادة 4 من القواعد التزاماً صريحاً وشاملاً بالمحفاظة على السرية مـن قبل المحكمين، وأطراف النزاع، والمستشارين القانونيين، والخبراء، والأمانة العامة، ومؤسـسة التحكيم. وتحتوي أيضاً المادة 4 من لائحة المركز على التزام صريح وشامل بالمحافظة على السرية من جانب مدير المركز، وأعضاء الأمانة العامة، وهيئة التحكيم.
وعلى ذلك، لم تتناول القواعد الحالية لمعظم مؤسسات التحكيم العربيـة – باسـتثناء مركز دبي المالي- مبدأ السرية في التحكيم، وذلك على عكس مؤسسات التحكيم الأجنبيـة الأخرى.